الأربعاء ١٦ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم ياسمين مجدي

(الولد العاشق) شبح لا يحقق حلمه

"المصابيح تفوح منها رائحة الموت" "فما ذنبي أنا؟ لماذا أذهب ضحية الصراع بين مصباح وتيار يرفض السير في السلك الواصل إليه." هذا هو السؤال الرئيسي الذي تطرحه مجموعة القاص المصري زكريا صبح "الولد العاشق"، والصادرة عن دار الدار للنشر والتوزيع، والفائزة مؤخرًا بالمركز الأول في مسابقة دار الأدباء.

أجمل ما في المجموعة أنها لا تطرح شعارات كبري، ولا تهلل بمصطلح "المهمشين" كما تفعل كثير من أعمال اليوم، إنما تروي أحلام وهموم الإنسان البسيط الموجود داخل كل منا، فتبوح حتى بألم زكريا صبح نفسه من خلال الإهداء الذي كتب فيه: "إلى أبي الذي فاجئني بموته قبل أن أفاجئه بإبداعي".

أبطال القصص مذبذبون ما بين أحلام بسيطة وواقع محبط، كما بدا في قصة "نصفان" التي دارت حول رجل: "نصفه ظل جالسًا لم يتحرك ونصفه الآخر انسلخ من نصفه الأول ليطل برأسه يرى ما حدث... لم يكن قد مضى وقت طويل عندما شعر أن نصفه المشلول قد تسلل إليه وانتشر في أوردته، حتى أصبح يتنفس شللاً". ليعاني أبطال صبح من تلك المصائر المؤلمة رغم أن أحلامهم صغيرة جدًا، كـ"الولد العاشق" الذي حلم بأن يضرب على الطبلة في طابور الصباح، فتحول حلمه إلى كابوس حين فلتت منه ضربة طائشة فسقطت الطبلة نصفين!

إذ سرعان ما تتحول الأحلام لكوابيس كالفتاة في قصة "تدفع كام" التي حلمت بأن يحبها شاب، لكنها أكتشفت أنه يريدها موديل يرسمها في مشروع تخرجه فحسب، وأن أمها تساومه على المبلغ. تدور بذلك قصص صبح في أجواء الحلم الموئود، حتى في القصة، التي تشبة حكايات الجدة الأسطورية "بائع البطاطين"، حيث طرق بائع بطاطين باب امرأة زوجها يعمل في المهنة نفسها، يدور الحوار بين الرجل والمرأة لنكتشف أن حياتهما تشهد أزمة واحدة، فكلاهما أبناءه ترتجف من شدة البرد ليلاً.

يجعلك صبح تشعر وأنت تقرأ هذه القصة أن المرأة والرجل التقيا في سجن لا أنهما واقفان أمام باب المنزل يفضفضان، لأن أجواء القصة تجعلنا نفتقد الإحساس بالهواء أو الحرية، فنشعر أنهما عالقان في منطقة مظلمة شبحية يؤكد عليها بائع البطاطين وهو يقول: "تعرفين أيتها المرأة.. إنني أصبحت الآن أشعر أنني ظلاً حقيقيًا، ولم أعد أستطيع التعرف على نفسي البتة". تفكر طوال القصة هل هو شبح أم حقيقة أم ظلاً أم إنه زوجها وأنهما لم يعدا يعرفان بعضهما لتغير ملامحهما بسبب الفقر، حيث يقول البائع لها: "أنني لا أستطيع أن أبيع لكِ البطانية التي تريدين..لأن سيدي لن يرحمني، ولكن أعدك في الشتاء القادم أن أدخر ثمنًا لاثنتين واحدة لك وأخرى لامرأتي التي لم أعد أعرف شكلها ولم تعد تعرف شكلي"!

كأن صبح يوجه رسالته أن من يكافحون لاثبات أحلامهم هم مجرد أشباح لم يحققوا كامل آدميتهم بعد، فتسيطر فكرة الشبح على المجموعة، إذ تتكرر في قصة "لا ظل إلا ظلها" بشكل ساحر لطفل طردته بنات الجيران هو وأخته من ظل عمارتهن حتى لا يجلس فيه، وحين ذهب ليجلس في ظل بيته وجده كما قال: "ظلاً قصيرًا جدًا لا يكفي للجلوس، يكاد يكفي كلبًا صغيرًا ليس له أخت، وأعدت الطواف مرة أخرى ولم أجد للبيت ظلاً"!

تتضح بقوة فكرة الشبح في قصة "رواية" التي تدور حول قاص لم يحضر أحد ندوته، وحلاً للموقف، وضعوا على الكراسي صور لأشخاص كانت معلقة على الجدران، لتعطي تلك القصة صورة مختلفة، حيث أكدت القصص الأخرى أن البشر العاديين الذين لا يحققون أحلامهم يصيرون أشباحًا أو ظلالاً، أما في تلك القصة فتنقلب الآية، فتحل الصور محل البشر على الكراسي على أمل أن تغني الروائي عن الناس، وكأن الأصل أصبح هامش، والصورة هي المتن والحقيقة. في هذا الإطار ربما يكتشف الروائي نفسه أنه هو المعلق على الحائط بدلاً من الصور.

حتى لا تصبح كل الأحلام هكذا ميتة يهجر "بائع الجرائد" مهنته، حتى لا يصبح نذير شؤم!، ليختم صبح تلك المجموعة المحمَّلة بأحلام بسيطة بقصة "لم يستطع"، كأنه يعلن في النهاية أن كل هؤلاء لا يحققون شيئًا من أمنياتهم، فلا يستطيعون بالتالي فعل أي شيء: "لأن فمه كان محشوًا قطنًا...لأن لسانه جف داخل حلقه الآن.. ولأن فكه السفلي كان مشدودًا لأعلى برباط قاس معقودِ فوق رأسه عقدة لم يفكها التربي". هذه قصة عن شخص ميت ربما ختم بها صبح المجموعة ليقل أننا بعيدًا عن أحلامنا نصبح موتى، لكننا للأسف لا نتأكد أننا متنا إلا حينما نرى الآخرين يحكمون إغلاق القبر علينا!

تشهد المجموعة بعض التيمات اللغوية التي استخدمها صبح، مثل قصة "لم يستطع" التي بدأت كل فقراتها بجملة "لم يستطع"، وقصة أخرى بدأ كل فقراتها بهل. أما قصة "لا ظل إلا ظلها" فتكونت كل جمل فيها من "لأن...كان"، مثل "لأنني كنت صغيرًا، فقد حملت أختي الأصغر مني بصعوبة"

لا تخل المجموعة من إخفاقات كبعض الثرثرة والوصف التفصيلي يمكن أن نتغاضى عنها في ضوء كونها المجموعة القصصية الثانية للكاتب، الذي لو غاص أكثر في أعماق هذا العالم البسيط لقدم عالم مبهر ورائع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى