الأربعاء ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم إبراهيم ياسين

في عالم آخر

في مقهى من مقاهي وسط المدينة... المدينة التي لا اسم لها ولا رسم، لا ملامح ولا معالم، جلست، وبعد أن انتظرت لحظات هذا النادل البئيس، بدأت التأمل... المتسولون كثيرون؛ من حيث العدد، وكثيرون من حيث الصفات: نساء، أطفال، شيوخ، "شماكرية"، معوقون... ألوان مختلفة: أسود أبيض أسمر... أشكالهم متنوعة: طويل، قصير، متوسط، وشكل رابع لا هو هذا ولا هو ذاك، لا هو بالقصير ولا هو بالطويل... نصف جسم، يسير أو يزحف يمسح الطوار بعجيزته، يتحرك حركة لا تعرف اليأس والقنوط، لا يستسلم ولا يمل... عجوز تجلس على الطوار تفرش قطعة " كرتون "، تلتفت يمينا وشمالا... لا تفلت أحدا إلا وأشارت إليه بيدها آملة أن تجود يد هنا أو يد هناك... ما أكثر من يرفعون أيديهم ويخفضونها، كناية عن: " الله غالب "... في البداية كان المتسول إذا ألح إلحاحا، سمع عبارات يتناقلها الخلف عن السلف: الله يساهل... بحالي بحالك... أو تتخذ شكلا استهزائيا: ما فايتك غير بطجاكيطا أو عبارة ماسوﯕرت ليك والو... ومع توالي الأيام وتكاثر المتسولين بدأ الزبناء أو من يفترض فيهم أن يكونوا زبناء لهؤلاء المحترفين... هؤلاء الذين اختاروا مهنة لا تقل عن المهن الأخرى دخلا كما لا تخلو من متاعب ـ كما يزعم أصحابها... بدأ الزبناء يشيرون بأيديهم ولا أحد منهم يجيب، ما جدوى أن تجيب ألف متسول؟ وما جدوى أن تلومهم أو حتى أن تنصحهم... ما أكثر ما لا جدوى منه...في هذه المدينة، مدينة الملاهي، المدينة القديمة الجديدة... المدينة العريقة الكريمة المجيدة... المدينة الحديثة العاهرة المتبرجة... جنة الأثرياء والفتيات الجميلات العاريات وغير هؤلاء وأولئك، من الشاذين جنسيا... مقبرة الفقراء والمتسولين والمعوقين من كل الأشكال والألوان والصفات، المدينة بفنادقها وعماراتها... القرية بدروبها وأزقتها وإداراتها، فقر معرفي وجهل ثقافي، كثير من أهلها حتى لا أقول كلهم لا هم له إلا الطعام والشراب والنكاح... واستقبال السياح وإرضاؤهم بما لذ وطاب من الطعام والشراب والكسكس والفتيات لذيذات الطعم البهيات الشكل والصورة...

تقدم من الطاولة المحاذية لطاولتي كائن غريب الأطوار أشعت أغبر... شعره لا كالشعر... هو أقرب إلى الحلفاء منه إلى الشعر... وجهه تراكمت عليه أغبرة الأزمنة السالفة، أمسك البراد الصغير، رفعه، أدرك أنه فارغ لمس الكأس وقد رأى فيه بقايا شاي بارد، أشار إلى الزبون الجالس على الكرسي بيده ما معناه هل من الممكن أن أشرب هذا الشاي؟ قال الزبون الذي ساءه أن الأحمق لم يستأذنه قبل أن يرفع الكأس ـ قال له ـ: لمَ تستأذنني وقد فعلت ما فعلت، قال المجنون لقد استأذنتك، لقد أشرت إلى الكأس بأصبعي وقد أذنت لي، لج الزبون في حجاجه: ما معنى أن تستأذن بعد ذلك؟ من أين أنت؟ أجابه صاحبنا بعبارات غير واضحة: لقد سبق لي أن رأيته، ورغم أن ما قاله صاحبنا ليس منطقيا ولا يرتبط بالمنطق لا من رأسه ولا من قدمه، رغم كل ذلك قرر الزبون من باب العناد أو السذاجة أو البلادة أو أي باب آخر... أن يحدث بينهما حوار سفسطائي أو سوريالي أو حلزوني أو أي شيء... يبدأ الزبون فيطرح سؤالا يبدو منه أنه معقول: أهذه وجبة إفطار أو وجبة غذاء؟ أجابه ضيفه بهمهمة رافقتها ابتسامة ثم ضحكة لم أسمع منها سوى... وووالله... وضحكة أخرى، وضحكات... الزبون مصر على أن يكون الحوار سقراطيا، وهو في حواره أصر على أن يستمر في الوقت الذي انشغل فيه عنه ضيفه بالتهام قطعة خبز قرر أن يبدأها من وسطها، حفر فيها حفرة أدخل فيها يده وأخرجها من الجهة الأخرى بطريقة لعلها تذكره بعادة سرية غريبة، وهو في حواره هذا تقدم منه سيراجي، فقال له بالدارجة المغربية طبعا: تسيري الصباط؟ نظر إليه الزبون ثم تمتم بعبارات غير مسموعة: سأله السيراجي: نعام؟ قال: ﯕولت ليك السيراج كيسيري به لي كيتمشا فوﯕ لﯕازون... ونا لاش غنسيري؟ انسحب محترف مهنة التلميع وهو ينفث عبارات بدت كأغنية قديمة...

قفز الضيف المجنون من مكانه، خطا بضع خطوات، استغرق الأمر بضع دقائق، ثم عاد... وأفرغ ما تبقى في قاع الكأس في حلقه، وانصرف وهو يهتف: شديتك أزوينة... وكعادتي في الفضول تساءلت في قرارة نفسي: أين يمكن أن يكون تفكير هذا الفتى غريب الأطوار، رغبت في معرفة مقر سكنى أفكاره ومشاعره وأحاسيسه، لكني ما تمنيت أن أكون هناك ولا حتى أن أزوره... الله إحفظني.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى