الاثنين ٤ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم جميل حمداوي

البناء المعماري في روايات بنسالم حميش

يمتاز العالم الروائي عند بنسالم حميش بخصوصيات معمارية لافتة للانتباه، ولاسيما ما يتعلق منها بالتعامل مع التراث والنزوع نحوالتأصيل على غرار المؤلفات الكلاسيكية والكتب العلمية الموضوعية ذات الببليوغرافية الأكاديمية الموثقة. فهويقسم رواياته إلى مقاطع كما في "سماسرة السراب"، وإلى فصول كما في "محن الفتى زين شامة" و"بروطابوراس يا ناس!" و"العلامة"، وإلى أبواب كما في" مجنون الحكم"، علاوة على استعانته بالفاتحة والتذييل واستخدام لائحة المصادر والمراجع. فكأني بالكاتب يكتب دراسات أكاديمية موثقة بطريقة علمية مدروسة؛ لأنه يجمع المادة التخييلية المنتزعة من الواقع المرجعي، ثم يبوبها تبويبا ويفصلها تفصيلا. ثم بعد ذلك، يلحق بها المراجع والهوامش والملاحظات التوثيقية.

ولتوضيح ذلك لابد من دراسة كل رواية على حدة لتحديد معماريتها النصية قبل الوصول إلى خلاصة تركيبية استنتاجية حول جميع نصوصه الإبداعية.

1- سماسـرة السـراب:

يمكن تحديد معمار هذه الرواية على النحوالتالي:

تكميم الرواية أقسام الرواية
139 صفحة الاستهلال العرض النهاية
32 مقطعا استهلال أجناسي (رسالة) وميتاسردي فيه نقد للسيرة الذاتية في الرواية - وحدة الهجرة
 وحدة القلعة

 وحدة الهروب
الموت الروحاني
أوالمجازي

يتسم الاستهلال الذي يستفتح به الكاتب رواية " سماسرة السراب" بكونه ذا طبيعة مزدوجة تجمع بين الخاصية الأجناسية ( ورد الاستهلال في شكل رسالة عجائبية فانطاستيكية مؤشرة بزمن مستقبلي بعيد)، والخاصية الميتاسرديـة ( التنكر لخطاب السيرة الذاتية على الرغم من أن الرواية تركز على ذات متمردة رافضة للواقع الكائن، أي ذات عبثية هاربة تبحث عن الحرية).

يحيل الاستهلال – إذا- على الخطاب النقدي، أي إن الرواية تشخص الذات من خلال هروب السارد من الواقع، كما تؤكد ذلك الرسالة العجائبية المتضمنة داخل النص الروائي، وتشخص نفسها من خلال التفكير في طريقة انكتابها، ورفض كل كتابة ترصد الأنا وتحاول تضخيمها والمبالغة في وصفها وتفسيرها وتمطيط أجنحتها التخييليية.

هذا، وتنطوي مجموعة من الروايات على جوانب وصفية ونقدية Métatexte (ميتناص)، فلا تكتفي بتشخيص الواقع المرئي والذات فحسب، بل تتعداها إلى تشخيص نفسها عبر مساءلة روائيتها Romanesque، وتعرية اللعبة السردية وفضح قوانين الكتابة الروائية ومنطق بنائها. والميتاناص "يتعلق بوجود نص يرد تعليقا - نقديا غالبا- على نص آخر"(1) في نفس العمل الأدبي ، فــ "يأتي نقدا للنص"(2) الذي يحتويه أو"هوعلاقة التعليق الذي يربط نصا بآخر يتحدث عنه دون أن يذكره أحيانا"(3).

ومن هنا، يأخذ الخطاب النقدي الواصف في الرواية ملامحه السردية داخل النص حينما تفكر الرواية في كيفية اشتغال الروائي فيها، وحينما تسائل نفسها، إذ نرى "أن الرواية تقرأ نفسها، وتسائل خطابها ومكوناتها وعناصرها الروائية، وتخلق علاقتها كلعبة بين الكاتب الضمني الذي يتجلى كمؤلف سارد، وبين القارئ الضمني الذي يتخيله النص ويكشف أمامه لعبة الكتابة"(4).

فالخطاب الميتاسردي ما هوإلا خطاب حول الطابع الروائي للرواية، وتفكير حول ذاتها وكيفية انبنائها وشكلنتها. أي إن الرواية تفكر في نفسها بصفتها كتابة، وتسائل عناصرها البنائية والسردية من خلال السؤال حول البداية التي تفتتح بها الأحداث الروائية والنهاية التي تختتم بها، وزمن المحكي، "ومن خلال استحضار القارئ الضمني الذي يتصور النص أنه يتلقى الرواية، وكيف يتلقاها، وأيضا خلال استحضار الناقد وجهازه المفهومي (الجاهز) في قراءته للنص، وعلاقة الواقع بالمتخيل، ومدى مطابقة الشخصيات الروائية لأنماط واقعية موجودة في الحياة الخ..."(5).

ومن يتأمل الاستهلال الميتاسردي في رواية "سماسرة السراب"، فسيصادف بلا ريب ثورة بنسالم حميش العارمة على السيرة الذاتية والخطاب الأوطبيوغرافي ، وعلى كل كتابة تجعل من الأنا/ الذات محور سردها. ويلمح هذا بالفعل إلى الرواية المغربية التي تطفح بالذاتية والإغراق في استغوار الباطن، وتصوير الحياة الداخلية للشخصية الروائية، واستبطانها في وعيها ولا وعيها بطريقة ظاهرية وجوانية كما في روايات عبد الله العروي ومحمد برادة مثلا. ويقول حميش في هذا الصدد منتقدا وضعية الرواية المغربية التي بقيت أسيرة خطاب السيرة الذاتية: "الرائج عن الرواية المغربية بأنها ليست إلا سيرة ذاتية مقنعة... هوقول صحيح إلى حد كبير...وعلى الرغم من أن السيرة الذاتية جنس من الكتابة لابد من معرفته وارتياده..إلا أنها تصبح ممارسة منفرة حين تتحول إلى نرجسية رعناء...أي إلى نص يتمحور حول الذات كقاعدة انطلاق ودوران... وقد نرحب بهذه الممارسة في حالة حدوثها مرة أوعلى عتبة توديع الحياة… لكنها تصبح جديرة بالرفض حينما يتخذها كتاب مغاربة عكازا دائما لهم أويشحنونها في عربة يدفعونها أمامهم أينما حلوا وارتحلوا"(6).

أما المتن الروائي للنص، فينقسم إلى أربع وحدات حكائية ودلالية:

1- وحدة التفكير في الهروب والحلم بالهجرة.

2- وحدة القلعة.

3- وحدة الهروب والنجاة.

4- وحدة الموت.

ويمكن اعتبار وحدة الموت المثبتة في المقطع الأخير من الرواية بمثابة نهاية للرواية، فهي تحيل على خاتمة الرواية وتوقف تطور الأحداث من خلال وفاة عنبر بن بلال وتحوله إلى طائر ملائكي روحاني ليتوقف نهائيا عن الحركة بعد انطلاق روحه. ويأخذ الاستهلال ثلاث صفحات من حيز الفضاء النصي الروائي، بينما تبلغ صفحات العرض مائة وإحدى وثلاثين صفحة، بيد أن حيز النهاية لا يتعدى صفحة واحدة.

وفيما يخص البناء المعماري للرواية فهوبناء جدلي قائم على الصراع والتناقض وتباين المواقف. فعنبر بلال الشخصية الرئيسة في الرواية ينتقل من حالة الاستلاب واللاوعي والهزيمة السلبية من جراء الاستسلام لقوى الشر داخل القلعة إلى حالة الوعي واليقظة والانتصار على الدمكمك وكل أعوان القمع وسماسرة السراب.

2- محن الفتى زين شامة:

تنبني هذه الرواية على معمار تراثي. وقد وزعت المادة الإبداعية على خمسة فصول وتذييل على الشكل التالي:

التكميم أقسام الرواية
321 صفحة الاستهلال المتن الخاتمة
5 فصول وتذييل

27 عنوانا فرعيا

الفصل الأول

وأنا رهن الاعتقال

المقطع 1
الفصول الخمسة
1- أنا وخالي ضد ظلال الكتابين.

2- إن حبي لزهرة العلا وللحياة لواقع

3- الأحمدي ورقية في دائرة الأحبة.

4- الفخ

5- في المارستان
تذييل
من الحيلة

النكراء إلى

الفتنة والقتل

يأخذ الاستهلال حيزا فضائيا طويلا، وتبلغ صفحاته اثنتين وثلاثين صفحة من الفصل الأول: (أنا وخالي ضد ظلال الكتابين)؛ وعنوانه (وأنا رهن الاعتقال). ويقدم هذا الاستهلال إطار الأحداث بإدخال الشخصية الرئيسية إلى حيز الأحداث (زين العابدين الرامي الملقب عند الأحباب زين شامة)، وإبراز الحدث الروائي الأساس الذي تنصب عليه الرواية ألا وهواتهام زين شامة بجريمة قتل لضابط عسكري رفيع المستوى؛ مما أدى به الأمر إلى استنطاقه وتعذيبه وإدخاله إلى السجن حتى أفرج عنه بسبب بزوغ حكم جديد وفشل الثورة السابقة.

يذكرنا هذا الاستهلال بافتتاحيات الرواية الكلاسيكية الواقعية والبوليسية حيث يقدم الكاتب نصه الروائي بوصف المكان أوتحديده وتقديم الشخصيات والحدث المحوري. وهذا ما يسمى عند ياسين النصير بالاستهلال الروائي المحوري البنية. يقول: " ويتحدد معنى هذا اللون من الاستهلالات بأن ثمة فكرة أومحورا واحدا يتكرر داخل الصفحات الأولى من العمل. فهوإما أن يكون حال معينه، أومكانا، أوموقفا، أوزمنا ما وقد جرت معالجته من أوجه عدة، ويضمن الاستهلال إشارة مركزة وقوية لهذه البنية المحورية، ثم تتكرر في مقاطع عديدة من الرواية. لتتأكد قيمة محورية تغذي مفاصل الرواية وتمدها بتصورات كلية لاحقة، وغالبا ما يحيط الغموض والإبهام والتعمية المقصودة هذه البنية المحورية كجزء من زيادة التأكيد عليها. والروائي المتمرس لا يفصح في الفصول الأولى بالكثير عن جوانب هذه البنية، وإنما يقدم أجزاء منها بالتتابع معتمدا البعدين المكاني والتاريخي وغالبا ما تكون هذه البنية محلية التكوين أومن الأفكار العامة التي عندما يجري التعامل معها يجد الروائي أن الكثيرين منا قد اشتركوا في صياغتها أوعلى معرفة واضحة بها. ولم يقف الاستهلال عند تأكيد هذه البنية في لفظة مركزة أوجملة واضحة وإنما في محاولة اقتناص لحظة تاريخية مهمة تمر بها هذه البنية المحورية" (7).

يرتكز المتن الروائي داخل محن الفتى زين شامة على عدة محاور دلالية في شكل مخاطرات ومغامرات ومحن مجهدة هي:

1- محنة الاستنطاق والاستخبار.

2- محنة الأسر والسجن.

3- محنة الصعلكة والخوف من مكائد التجسس.

4- محنة الفساد والاستبداد.

5- محنة الحب والغرام.

6- محنة الفخ والوقوع في مصيدة الجواسيس.

7- محنة الاعتقال في مستشفى الأمراض العقلية.

8- محنة الثورة والانقلاب الفاشل على الحاكم المستبد.

9- محنته مع الزبدي.

وتنتهي الرواية بلحظة انتصار زين شامة على الزبدي حين بعج بطنه بسلاحه حتى همد وتقطعت أنفاسه.

ويلاحظ أن معمار الرواية جدلي لأنه قائم على الصراع بين المتناقضات والمتضادات؛ فهناك انتقال من حالة الثبات إلى حالة التحول، ومن السلبي إلى الإيجابي، ومن الهزيمة النكراء إلى الانتصار على أعداء القمع والشر والجور ومصاصي دماء الناس وطغاة الحكم.

3- بروطابـوراس يا ناس!:

ينبني معمار " بروطابوراس يا ناس! " على المكونات التالية كما يوضحها الجدول:

التكميم الأقسام
75 صفحة الاستهلال العرض الخاتمة
6 فصول في ساحة "كان يا ماكان" 1- بروطابوراس يترأس.. يا حفيظ!
2- بروطابوراس يسهر ويبوح

3- بومهمة والمرأة- الشوكة

4- عودة إلى الحلقات
الدخول إلى المارستان

يستهل الكاتب روايته بتقديم شخصية علي العوني (بومهمة) مستشار بروطابوراس وهويمارس مهمة البص والتجسس لحساب الرجل القوي في هرم السلطة. ويندرج ضمن هذا الاستهلال ما يسمى بالبعد التجنيسي عن طريق توظيف الزجل العامي الذي يطفح بالحكم وسرد الحكايات ونصوص الدين وذكر كلام الأولياء، والبعد التعريفي الذي يتجلى في تقديم شخصية علي العوني الذي كان موظفا في التعليم وأصبح مستشارا مكلفا بمهمة. ويستغرق هذا الاستهلال ست صفحات من الحجم المتوسط.

وتعتمد الرواية على الوحدات الدلالية التالية:

1- بروطابوراس يترأس مجلس الحكومة ومعه مستشاره بومهمة.

2- السهرة الليلية التي يقضيها بروطابوراس مع مستشاره التي تنتهي باللعنة والطرد من قبل زوجتيهما.

3- ضعف بومهمة أمام زوجته العاهرة الشقراء وتهديد الحاجة هنية لبروطابوراس بإفشاء سر مقتل زوجته المصرية أوالمتمصرة.

4- بومهمة وأعوانه المخبرون يرصدون الحلقات العامرة بالناس.

5- بومهمة وبروطابوراس مع مرضى المارستان.

وتكمن نهاية الرواية في الوضعية المأساوية التي آل إليها بروطابوراس وبومهمة، بعد أن اعتقلهما الرئيس في مارستان المرضى بسبب قتلهما لزوجتيهما، ولأسباب أخرى تسكت عنها الرواية أوتلمح إليها كتجاوز الرجل القوي للخطوط الحمراء.

ويلاحظ أيضا أن معمار هذه الرواية ذوبناء جدلي تصاعدي، لأنه قائم على صراع التناقضات والجدل المتنامي؛ فمن قوة السلطة إلى ضعف وخور وفقدان لها، ومن مراكز القوة والتسلطن والاستبداد إلى مارستان الاختلال العقلي. إنها جدلية التحول والتدرج في الأحداث والانتقال من التوازن إلى اللاتوازن.

4- العـلامة:

ترتكز رواية العلامة على معمار تراثي مقسم إلى فاتحة وثلاثة فصول. ويشخص لنا هذا الجدول الموالي البناء المعماري لرواية العلامة:

التكميم أقسام الرواية
255 فصلا الفاتحة المتن التذييل
ثلاثة فصول مع فاتحة وتذييل. ابن خلدون في مصر يمارس القضاء وينوي أداء الحج. الفصل الأول: الإملاء في الليالي السبع.
الفصل الثاني: بين الوقوع في الحب والحلول في ظل الحكم.

الفصل الثالث: الرحلة إلى تيمور الأعرج جائحة القرون.
عودة ابن خلدون من رحلته إلى تيمورلنك وجزعه على رحيل زوجته مع أخيها إلى فاس بصحبة ابنتها المريضة، وانتظار العلامة للأجل المحتوم.

تبدأ الفاتحة بتقديم شخصية ابن خلدون والتعريف بها وهي تمارس القضاء بالقاهرة المصرية على المذهب المالكي. فبسبب دفاعه عن العدالة وإنصاف المظلومين، عانى العلامة الكثير من الدسائس والمكائد المدبرة ضده من قبل أصحاب الجاه والرياسة. لذلك، عاش العلامة أثناء وجوده بمصر مجموعة من المحن والإحن. وتضعنا هذه الفاتحة كذلك أمام تفكير ابن خلدون في الحج واستبقائه لحموالحيحي لديه كاتبا وناسخا لكتبه بعد أن أفتى في قضيته مع زوجته بنت صالح التازي حول التنزه معا على ضفاف نهر النيل، وتهرب الزوج من ذلك لكونه كان قصير القامة بالمقارنة معها. ويشبه هذا الاستهلال افتتاحيات الرواية الكلاسيكية الواقعية؛ لأن المؤلف ركز على الزمن (فترة حكم السلطان الظاهر برقوق سنة ست وثمانين وسبعمائة (786 هـ) والمكان (القاهرة بمصر)، وتقديم الشخصيات (ابن خلدون الفقيه المغربي المالكي- شعبان خادم العلامة- حموالحيمي - زوجة حموالحيحي) تقديما وصفيا وحدثيا.

وتتمحور الرواية حول الوحدات الدلالية الآتية:

1- ابن خلدون في مصر يمارس القضاء المالكي في عهد السلطان الظاهر برقوق وينوي أداء مناسك الحج ويتعرف على ناسخه وكاتبه حموالحيحي.

2- ابن خلدون مع كاتبه حموالحيحي يملي عليه تقييداته في الليالي السبع.

3- وقوع ابن خلدون في مصايد الحب وأشراك السياسة.

4- ارتحال ابن خلدون إلى تيمورلنك لمفاوضته قصد طلب الأمان والسلام.

5- عودة ابن خلدون من رحلته الى تيمورلنك وتقلبه بين القضاء والانعزال، وانتظار فرصة الذهاب إلى فاس لجمع شمل عائلته، ووقوعه بين قدر الموت المحتوم بعد شدة المرض الهالك.

يتكون العرض الروائي من ثلاثة فصول (الكتابة- الحب والسياسة- التفاوض مع تيمورلنك)، بينما وردت الخاتمة في شكل تذييل في اثنتي عشرة صفحة ، في حين وردت الفاتحة في أربع عشرة صفحة. وبذلك تتوازى الفاتحة التي تتحدث عن قدوم ابن خلدون إلى القاهرة لمزاولة التدريس والقضاء استعدادا لأداء فريضة الحج، مع التذييل الذي يعلن نهاية العلامة واقتراب أجل رحلته.

ويلاحظ على معمار الرواية أنه ذوبناء دائري حلزوني، إذ تبتدئ الافتتاحية الاستهلالية بشكوى ابن خلدون من تقلبات العصر العصبية، واكفهرار الجوبينه وبين أهل الدولة ومعاناته من جراء دسائس الوشاة ومكائد الساسة والطغاة، وقضاء حياته في مصر بين القضاء والعزلة حتى انتهت حياته. بينما الخاتمة تؤكد مضامين الاستهلال من خلال التركيز على وصف مجموعة من الانقلابات السوداء في حياة ابن خلدون. فعلى الرغم من شيخوخة العلامة، مازالت الأوامر السلطانية ترغمه على الانتقال من الانعزال السياسي والوظيفي إلى ممارسة العلم وأداء القضاء. والعكس صحيح أيضا. ومن ثم، أصبح العلامة حسب أحداث الرواية كثير العزل والتعيين بسبب الوشايات والتدخلات والنهش في أعراضه. وقد جعلت حياة التقلبات والمحن هذه العلامة المغاربي يعيش فعلا في تاريخ العصر الوسيط عصر الغمة المغربية والمصرية على حد سواء.

5- مجنـون الحكم:

تخضع رواية مجنون الحكم لمعمار تأليفي تراثي. وقد قسم الكاتب روايته إلى مدخل وأبواب، وفصول، ومقاطع نصية، وخاتمة، وهوامش، ومراجع، على غرار رواية أوراق لعبد الله العروي التي قسمت بدورها على غرار الكتب النقدية القديمة والأبحاث الأكاديمية الحديثة إلى أبواب وفصول وأقسام، ومقدمة وخاتمة.

ويمكن توضيح معمار مجنون الحكم على النحوالتالي:

التكمــيم الاستهلال الأقســــام ملحـق
271 صفحة مدخل الدخان الباب الأول الباب الثاني الباب الثالث الباب الرابع خاتمة هوامش
أربعة أبواب ومدخل وهوامش ومراجع وسبعة فصول فرعية. التعريف بشخصية الحـاكم ونصوصه في الدعوة والحكم والإمامة من طلعات الحاكم في الترغيب والترهيب في المجالس الحاكمية زلزال أبي ركوة الثائر باسم الله من آيات النقض والغيث عودة الأمـان والاستقـرار إلى مصر في عهد ست الملك والخليفة الظاهر لائحـة المصـادر والمراجع
ف1: عن سجلات الأوامر والنواهي ف1: الجلوس في دهن البنفسج --- ف 1: بين النكتة والانتقام: مصر تحترق
ف2:
العبد مسعود أوآلة العقاب اللواطي
ف 2:
الجلوس لطلب الدهشة
---- ف2: السلطانة ست الكل
ف3: الجلـوس للإلاهيات بين الدعاة --- ---

يستهل الكاتب روايته بتقديم إطار الرواية بالتركيز على الشخصية الرئيسة في الرواية، وذلك بتعريفها ورصد حالتها النفسية والعقلية، وشذوذها في مواقفها وتصرفاتها، مع ذكر خواطرها وما تصدر عنها من نصوص في الإمامة والدعوة والحكم موجهة إلى أتباعها وشعبها ورعيتها. وكلها أقوال متناقضة تدل على استبداد الحاكم بأمر الله وطغيانه وجبروته ومرضه بالمانخوليا أوجفاف الدماغ وفساد المزاج. وهكذا تستند الرواية الى التمفصلات الدلالية التالية:

1- التعريف بالحاكم بأمر الله واستعراض خواطره ونصوصه في الإمامة والدعوة والحكم.

2- سجلات الأوامر والنواهي التي كان يصدرها الحاكم بأمر الله إلى رعيته.

3- تحول العبد مسعود إلى آلة للعقاب اللواطي لمحاسبة أرباب الاحتكار وتجار السوء.

4- جلوس الحاكم بأمر الله في دهن البنفسج لتفادي يبوسة الدماغ وجفاف المزاج واستعادة صحته عن طريق شرب النبيذ وتأمل عورة غلام القلم (حلقة مداواة بدهن البنفسج)

5- أعجب المجالس القضائية التي شرف الحاكم بأمر الله برئاسته الفعلية.

6- جلوس الحاكم بأمر الله في بيت الحكمة بين دعاته لينشر فيهم إلاهياته لرعاياه.

7- ثورة أبي ركوة على الحاكم التي انتهت بخيبة الأمل.

8- انتقام الحاكم من المصريين والتنكيل بهم وإحراق مصر ونهبها.

9- المؤامرة التي دبرتها ست الملك للتخلص من أخيها الحاكم بأمر الله.

10- عودة الهدوء النسبي إلى مصر في عهد ست الملك والخليفة الظاهر.

وتتمثل نهاية الرواية في قضاء ست الملك على أخيها المتغطرس المستبد الحاكم بأمر الله، بعد مؤامرة مدبرة والتخلص من كل الذين اشتركوا في هذه المؤامرة للقضاء نهائيا على كل الشائعات التي قد تمس ست الكل، وتحملها مسؤولية قتل أخيها. وتشير الخاتمة إلى عودة الأمان والاستقرار والسلم إلى مصر في عهد ست الملك والخليفة الظاهر.

أما معمار الرواية، فهوذوبناء جدلي لوجود عدة أطروحات متناقضة، منها أطروحة الحاكم بأمر الله، وأطروحة أبي ركوة، وأطروحة ست الملك، علامة على صراع الحاكم مع شعبه ورعيته وصراعه كذلك ضد أعوانه ومستشاريه وقواده وعبيده. وهكذا انتهت حياة كل من الحاكم بأمر الله وأبي ركوة وست الملك والظاهر لينتهي مسلسل الدولة الفاطمية المتشيعة.

ونلخص كل ما قلناه سابقا عن المعمار الروائي في الخطاطة التالية:

الروايات البناء المعماري الاستهــلال المتـن الخاتمـة طبيعـة معمارية
التأليــف

مجنون الحكم جدلي تقديم الشخصية أبواب-مدخل- فصول موت
ست الملك
معمار تراثي
سماسرة السراب جدلي تقديم الشخصية والتجنيس الروائي مقاطع مرقمة موت
عنبر بلال
معمار حديث
بروطابوراس يا ناس جدلي تقديم الشخصية والتجنيس الزجلي فصول مرقمة بومهمة في المارستان معمار حديث
محن الفتى زين شامة جدلي تقديم الشخصية والحدث فصول ومباحث وتذييل زين شامة ينتظر مصيره معمار تراثي
العلامة دائري تقديم الشخصية وبنية الحدث فاتحة- تذييل وفصول موت
ابن خلدون
معمار تراثي

نستنتج مما سلف ذكره أن معمار التأليف لدى بنسالم حميش ذوطابع تجريبي ليس إلا، أي معمار حديث في التأليف من جهة، وتأصيلي قائم على استيحاء التراث في تقسيم الرواية إلى أبواب، وفصول، ومباحث، ومداخل وافتتاحيات، وذيول، وهوامش للمصادر والمراجع من جهة أخرى.

فمن حيث البناء المعماري للرواية، يلاحظ هيمنة البناء الجدلي باستثناء رواية العلامة التي تخضع للبناء الدائري. وهذا يؤكد رغبة حميش في التغيير وخلق الشخصيات الإيجابية بدل البطل الإشكالي المتجاوز في الرواية الغربية. ويلاحظ أيضا أن الاستهلال عنده ذوبنية تقليدية على غرار الرواية الكلاسيكية، ما عدا رواية " سماسرة السراب" التي نهج فيها خطة جديدة، إذ مارس فيها الروائية والنقد الذاتي والسرد الواصف.

ويلاحظ كذلك أن المتن الروائي عنده قد وزع تراثيا في "مجنون الحكم" و"العلامة" و" محن الفتى زين شامة"، وحداثيا "في سماسرة السراب" و" بروطابوراس يا ناس !".

كما يلاحظ أن نهايات هذه الرواية تراجيدية تؤول إلى الموت النهائي والوقف الحتمي للحركة كما في " مجنون الحكم" و"العلامة" و" سماسرة السراب" ، أوإلى الاستعداد للمصير الغامض كما في " بروطابوراس يا ناس" و"محن الفتى زين شامة..."

وخلاصة القول: فقد اعتمد بنسالم حميش في بناء رواياته على تنويع الأشكال السردية وإثراء البناء المعماري، والمزاوجة بين التجريب والتأصيل في اختيار أبنية نصوصه الحكائية وقوالبها المعمارية وهندساتها التأليفية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى