الثلاثاء ٢٩ تموز (يوليو) ٢٠٠٨

القدس 2009.. القدس دائماً

بقلم: طلال حمّاد

قرأت، وما زلت أقرأ، في أكثر من مكان ما، أفكاراً تتعدّد بشأن مشروع القدس عاصمة للثقافة العربية(عروبة الثقافة) في العام القادم 2009، وغيرها تتعلّق بالقدس نفسها عاصمة عربية للثقافة(عروبة القدس).. وقد استدعت انتباهي التحضيرات الجارية على قدم وساق في جميع العواصم العربية دونما استثناء، حتّى تلك التي تقع تحت احتلال أجنبيّ معاد لكل مشروع حضاري أو نهضويّ عربيّ.. لتقديم القدس عاصمة للثقافة.. لتأخذ هذه العواصم للمرة الأولى منذ وقوع القدس تحت نير الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني (أي التهويدي بكل أصنافه وأشكاله).. ولمرة واحدة.. باعتبار دورية العواصم.. مكان القدس.. أو بشكل أدق.. مكاناً إلى جانب القدس.. لتقديم مختلف أوجه (ووجوه) الثقافة الفلسطينية(العربية).. والثقافة العربية(الفلسطينية).. بما يدل على تعدد المكان(العربيّ على تنوّعه) في تمثّل الزمان(المقدسيّ.. والفلسطينيّ في وحدانيّته).

ورأيت.. كما يرى النائم في نومه.. عواصم عربية وقد منحت القدس مكاناً من مكانها.. بأن أقامت عليه مجسّما للمدينة القديمة.. داخل أسوارها.. يقلّ عن الكيلومتر مربّع.. مجسما يبدو حقيقيا.. ودائما.. يعرّف بالقدس.. ويذكر بها.. ولا يعوّض عنها.. كما رأيت صورها تعلو واجهات المسارح.. والمكتبات الوطنية.. ومفترقات الطرقات الكبرى.. وملصقات تعلن عن ندوات.. وعن عروض فنية.. مسرحية وسينمائية.. ومعارض تشكيلية.. لفرق وفنانين وفنانات ورسامين ورسامات.. من فلسطين.. ومحليين.. وآخرين من بلدان عربية.. وغير عربية.. تعرض كلها.. وتتعرض للقدس.. تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً.. وتثير النقاش حولها.. والحمية لاستعادة حريتها.. واستعادتها هي أولا وقبل كل شيء لحريتها..

رأيت.. لأنّ القدس وحدها لا تستطيع في ظروفها الحاضرة.. في ظل الاحتلال.. أن تحتفي بالثقافة العربية كما تريد.. ولا تستطيع أن تكون عاصمة عربية للثقافة كما تشاء.. القدس تستطيع الآن.. فقط.. أن تستمرّ بما اعتادت عليه.. منذ أربعين سنة.. أن تقف.. وحيدة.. ما استطاعت.. في وجه تهويدها.. وانتزاعها من محيطها الوطني والقومي.. تماماً كما فعلت وتفعل فلسطين مجتمعة.. منذ نحو قرن من الزمان أو يزيد(ولو مجزّأة اليوم ما بين جليل ومثلث ونقب وضفة وغزة).. في مواجهتها لمحاولات نزعها من محيطها العربيّ والإسلاميّ.. فالقدس منشغلة.. وبشكل يوميّ.. لو تعلمون.. بمحاربة أضرار هزيمة العرب في حزيران 67.. رغم أنف الأسر والاحتلال..

إنّ مشروع القدس عاصمة للثقافة العربية.. أو عاصمة عربية للثقافة.. صعب ومحفوف بالمخاطر.. إذا تركت القدس.. في هذا المشروع أيضاً.. وحدها.. إنّه مشروع باختصار (رغم شرعيّته) مهدّد وبدون حماية.. فمن الجهة التي يمكنها أن تمنح مشروعاً قوميّاً ـ ولو محدوداً ـ مثل هذا.. غطاءه؟ ومن له السلطة.. أو القدرة على تحقيقه كما نرجو ونبتغي؟ ستفعل القدس.. أبناء القدس.. ما تبقّى من قدرة القدس على المقاومة.. ما يمكن لأن تعبّر القدس عن انتمائها الحضاريّ والثقافيّ العربيّ.. ولكن تحت الاحتلال.. ورغم أنف الاحتلال.. ستحتفل نابلس ورام الله بالقدس عاصمة عربية للثقافة.. وستحتفل الناصرة وعكّا بالقدس عاصمة للثقافة العربية.. وستفعل غزة.. والخليل وبيت لحم.. والطيبة وعرّابة وأم الفحم.. وحتّى قرى النقب التي لا تعترف بها دولة "إسرائيل".. لكن في نطاق محدود.. داخل جدران السجن.. وأين؟ في أيّة فضاءات؟ في أيّة قاعات.. وأيّة مسارح؟ في أيّة ميادين.. وأيّة ساحات؟ وهل سمحت "إسرائيل" المحتلّة لفلسطين منذ 60 عاماً بالتمام والكمال.. بقيام بنية تحتيّة فلسطينيّة صالحة؟ هل تستطيع السلطة الفلسطينيّة ضمان ذلك؟ هل لدى هذه السلطة الإمكانيّات للتنفيذ والحماية؟

ليست القدس بحاجة إلى تأكيد عروبتها.. القدس قادرة أن تظلّ واقفة في حلق الذئب كلقمة يغصّ بها.. لا هو قادر على ابتلاعها.. ولا هو قادر على لفظها..

تغيّرت القدس.. تغيّرت بها ملامح.. جسدها لم يعد جسدها الذي نعرف.. لكنّ قلبها ظلّ قلبها.. نابضاً رغم الطمس.. وروحها هي هي.. حيّة رغم الاختناق.. صحيح تعدّدت فيها اللغات.. وتعدّدت من حولها اللّغات.. لكنّها لمّا تزل تنطق وتفكّر وتكتب.. على الورق.. وعلى الحجر.. بلسان عربيّ قحّ.. لسان عدنان وقحطان وكنعان وقنعان وسمعان وطرشان وخلفان وكرشان وطهقان وزهقان.. كما تعرف الآن.. وهي مفتوحة على كلّ المعارف الجديدة.. أن تخاطب الكون من حولها من خلال الشاشة الإلكترونية العجيبة.. فلا خوف على القدس إلاّ من دوام الاحتلال.. ودوام المصادرة.. ودوام الاستيطان.. ودوام التهويد.. ودوام التخلّي.

كثير من المشاريع لم تبلغ أهدافها.. بسبب وقوف "إسرائيل".. بشكل رئيسيّ.. وموقفها من القدس.. ومنعها قيام المؤسسات الوطنية الفلسطينية فيها.. حجر عثرة لا يزحزح.. أمام كلّ محاولة تنمية وطنية فلسطينية حرّة فيها.. وفي الجانب الآخر.. كم من الوعود بدعم صمود أهلها لم تتحقّق ولم تصل؟

القدس عاصمة عربية للثقافة.. والقدس عاصمة للثقافة العربيّة.. فلا تتركوها وحدها.. لا تتركوها مرّة أخرى.. لا تتركوها إلى الأبد.. تقاوم التهويد "بيدين من حجر وزعتر"!

طوبى لمن يدرك.. طوبى لمن يفعل.. طوبى للقدس..

هلمّوا أيّها المثقفون العرب.. أيّها الكتّاب.. والفنّانون.. والشعراء.. و.. القدس في العام 61 من عمر نكبتها الفلسطينيّة(العربيّة!؟).. و 41 على وقوع شطرها الشرقي في أسر الاحتلال.. عاصمتكم للثقافة العربيّة.. فأعدّوا عدّتكم.. ولا تنتظروا أن تفعل القدس وحدها.. ما تنتظر هي منكم أن تفعلوا.. كي تظلّ لكم.. إلى الأبد.. عاصمة عربيّة للثقافة.. وللتاريخ.. وللمقاومة!

بقلم: طلال حمّاد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى