الأربعاء ٤ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم صبحي فحماوي

البواخر

الأُمَّة التي تفقد وعيها بالماضي، تفقد ذاتها تدريجياً. ميلان كوندايرا.

رحلة سياحية مخفضة. انطلقت الطائرة من نيويورك إلى السويد. بلاد جميلة، ومياه كثيرة، ونظافة وخضرة رائعة. استقبلهم رئيس بلدية ستوكهولم بحفاوة بالغة، وتجول معهم في ساحات البلدية قائلاً:" هل تشاهدون الطراز العربي في معمار مبنى البلدية؟"

شعر جمال بالفخر، وهو العربي الوحيد في المجموعة. وقالت امرأة شقراء تقف إلى جواره: "وهل للعرب طراز معماري، غير الخيمة وجمل الصحراء؟" شعر جمال أنه محاصر، حتى في السويد. لم يرغب ببدء علاقته معها بالتنافر. فضّل أن يغازلها، بدل التصادم معها. فضل أن يكون دبلوماسياً معها.

"عيناك زرقاوان بلون البحر، وشعرك أشقر بلون الأصداف البحرية، وملابسك خضراء، بلون الطحالب البحرية. هل أنت حورية من حوريات البحر؟" أعجبها الإطراء، وأنت تعرف النساء، تذوب الواحدة منهن كالشوكولاتة عند سماعها إطراءً. ضحكت وقالت:

" هذا الغزل لم أسمع به من قبل. أشكرك عليه. اسمي يائيل عوفر. أعمل مديرة مدرسة ثانوية في بروكلن، عمري أربعة وأربعون عاماً. هاجر أهلي من وارسو إلى نيويورك، وها نحن نسكن في بروكلن."

"غير معقول." قال مغازلاً "تبدين وكأنك ابنة أربعة وعشرين ربيعاً، ما كل هذا الجمال؟ إنك ساحرة !" انفرجت أساريرها قائلة:

" من المؤكد إنك لست أمريكياً. فالأمريكان عندنا يحبون الهامبورغر، أكثر من النساء، ويغازلون الدولار، أكثر من حوريات البحر. من أين أنت؟"

" أنا من بلاد طراز العمارة العربية، التي تحدث عنها رئيس البلدية." وهنا ارتعشت المرأة وهو يتابع قوله:" اسمي جمال محمود، أعمل مؤقتاً في نيويورك، تاجر أقمشة."

انكمش غرورها أمامه، وكأن موج البحر قد قذف الحورية، فارتطمت بصخور الشاطئ. كان جمال يبدو وديعاً، تأكل القطة عشاءه. أسمر البشرة، ذو شعر حالك السواد. حاولت يائيل عوفر أن تتمالك نفسها، أمام صدمتها برجل عربي حنطي اللون، وكأن لا شيء يهمها، وقررت تمثيل الدور بأفضل ما يمكن:

" حقيقي! أنت من هناك؟ حدثني إذن عن الأشوريين، وعن البابليين، وعن إيوان كسرى. أحب أن اسمع شيئاً جديداً عن الجنائن المعلقة!"

في اليوم التالي، صعد جمال في الحافلة السياحية، فبحث عن يائيل بين المجموعة، ثم جلس إلى جوارها:

" صباح الخير.كيف أصبحت؟" فوجئت به، ولكنها مضطرة للإجابة الفرائحية، فقالت:" بخير." نظر من خلال الزجاج إلى المدينة وقال:" ربوع ستوكهولم جميلة " فأجابته بغرور:" ريف نيويورك أجمل."

" هل أنت من يهوديات بروكلن؟" تأثرت وارتبكت، ولكنها أعادت توازنها قائلة: "كيف عرفت أنني يهودية؟" ثم كلمت نفسها قائلة:

" إن اليهود معروفون في كل مكان في العالم، وكأن العلامة التجارية مختومة على أنوفهم المعقوفة." ثم استدارت بوجهها نحوه ساخرة:

"ولكن أنفي ليس معقوفاً!" فأجابها باسماً:" عرفتك بكل بساطة، ذلك لأن كل أفراد المجموعة السياحية فرحون ببحار وحدائق وجزر وحضارة السويد، وأنت أهلكتني أمس بأسئلتك حول حمورابي، ونبوخذ نصّر، وكيف اكتشف البابليون العجلة، قبل خمسة آلاف سنة، فخلقوا أساس الصناعة في العالم."

مرّت باخرة في عباب البحر. حاول جمال أن يغير الموضوع، إنه يحب الطبيعة، ومشاهدة تفاصيل معالمها، فسألها قائلاً:

" ماذا تعني لك البواخر يا يائيل؟" فتنهدت وقالت:

"الباخرة تعني لي الهجرة.. البعد.. الخوف.. التشتت، الضياع خلف البحار، أنا أكره البواخر، وأكره طيور اللقلق التي تطير خلفها، باحثة عن سمك يسهل التهامه.. إنها تثير الفزع في ذاكرتي المتعبة. البواخر تنقلنا من بلاد إلى بلاد أخرى. من بلاد الأشوريين، هاجر إبراهيم إلى مصر، ومن مصر أرسلته سارة إلى الجزيرة العربية، حيث وضع أهله في أرض غير ذي زرع، ومن مصر ضرب موسى الماء فانشق البحر الأحمر، ثمَّ تاه شرق مصر، ومن الشرق واجهنا الاندثار، تحت أقدام خيول السبي الصغير بالأشوريين، والسبي الكبير بالرومان، ثمَّ هُجِّرنا إلى الأندلس، وعملنا سكرتاريا للعرب هناك، حتى دالت دولتهم."

تسائل جمال في داخل نفسه:

"هل سبب انهيار الأندلس، هو كون مساعدي ومستشاري الحكام العرب من اليهود، فأشاروا عليهم بما يدمر بنيتهم الاستيراتيجية؟"

تابعت يائيل حديثها:"ومن الأندلس تاه اليهود للمرة السابعة، وتناثروا في كل بقاع الدنيا، وكونوا الاشكناز والسفارديم، ومن أوروبا هاجروا بعد الحربين العالميتين ؛ الأولى والثانية، إلى فلسطين وأمريكا. كل تلك الهجرات، كانت تتم بالسفن والبواخر.البواخر بالنسبة لنا يا جمال سجون متحركة، أشغال شاقة في الهواء الطلق، وفي المواخير.. تنقلنا إلى حيث ألقت. الإنسان يحب أن يلتصق بالأرض، الأرض هي أمُّنا التي ولدنا عليها. نحب أن ننام في حضنها، ونرضع اللبن والعسل من ثدييها. الإنسان لا يحب أن يهاجر ويترك أمه، حتى الذي يموت، فإنه يوصي بأن يدفن في مسقط رأسه، لأنه يحب أن يعود إلى رحم أمه، وينام مطمئناً أن هناك أحداً يرعى استقراه. حتى الموت نحن محرومون منه بهدوء! البواخر تخلعنا من جذورنا، وتعبئُنا، وتشحننا للتصدير! البواخر مقيتة يا جمال!"

لم يكن جمال قادراً على التعبير عن شعوره. ذلك لأنه قرأ في كتاب (كيف تكسب الآخرين) أنه عليك أن تستمع للآخرين، أكثر مما تحدثهم عن نفسك، كان يستمع كثيراً، ولا يعبر عن عمّا في ذاته. كان يعرف أن الله خلق للإنسان أذنين اثنتين، وفم واحد، كي يتحدث نصف ما يسمع من الكلمات، ولذلك لم يقل لـها:

"إنني أكره البواخر مثلك. تلك البواخر التي كان يشاهدها جيل أبي من الفلسطينيين، في مينائي حيفا ويافا، وهي تجلب لـهم المهاجرين اليهود من كل أنحاء الدنيا. كانت البواخر تنزل المجندين وذويهم في ميناء يافا، وكأنها حصان طرواده، المحشو بأسلحة المجندين. كانت بيوض اليهود الهاربين من بطش الأوروبيين، تفقس تحت جلد فلسطين، فتنبت طفيليات (الحامول والهالوك) على الزرع الفلسطيني، فيذبل الزرع، ويذوي، وكثير منه يموت، ولولا حبوب سنبلة فلسطينية تجف، فتملأ الوادي سنابل، فتزهر فلسطين من جديد ببذور زرعها!" لم يقل لها: "إن البواخر بالنسبة للفلسطيني، هي لعنة رياح السموم، القادمة من الغرب إلى سفوح شواطئ فلسطين." لم يقل لها: إنني أيضاً أكره البواخر، التي أفزعت بصفيرها وحمولاتها من المجندين كل غزلان غابة الكرمل، وأطلقت النيران، فاصطادتها، وأكلت لحومها، على طريقة طعام الكبة النيئة!" لم يقل لـها: "إن الأوروبيين شتتوا اليهود، فجاء اليهود بالبواخر ليشتتوا من لم يقتل من الفلسطينيين، ويقعدوا في أرضهم." لم يقل لـها: "إننا لم نؤذكم في أوروبا، حتى تأتوا، وتدمرونا نحن وبلادنا!"

الحافلة السياحية تسير في أحياء استوكهولم، والدليل السياحي لا يصمت. يتكلم ستين كلمة في الدقيقة:

" هذا الحي من البيوت الجميلة الهادئة، كل السكان هنا من الغجر أو النّوَر، فبنت لـهم الدولة بيوتاً جميلة، ويتقاضى كل من لا يعمل منهم، راتباً شهرياً بلا عمل." فكنت تسمع تعليقات أفراد المجموعة السياحية:

"ما أحلى هذه البيوت!" وتقول أمريكية:"ليتني كنت غجرية في السويد"!

ويضيف عجوز غارق في مؤخرة الحافلة:" الناس هنا تعيش في هدوء وطمأنينة.إنسانية. بساطة. فنون جميلة. وسيارات (سكانيا) العملاقة !" فيقول له أمريكي متعصب: عندنا جنرال موتورز أقوى!"
" أنا احب سيارات ساب." تقول واحدة تجلس إلى يسار.

" الحديد والصلب السويدي مميز في العالم." يقول يميني المقعد.

توقف الباص إلى جوار المبنى الذي تمنح فيه جائزة نوبل. كان على شكل قبة سماوية، نصف كرة أرضية بيضاء.اصطف السياح أمام مطعم صغير، مكتوب فوق بابه (فول – فلافل – شاورما – شطائر شرقية). صف طويل. نزلت يائيل من الحافلة، ولم تقف بالدور، بل اتجهت مباشرة إلى صندوق الدفع، وطلبت شطيرة! انزعج أفراد المجموعة المصطفون بالدور. وقال لـها أحد السياح الأمريكان:

"ما هكذا تعلمنا أن نكون حضاريين! اصطفي بالدور! احترمي زملاءك في هذه الرحلة الطويلة !"
زعلت يائيل، ثم بكت قائلة: "أنتم تحقدون عليّ، لأنني سامية.أنتم تعادون السامية !"

هجم أفراد المجموعة عليها لاسترضائها، خائفين من عبارة "معاداة السامية". وانفرطت استقامة الدور، وسدت أنفس السياح، ولم يبق لـهم رغبة بتناول الطعام، وزعل بائع الفلافل، لأنهم قطعوا رزقه، ونصيبه من المبيعات!

كان جمال راغباً في متابعة يائيل، والتحدث معها، والتعرف على أفكارها وشخصيتها، وأهدافها وتطلعاتها، تربيتها ومفاهيمها. مجرد رغبة بمعرفة الآخر. فقال لها:

" أنا أحب العينين الزرقاوين، والبشرة الشقراء، وبصفتي عربي أسمر، فإن عقدة البشرة الشقراء تطاردني، ولذلك تجدينني ألتصق بك، وأسير معك. إنها نزهة سياحية جميلة، وقت للّهو يا يائيل!"
كان يجلس إلى جوارها في مقعد الحافلة، ويسير معها في أماكن التنزه، ويتحاور معها في أي موضوع:"هل أنت متزوجة يا يائيل؟"

"طبعاً متزوجة، ولدي ولدان، يدرسان القضاء في نيويورك."

"ما هي طموحاتك تجاههما؟"

"أتمنى أن يتخرجا، فيهاجران إلى إسرائيل. يجب أن تقوم إسرائيل الكبرى يا جمال!"

"أصارحك القول يا يائيل، إنني أخاف على أطفالكم، على أجيالكم القادمة، فأنتم تنقلونهم برعاية مضللة، من أوروبا وأمريكا الجميلتين، إلى أرض اللبن والعسل في فلسطين، فيكتشفون أنها أرض المتفجرات والقنابل! أنا لا أفهم كيف تنقلون أجيالكم القادمة، من هذه البلاد الساحرة الجمال، الغزيرة الأموال، إلى أرض ليست لكم، وليست كما يصفونها لكم! تضعونهم في فم مليار ونصف مليار مسلم، في الشرق الكبير الذي تتحدثون عنه! تستسهلون الأمر في البداية، ولكن دخول الحمّام، ليس مثل الخروج منه! تقتلون الفلسطينيين والعرب والمسلمين هناك، فيقتلونكم. يبدو أن فيكم جينات الهجرة، فكما ذكرت لي: إنكم قد هاجرتم ثمان مرات، خلال ثلاثة آلاف سنة، بينما بقي اليونان والرومان والعرب والألمان، والصينيون واليابانيون والهنود، قابعون في أراضيهم، ولم يهاجروا منها، منذ ذلك الحين.ألا تلاحظين معي، أن مواصفات شخصيتكم غير هادئة، وخارطة خلاياكم الوراثية فيها جينات محفزة للتنقل، ولا تعرف القعود! ولا تستطيع الاستقرار حيث تنشده، شخصية قلقة، دائمة الهجرة؟ ترى لماذا هاجرتم ثمان هجرات تاريخية؟ وإلى أين ستكون هجرتكم التاسعة بعد فلسطين؟" ثارت يائيل وهي تقول:

"لا تقل فلسطين! إنها إسرائيل. ولن تكون بعد إسرائيل هجرة أخرى.إنها آخر مراحل التاريخ!" ضحك جمال ثم قال لها:

"لقد قال ماركس وإنجلز: إن الشيوعية هي آخر مراحل التاريخ، وها هي الشيوعية تنهار، وتعود الرأسمالية، أشرس مما كانت عليه في السابق! يا يائيل، لا يوجد شيء اسمه آخر مراحل التاريخ، فالتاريخ كالكرة الأرضية، دائم الحركة، وأنتم من طبيعتكم الحركة، ترى أين سيكون الرحيل القادم بعد فلسطين؟"

"لن نرحل هذه المرّة، لقد استفدنا من خبرات ثلاثة آلاف عام من الهجرة والكبت.لا تستهين بنا يا جمال، لن يعود أحد قادراً على أن يدوس على هذا الزمبرك اليهودي بعد ثلاثة آلاف عام من الكبت! نحن نتملك الآن رأس المال الأقوى في العالم، ونتملك السلطة."

"ولكن روجيه جارودي قال: إن رأس المال لن يستمر، لأنه لا يحقق الروح الإنسانية للذات البشرية، وسينهار كما انهارت الشيوعية، وأن لا نظام يحقق العدالة الإنسانية سوى الإسلام، الذي يقول: (الملك لله، وليس لصاحب رأس المال.) في يوم من الأيام، سينقلب التاريخ، ولن تبقى أمريكا تحميكم، انظري يا يائيل إلى اسكندنافيا، التي نحن فيها الآن، بالأمس كانت جزءاً من الإمبراطورية البريطانية العظمى، التي لا تغرب عنها الشمس، من أستراليا وحتى أمريكا، تاريخ لم تحلم به حتى أمريكا العظمى، والآن تغير الزمان، ودارت الأيام، فغربت الشمس عنها، وتغير كل شيء، نحن ساميون مثلكم. وأنتم لا تستطيعون أن تزاودوا علينا بالسامية، لقد انصهر التتار الذين غزوا بغداد في البوتقة الإسلامية، فصاروا هم المغول الذين حملوا الراية، لنشر الإسلام في الهند. وارتد الصليبيون عن بلاد العرب، بعدما تأكدوا أن حياتهم في الصحاري العربية مهزلة. لماذا لا تعودوا إلى بولندا، وروسيا وأمريكا الجميلات، فتتلذذون بالدولارات، وتشبعون غريزة شهوة النقود لديكم؟"

أدهشتها أفكاره، فازداد انتباهها لحديثه المخيف وهو يقول:

"تصوري أنه إذا تفوه أوروبي بكلمة نابية هناك، أو تمييز عنصري ضدكم، أو رفض فكرة الهولوكوست، فإنه يسجن ويعذب، فتعيشون أنتم هناك في نعيم! بينما أنتم هنا تقتلون الفلسطينيين، فيقتلونكم، وكلا الفعلين تدمير للشخصية اليهودية التي تتعلم صناعة القتل، بدل أن تتعلم صناعة المجوهرات ! لا نريد لأبنائكم أن يتشربوا القتل في عروقهم، لا نريد لكم أن تربوا جيلاً من القتلة! علموهم الطب والهندسة وعلوم الفضاء، ما دامت الظروف متاحة لكم في كل مكان من العالم. أليس ذلك أبهى وأجمل، وأغنى مالاً؟"

صارت يائيل تحلم كل ليلة بجمال، خائفة أن يطلع لـها من تحت الأرض، ويدخل غرفة نومها، فيتجول بهدوء مخيف، ويرفع غطاء فراشها، فتصحو مذعورة ! ثم تدرك أنها في حلم، وليس علم، فتعود لنومها من جديد!

بدأت تفكر بجمال، وبأفكاره الخطيرة التي يطرحها! أخذت تعيد حساباتها. ترى ما الداعي لـهذه المهزلة ! راحت تسأل نفسها:

  صحيح ما يقوله هذا العربي المجنون! وما يردده طوال اليوم على رأسي، كالأسطوانة المشروخة ؛

"من الأفضل لكم أن تتزلجوا على ثلوج جبال الألب، وتتزحلقوا على مياه بحيرات السويد، من أن تقدموا أنفسكم كدروع بشرية لزحف تحكم رأس المال الغربي في الشرق.. هؤلاء الغربيون يستخدمونكم كدروع بشرية، لتحقيق أهدافهم التوسعية. فمثلما استخدم لورنس، العرب بدل الإنجليز لمحاربة الأتراك، فالغربيون يستخدمونكم بدلاً عنهم لمحاربة مسلمي ومسيحيي العرب في الشرق. إنها لعبة قذرة !"

حديث هذا العربي المجنون بدأ يدخل دماغي. لا بد من الاستقرار في بلادنا. قد نكون مخطئين في تصرفاتنا.هؤلاء العرب من طبيعة صحراوية. فعلاً، عندما أشاهد النشرة الإخبارية بالتلفاز، تكون الكرة الأرضية كلها خضراء، ما عدا البلاد العربية، فكلها صفراء صحراوية. إنهم جزء من الصورة، جزء من الصحراء، بما فيها السحالي والصبارات والصنوبر والدفلى والتين والزيتون.. إنهم كالجمال الصحراوية، يصبرون، وهذا سبب بقائهم، وأما أبناؤنا، أبناء الذهب والمجوهرات، فكيف ننقلهم من براغ وفيينا وموسكو ونيويورك، ونزرعهم في صحاري متفجرة! خدعونا فقالوا إنها أرض اللبن والعسل، دخلناها فلم نجد فيها غير الدم والدموع التي لا تنتهي، وكثبان رملية متحركة، ليس فيها مياه ! يتحلقون حولك في رقصة يسمونها الدبكة، ويرقصون ويدورون، ثم يدورون ويدورون، وهم يتضاحكون، بينما أنا أشعر بالدوار، دوار البحر. لا بل دوار الصحراء! معدتي زائفة، أقذف الطعام المتحجر في معدتي !

وفي الصباح الأخير للرحلة، سألها جمال، وهو يجلس إلى جوارها في الحافلة السياحية:" ألن تشعري بالغربة، بعيداً عن ولديك الذين بعد تخرجهما من الجامعة، ستهجِّرينهما من أحضانك في بروكلين، إلى فلسطين؟" فأجابت منفعلة: " لا أبداً ! بالتأكيد، سوف أبقيهم إلى جواري! لقد سئمت غربة البواخر! ولن أبحث بعد اليوم عن مقر جديد. لقد اشتقت إلى بروكلين!"

الأُمَّة التي تفقد وعيها بالماضي، تفقد ذاتها تدريجياً. ميلان كوندايرا.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى