الجمعة ٤ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم جمال عبدالرحيم

رماد فؤاد

حدق بالرماد بين يديه بعد أن أحرق آخر بطاقة له منها. ثم نثره في النهر أمامه.

كان يشعر بالفراغ يتسلل و يتمكن من قلبه، ولم يحاول مقاومته، بل استسلم له. فلا بد لكل بداية نهاية.. فهذه سنة الكون.. يدحر الليل النهار، ويشتت الفجر جحافل الليل، وتضطرم النار فتخمد إلى رماد..

أحبها بشغف وعناد... فملأت عليه حياته بكل ثناياها، وملكت كيانه كما ملك السماء وجه القمر. وأضحيا ثنائيا بديعا كظل على ضفاف غدير، ونسيم وأمواج البحر. فكثر العاذلون..ولم يبال بهم، ولا بالغامزين، ولا بمكائد الحاسدين والطامعين.. فقد كان على يقين أنه استأثر بقلبها كما استوطن حبها في قلبه.

كان أروع ما فيها حور عينيها السوداوين..

كان يتمنى كلما نظر فيهما لو يتوقف الزمان عن دورانه، وتسكن الشمس في سعيها لحظات، فيبحر في أفاقهما يتحول بين جزائرهما حولا بعد حول لألف عام في ألف حكاية من ليالي شهرزاد.

ولكن لم تسكن الشمس نزولا عند رغبته، ولم تمهل زوابعها شعلات قناديله أن تتمايل في رقص رتيب ليركب أمواج هواها في نشوة طفولية.. فبقيت قصة حبه معها كدمعة سكنت في محجرها تنتظر بلهف أن تطبق جفنيها فتنحدر على وجنات أيامه، فتبللها بأفراحها وأقدارها.

كانت عواطفها مثل فصول السنة الأربع تتخاصم في فصل واحد..

كان يبتسم ربيعها في الشتاء..فتباركه السنونات في كوانين عينيها المكفهرة.. ويتثاؤب كانون بعواصفه في آب، فيداهمه الثلج وهو يستجم في تموز حبها.. وأيّا كان الفصل الذي يتملكها، كانت براعم حبها في أغصانها لا تذرها ريح ولا عاصفة، ولا تحرقها نار ولا صاعقة..

كان يعاتبها عندما ينتظم ربيعها، فتهمس له باستكان:

ـ تحلق بي إلى أعالٍ شاهقة لا أحتملها.

فيقول لها بعتاب:

ـ ألذلك ترمين بنا في وهاد سحيقة كل حين؟؟

ـ عرفت الحب قبلك..ولكن لم أر شيئا كهذا.

فيبتسم، ويهمس لها :

ـ لكل خمَّار كأسه ونبيذه.

ـ وأنا أريد أن أثمل من كأسك أنت.

وكانت تنحني و تقبله، وهي تهمس له:

ـ أنت.. أنت شاعري و خمّاري.

ولكن سرعان ما كان يعربد كانون، فتفر من سمائه السنونات، وتأوي إلى أوكارها اليمامات، وتتكور على نفسها زهرات الربيع وهي تصيح به:

ـ لماذا ينظرن إليك؟؟

و تجافيه لأيام.. ويرتد هو إلى غاب بهيم من الحيرة. فما ذنبه هو إن نظرت إليه غادة غيرها وفي عينيها رغبات و تمنيات؟؟

ـ إنهن يحسدنني عليك..

كانت تقول له ذلك بحنق شديد.. فيجيبها مذهولا:

ـ ولذلك تغضبين مني؟؟

فتتوسد كتفه، وتقول له مداعبة:

أريد أن أضعك في نقاب فلا ينظر إليك غيري..

فيرد بمرارة:

ـ نار غيرتك ستلتهم كل شيء إلى رماد..

ـ لا أحتمل أن تتمناك غيري ولو في سرها!!!

وافترقا لشهور قسرا.. سافر هو في عمل منتدبا من شركته. وبقيت هي مريضة طريحة الفراش لا ترد على مكالماته الهاتفية. فأدرك ما كان يجول في خاطرها. ولما رجع صعقته باستنطاقها له كمجرم اقترف كل خيانة في معجم الغرام.

تألم كثيرا من استنطاقها، وكأنما أزالت من فؤاده ترابا غنيا بطمي النيل واستبدلته بكتل من جليد. فقرر بعد تردد طويل أنه لا بد لهما أن ينعتقا من شرنقة حبهما، وأن يحلق كل منهما في سماء غيره..

بقي ينظر إلى الرماد العائم فوق ماء النهر حتى غاب عن ناظريه، ثم جلس على صخرة على ضفة النهر ينفث دخان سيجارته. تنهد وقد خطر بباله أنه لو تسنى لأحد أن يغمس يده في صدره، ويتحسس فؤاده لتحنت يده بالرماد الذي فيه، ولأجفلته البرودة التي باتت تحويه بعد نار الحب التي كانت تضطرم فيه..

بقي جالسا يشعل السيجارة تلو الأخرى وهو يحملق في النهر أمامه حتى تقدم الليل، فقام وصوت من أعماقه يهمس له:" من سيكنس من قلبك الرماد".

فرد بلا وعي منه، وهو يستدبر النهر:

ـ من سيمحو ذكرى صيفها في الشتاء؟؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى