الاثنين ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
استطلاع
بقلم عبد الله المتقي

القصة المغربية

ماذا تريد من قصتك القصيرة أيها القاص المغربي؟

سؤال سعينا من خلال طرحه على أقلية هائلة من القصاصين المغاربة، إلى القبض على الهدف من كتابة هذه الكبسولة القصصية، وتقريب القارئ من مائها

مصطفى يعلى

لا أريد من قصصي أن توصف بأنها مكتفية بذاتها، واقع بينها وبين مصادر تجربتها الخارجية طلاق بائن.

ماذا تريد من قصتك القصيرة؟. سؤال جدي ومحرج، لم يسبق لي أن واجهته بالوضوح المطلوب، رغم كل السنوات الطويلة من معالجة هذا النوع السهل الممتنع من أسرة الجنس السردي. لكن عطفا على هذا السؤال، يمكن التساؤل أيضا: ترى ماذا يكون هدف كاتب من العالم الثالث والرابع والخامس... من أداة تعبيرية مثل القصة القصيرة؟.

بالنسبة لي، يمكن القول بأن الهدف من كتابة القصة القصيرة قد تطور لدي، وفق محطات معينة مشروطة بظروفها التاريخية العامة، اختلف فيها الوعي بالواقع ورؤيته من مرحلة إلى أخرى من مراحل تاريخنا المعاصر، أوجزها على الصورة الموالية:

1 ـ الفترة الممتدة بين أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، أي مرحلة المراهقة، عندما كنت أترسم خطواتي الأولى في معالجة القصة القصيرة. فقد كان التعاطي مع هذا النوع السردي المهيمن في تلك الفترة، يتم ـ صراحة ـ تحت دافع إثبات الذات، الذي كان يتغذى على إغراء الاستجابة لنرجسية المرحلة، لاسيما وأن الكتابة والنشر غداة الاستقلال كانا يعتبران امتيازا، يوفر مكانة اعتبارية خاصة في عالم من الأمية والفقر والتخلف، هو محصلة دأب المستعمر الغربي على ممارسة عملية استنزاف خبيثة دامت عشرات السنين.

2 ـ بعد ذلك، وبدافع الاستجابة الذاتية لروح السبعينيات المضمخة بالصراعات الإيديولوجية المتعارضة، واستمرار بصمات الاستعمار القديم / الجديد في التحكم بمقدراتنا، انصرف الهدف من الكتابة القصصية لدي نحو التمركز حول واقع المسحوقين والتعاطف مع المهمشين، مثلما يبدو من معظم نصوص مجموعتي ( أنياب طويلة في وجه المدينة ) الصادرة سنة 1976، و ( دائرة الكسوف ) الصادرة 1980. لكن بروح التزامية حرة، لا تسترفد حوافزها من أي توجيه حزبي أو سياسي معين أو ما أشبه، بما في ذلك القوى الحزبية الوازنة والمتسيدة في الفترة، والمتحكمة يومئذ في منابر النشر الفاعلة.
3 ـ ومنذ الثمانينيات حتى الآن، هيمن مقصد مختلف على هذه الهدفية، بسبب تطور حركة الحياة ومرفقاتها من الإكراهات والمتغيرات والتحولات المتسارعة، وإن لم يبتعد عن سابقه جذريا. أعني استكشاف غرابة الواقع وتجسيد بعض تفاصيلها وشكلنة فوضاها سرديا. هذا الواقع الذي يتوهم الناس أنه مألوف وصميمي، بينما هو محموم بخرق هذه الألفة إلى درجة الجنون، ويمتلك منطقه الخاص، الساخر من القيم النبيلة والسلوك البشري والحس الإنساني وما إلى ذلك. وفي ارتباط بهذا، وأمام صراعات الواقع اليومي وتناقضاته المستجدة، الناتجة عن تعقد الحياة عامة، وما تحدثه من قلق وضغوط وتوترات، أصبح السعي لاستعادة التوازن النفسي بواسطة الكتابة، هدفا رئيسا يغلب على غيره فيما أكتبه، كما تشهد معظم قصص مجموعتي ( لحظة الصفر ) 1996، و( شرخ كالعنكبوت ) 2006.

وبصورة عامة، إنني لا أريد من قصصي أن توصف بأنها مكتفية بذاتها، واقع بينها وبين مصادر تجربتها الخارجية طلاق بائن. فقد كنت دائما مقتنعا بأن القصة القصيرة باعتبارها خطابا ذا مكونات مخصوصة، مثله مثل أي خطاب أدبي وفني آخر، ينبغي أن تجمع وظيفيا بين الإفادة والإمتاع، انطلاقا من طبيعتها الجمالية وارتباطها بسياقها التاريخي ومجموعتها الاجتماعية المهمشة.

محمد عزالدين التازي

أريدها مجربة لتقنيات جديدة لم تمارس بعد

أريد من القصة القصيرة أن تكون وطنا للكلمات، تشرق بالكائن والمستحيل، تنبني على تخييل العوالم بما يمَكِن من اقترابها من الواقع وابتعادها عنه في آن.

أريد للقصة القصيرة أن تكون برقا خلبا أو تجليا وأريد لها أن تقترب من المحكي الشعري وأن تحفل بالصور والإيحاءات وكل ما يلغز العالم ويكثفه، وأريد لها أن تحتفي بالتقطيع المشهدي والصورة وبلاغة الصوت وأن تحتفي بعوالم الحلم وان تستفيد من طرائق الحكي في التراث الشعبي.

أريد لها أن تبقى على خبرتها بالتقنيات، مجربة لتقنيات جديدة لم تمارس بعد.

أريد لها أن تكون مبهجة للقارئ مولدة لديه الصور والأخيلة والعوامل ا

حسن البقالي

أريدها قصة تقتات من عشب التنوع الدائم

هذا السؤال المركز كمستقطر قصة قصيرة جدا يحيل على ثلاث أذرع للكتابة:

القاص/الكاتب

المغربي/الانتماء

القصة/الجنس الأدبي..

وهي أذرع تناسب بشكل جيد الجسد الذي أريد للقصة أن تفصح عنه..

أحيانا أرى القصة امرأة, وأحيانا أخرى قطة, وثالثة شجرة..لكنها في غالب الأحيان امرأة تطارد قطة تهوى تسلق جذوع الأشجار..

رحلة البحث تلك(عن قطة بين الشجر) هي ما يبقي جذوة الإبداع مشتعلة ضدا على كل أنواع الإشباع الذاتي والركون إلى المنجز..فتاريخ الفن عموما هو تاريخ البحث المتواصل عن أشكال جديدة تتجاوز القائم إلى المأمول..تاريخ للقلق الذي لا يعرف الهدوء ولا ينبغي له..لذلك فكل قصة هي قوس موتور, مناهض للرتابة والملل والتوقع..حية تستبدل جلدها باستمرار للحفاظ على شبابها ونضارتها..

وكل بحث هو في مرحلة من مراحله حفر في التربة وهبوط إلى "القرية المدفونة من أجل إعادة بنائها"..ارتماء عبر فوهة البركان بعد ترك النعلين كشاهدين.

أريدها قصة تقتات من عشب التنوع الدائم..مؤسسة على مبدأ للجحود والضغينة المتبادلين بينها وبين كاتبها..ما إن تنسل من يده, مستجيرة بالمتلقي, حتى يبدأ الرشق بالحجارة , وتبدو الثلمات والعيوب, من أجل استكمال مسيرة البحث..
قصة تحفر في المحلي كي تحكي العالم.

تكور الكلمة إلى جانب الكلمة وتدفع بها إلى نهاية الكلام وبدء الأثر.

محمد فاهي

أريد من قصتي أن تأخذني بعيدا،وعلى الدوام

أريد من القصة أن تنتشلني من سلط المؤسسات الظاهرة والخفية...وأن تقول لي:لست أنت يا محمد في اغلب أوقاتك التي تمر..وان تأخذني من ألفة الخضوع للمعتاد والروتين...وتزوغ بي إلى تلك اللحظات

التي استأنف فيها خطواتي المتوقفة على الورق، وحيدا وحرا

أريد من قصتي أن تأخذني بعيدا، وعلى الدوام، مثلما تأخذني في نوبات، ولا أبقى في محطة الانتظار..

وان تعرف أنني اخترتها –قصيرة أو طويلة- لتكون عالمي وفضاء لوجودي؛ ففي هذه الحياة العابرة

لا يبقى للكاتب أحيانا إلا الحلم في المنام وحدة وحرية ملتبسة في واقع يستنزف حد البلترة المادية والوجدانية.

قد احمل قصتي ما لاطاقة لها به،لا نني أعدني وإياها جسما واحدا، لذلك أكلفها دفعة واحدة بان تشحذ إرادتي للحياة،ساخرة –ما أمكن- من الكوابح...

وتنقلني إلى صفحة أو بعضها،ينبت فيها الجمال، بعيدا عن الرداءة التي تصاحبنا كطقس يومي...وتكون منداة بالكثير من الحب ضدا على الكراهية التي يؤسس لها بأقنعة متعددة، على هوامش النص، في حروب مشوهة ورثت أسوا مافي الحوار والنقاش والإنصات، في النقد والسياسة معا....وتقودني إلى الإنسان مغمورا تحت غبار الايدولوجيا، في رحلته التاريخية والتباساته الفردية والاجتماعية.....وتسكن في عش الهوية،مثل طائر واثق من السماء والشجرة..وعندما تمتلئ بفرح الوجود، المشع من الانتماء إلى كل تلك الهويات، تهتف مبتهجة بالحياة

مهدي لعرج

أريدُ فصة ترنو و تحدق , و لو في الفراغ.

هل نستطيع يوماً كتابة قصة قصيرة تقول كلَّ شيءٍ؟ قصةٌ فيها الذات و الموضوع، الألم و الفرح، الماضي و الحاضر و المستقبل، قصة تمتع وتفيد. قصةٌ بقدر ما تصرخ و تحتج بمضمونها تثير الدهشة والإعجاب بجمالية الشكل و طرافة الفكرة وأصالة الرؤية و المنظور. قصةٌ يعبر القاص إليها و ليس منها إلى غيرها. قصةٌ يتصالح فيها الشعرُ و النثر. قصةٌ لا هي بالطويلة حتى تُمَلُّ، و لا بالقصيرة حتى تُخِلُّ، عوانٌ بين ذلك. قصةٌ يجربُ فيها القاص طرائق الرؤية و أساليب الكتابة و طاقة اللغة لصالحها و ليس لمصالحه. قصةٌ يكون فيها السردُ سرداً و الوصف وصفاً و الحوار حواراً. قصةٌ منفتحةٌ على مختلف التجارب الإنسانية، في مهب التطور دائماً. قصةٌ يمكن أيضاً أن تقرأ فيها الأجيال القادمة الآلام و الانتكاسات العظيمة للأجيال الحالية. قصةٌ تمتزج فيها كوابيس الأحلام برجات الواقع. قصةٌ تصبح السخرية فيها عين الجدِّ و الجدُّ بعداً جمالياً للسخرية.

هذا ما أريده من قصتي القصيرة و أكثر. إذ ماذا يعني أن نكتب و نحن ننتظر قارئاً ما؟ أصبح الكاتب هو الذي ينتظر قارئاً قد يعثر عليه بالصدفة ! أريد إذن من قصتي أن تنخرط في رحلة البحث عن قارئها. عن قارئ لم يستنفد طاقته بعد أبحثُ. قارئ يحتج و يغضب و يصرخ و يفرح فتنفتح أمامه الآمال مثلي. قارئ يسهده الهمُّ ماضٍ كالسهم خفيفٌ كالزَّلَم، عينُهُ كذلك على يوم اللقاء العظيم. أريد قصة لا تصفُ و تحكي فقط، أريدُ قصةً أيضاً ترج. قصةً شاخصة العينين، جاحظة المقل، ترنو و تحدق , و لو في الفراغ.

ورالدين محقق

أسعى،للقبض على السمكة الذهبية كلما بدأت في كتابة قصة جديدة

أن تكتب قصة ما،معناه أنك تعيد تشكيل اللغة وما وراء اللغة،بغية أن تحكي حكاية لا تمت إلى الحكايات السابقة بأية صلة، معناه أنك تريد أن تصطاد سمكة أبريل في يوم ربيع لا يكف المطر عن الهطول فيه، ولا تكف العواصف والبر وق عن الحضور ضمن التشكيلات التي يصنعها أو تصنعه. ذلك أن كتابة القصة هي أشبه بإعادة خلق لأسطورة عيشت في زمن لا أسطوري، في زمن منفلت باستمرار ولا يرغب في النظر إلى المرآة حتى لا يتم القبض على صورته المنفلتة تلك.
و أنا أكتب القصة، أتحول إلى صياد سمك، كما في كتاب "ألف ليلة وليلة"، أصطاد من حين لآخر، بعض السمكات،من مختلف الألوان الأزرق والأحمر والأصفر والأبيض، أصيد سمكا مختلفا، حين أضعه في مقلاة الكتابة، يتكلم بكلام سحري لا أعرف كنهه قبل أن يموت، مما يدفعني للبحث من جديد عن سمك آخر أكثر بهاء وأبعد فتنة، لكن ما أن أضعه هو الآخر في ذات المقلاة السحرية التي لا يمتلكها أحد غيري، فهي مقلاة مكتوب عليها اسمي الشخصي قبل أن أولد،كما تقول الأساطير التي نحيا بها، على مستوى التخييل الرمزي،حتى يعلن هذا السمك العجيب الغريب نفس الكلام السحري السابق،ملتفتا إلي وداعيا لي لمعرفة سر أسراره. وفي عملية البحث هاته، تتشكل الأسماك واحدة وراء الأخرى،حتى يكتمل طجين السمك، فأقرر تقديمه للضيوف، الذين ليسوا في واقع الأمر سوى قراء القصص، وأكلة السمك الأبريلي الوهمي. ومع مرور الوقت وتكرار التجارب بدأت أقترب يوم وراء الآخر من مكان هذه البحيرة السحرية التي يسكن فيها هذا السمك، وتكونت ألفة بيني وبينه، بحيث أصبح من يرى هذه الأسماك،وهي منشورة في الصحائف اليومية يعرف أنها لي، دون حتى أن يقرأ توقيعي عليها.

إنها لعبة الكتابة، لعبة القبض على الذي يأتي ولا يأتي، و بما أن القصة هي شكل من أشكال هذه الكتابة، فهي أكثر أنواعها انفلاتا، لسرعة تحركاتها على الجسد الأيقوني ورقا كان أو شاشة الكترونية، فهي تقترب من الشعر من حيث اللغة دون أن تكونه، وهي تقترب من الرواية من حيث الكون، دون أن تكون جزءا من هذا الكون، لأنها ببساطة تمتلك كونها الخاص بها. إنها جنس منفلت، وهي في عملية انفلاتها تحقق وجودها الرمزي، ذلك الوجود المراد اصطياده أو تصيده، الذي ما أن يخال القاص اقتراب القبض عليه والسكن داخله، حتى يتحول إلى سراب، ويحل العطش بدل الارتواء، وتضحك السمكة، ذات السمكة، قبل أن تلفظ أنفاسها في الأول من أبريل، من كل عام.

لكن ماذا أريد من القصة، من القصة التي أكتبها تحديدا؟ لا أدري، ربما الرغبة في القبض على حلم رأيته ذات لحظة زمنية وأعجبني،فأردت السكن في قلبه وهو نائم، ربما تحقيق فتنة اللعب داخل بحيرة التخييل، واصطياد أسماكها السحرية، وتحويلها إلى حكايات أبريلية فاتنة، ربما الافتتان بلعبة الحكي ذاته، إذ غيابه يعني الموت بالنسبة لي، كما في كتاب "ألف ليلة وليلة"، فأنا أحكي لأولاد آتين من زمن المستقبل، وهم يتشكلون على الأقل في ذهني من خلال هذه القصص التي أكتبها، وأخال أنها قد تصل إلى تحقيق هذا الوهم الجميل. لكن ما أنا متأكد منه، هو كوني أسعى في عملية الكتابة هاته،للقبض على السمكة الذهبية، التي تتراءى لي كلما بدأت في كتابة قصة جديدة، وتختفي عن ناظري كلما انتهيت منها.

عبد الواحد كفيح

أحب ا ن تكون قصتي مكنستي السحرية

أحب ا ن تكون قصتي مكنستي السحرية التي أغزو بها عوالم عذراء مدهشة، دون تأشيرات ولا جوازات سفر.أتعقب عبرها اللحظات المنفلتة مني طوعا أو كرها، وحين أضع نقطة النهاية تكون البداية، محاولا، في عراك دائم،القبض على ذاتي التي تفر مني يوميا.كل هذا بلغة ساحرة جذابة تكثف المعاني وتعريها فيبدو العاري منها متمنعا والرمزي فيها سهلا ممتنعا، تشد قارئ قصصي وبأسلوب شفيف يورطه في إعادة تشكيل البناء الفني للنص مرة أخرى، لجعله فاعلا ومنفعلا، دون الركون إلى التلقي السلبي، بلغة مطواعة تجري بسلاسة على السنة كل الشخوص، كيفما كانت فئاتهم وطبقاتهم ومهنهم.وان لا تكون(القصة) إبحارا بلا خرائط، بل فضاؤها عوالم الهامش والمهمش. عالم شقاوة الأطفال وكل المعذبين في الأرض. قصتي لا وجود فيها لرائد نرجسي أو زعيم بورجوازي أو سلطان جبار متغطرس. قصصي مأوى المهمشين والمنبوذين وكل من لا مأوى له. أريدها أن تكون مملكة أمراؤها،أولئك القاطنون تجاويف النسيان، الساقطون من لوائح التلقيح و الإحصاء، الباكون في ليلة عاشوراء و الراقدون على أمل طبخ ما بالقدر من ماء.قصصي تجعلني كما جدتنا شهرزاد-أؤجل موتي ليلة أخرى، لذا أريد أن تحضر فيها الحكاية للقص لا للحكي، حكاية ولا حكاية، لا نهاية لها ولا بداية، مستديرة تماما كالبحيرة،لامدخل لها ولا مخرج،على حد تعبير الوجه العزيز. قصة، تعبر عن واقع معين بتفاصيل بسيطة موغلة في العمق، يقصها سارد أحول،تارة مطواع وتارة، حرون، جموح، لا يكتفي باليومي والعادي والمتكرر بل مهووس باستغوار البسيط المألوف،وقدح زناده -كما مصباح علاء الدين- ليغدو مركبا ومربكا، يلمع بالدهشة والغرابة.

ميلود بنياقي

أريدها كائنا هلاميا، زئبقيا، يخرج من الحلم والهلوسة وجنون الصراع

أريد من القصة القصيرة أن تطرد النوم عن عيون الصغار وأفئدة الكبار إذا تحلقوا حولي في ليالي الشتاء الباردة الطويلة، ليالي البؤس المستشري من حولي وحولهم في هذه البيضة الأرضية، التي كلما توغلت فيما نظنه تقدما، كلما غطست في الوحل واختنقت بالنزاعات والويلات والأطروحات السياسية والإيديولوجية والدينية المضحكة المبكية، الطافحة بالتخلف والتفاهة.

لا أريد من الحكي أن يؤجل موتي المحتم، فلست أنثى يتربص بعنقها سيف جلاد، بل أن يعيدني لنشأتي الأولى، أن يحيلني نطفة ويلدني في يوم أختاره بنفسي، لأطلق علي اسما يليق بأوهامي وأشرب نخب ولادتي مع مدعوين أنتقيهم بعناية، أو بقلة ذوق.

أريد من القصة القصيرة أن تحيك من الصخب صمتي، وتستل من الزحام المفرط خلوتي، وتنشئ الكون والكائن من فراغ الروح وخواء الذهن.

أريدها كائنا هلاميا، زئبقيا، يخرج من الحلم والهلوسة وجنون الصراع اليومي، وسيتعصي على الإمساك والتصنيف، وكلما جلوته وصقلته، كلما أمعن في الغموض. فلا هو نثر حق ولا هوشعر حق. لا هو حكاية ولا هو ضد الحكاية. لا هو شخصيات ترى بالعين المجردة، ولا هو أطياف غير مرئية. لا تجريب و لا تقليد... بل هو كما شاء لنفسه، كائن لغوي شب عن طوق اللغة فلبس عباءة الحلم واعتمر جبة الوهم وراود الغيب عن نفسه فارتاد بذلك سبل المهالك والمزالق.
كائن غريب، رغم قصره المزعوم، يسع العالم وما حمل. وكلما تسارع نبض هذا العالم وتعقدت مسالكه والتبست نواياه، كلما صار هذا الكائن أقصر وأقصر، حتى سمى نفسه"قصة قصيرة جدا"، لكنه لم يصبح قزما أبدا. اتسعت أمامه الرؤيا فضاقت العبارة أمام فجيعة الدهشة وألم القلق وحرقة السؤال

أريد من القصة القصيرة أن تذيب هذا الثلاثي الرهيب: الذات واللغة والمحيط في إناء زجاجي وتنشئ منه خلقا جديدا واحدا يقتسم الرصيف مع أحذية العابرين إذا زفه الناشر للموت المتربص به في كفن من ورق

زهور كرام

لو كنت أعرف ما الذي أريده من كتابة الإبداع،ربما ما كتبت إبداعا، وإنما شيئا آخر غير الإبداع.

هكذا، هي علاقتي مع الإبداع. تأتيني حالة صادقة مع الذات، فأكتب شيئا.في البداية جاء في صفة الرواية، فقرأت ما كتبت، وقرأت ما كتب حول ما كتبت فاندهشت. واندهاشي تعبير بليغ على أني حين كتبت نصوصي،لم أكن أدر ما الذي أريد كتابته. ثم جاءت نصوص فأخذت لون القصة القصيرة مع المجموعة القصصية مولد الروح. فانتبهت إلى أن هدا الشئ الذي يملأني أسئلة وهما وهاجسا، يبحث له عن أشكال تعبيرية لكي يتجلى ويغتسل من الصمت. وعندما اندهش من هدا التجلي الإبداعي، لحظتها فقط أدرك ما أريده، وهو إدراك ليس في معنى الوصول إلى قرارات حاسمة،إنما أدرك شكل وعيي الذي أحمله، ولا يتجلى في الواقع وفي الكتابة غير الإبداعية.

القصة القصيرة جعلتني أدرك أن المشاعر، يمكن لها أن تتحول إلى قصة وحكاية، تجعل الحدث تابعا لها، أو تجعل الحدث غير مفكر فيه إلا بناء على حكاية المشاعر. عندما أعيد الآن قراءة قصص مولد الروح اندهش من طريقة تعبيري، وكيف أحمل تصورات حول قضايا اجتماعية ومواقف إنسانية، تلك القضايا التي أحيانا مع غلبة زمن الاستهلاك أتوهم أني تجاوزتها في تفكيري،وأصبحت عادية ومألوفة وسهلة الهضم، فإذا بي أجدها ما تزال تنحت وجداني ورهاناتي، وما تزال تشكل أسئلتي وهواجسي.

ما أريده شيئ، وما تشخصه القصة أو الإبداع شيئا آخر. وبين الإرادة أو الرغبة ودهشة الكتابة تمتد مساحة الاكتشاف, اكتشافي أنا، واكتشاف الإبداع لنظامه الذي لا ينصاع إلى وصفة تابثة، بقدر ما ينفتح على مفاجآت الذات المبدعة.
مع دلك، أحلم دائما أن تنجح كتابتي في احتضان أفقي، ألا تزيفني كتابتي، أن تكون صدى الوعي الذي أكونه لحظة الكتابة. أريد أن أشبهها أنا، لأنها من وحي الزمن المنفلت من المادي. زمن الصحو الذهني والرمزي حيث لا مكان للوهم والإغراء. أريد أن أنتمي إلى قصة تجعلني في الذاكرة واللغة والوطن.أريدها أن تذكرني دائما بزمن الصحو، وأني ما بلعت لغة كواليس الزمن، وأني على درب الألق أمشي، أن تذكرني بأني ما انتميت إلا إلى زمنها، زمن الإبداع الخلاق الذي يروضنا على عشق الكرامة والحرية والشموخ في الرهان


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى