الأربعاء ٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٤

ابو جحيش والاوغاد

بقلم جميل مسكه

كان كبارالبلد وصغارها يسمونه ابو جحيش ولا احد يعرف سر إقران كلب بنعت حمار. منهم من يقول كبر راسه المتدلي من عنقه اخذا نصف حجمه, او لعل تثاقله وبلادته, او لأنه يجلب النحس والشؤم حيثما حل. والغريب ان هذا المخلوق البائس لم ير يوما يعاشر ابناء ملته وهم في بلدنا اكثر من مزابلها بل كان يتعقبنا ويلاحقنا اينما ذهبنا. فان كنا في طريقنا الى المدرسه سار خلفنا متعثرا على قوادم ثلاث محافظا على مدى يحميه من حجارة كانت تنزل عليه وبالا كلما لمحناه. واذا كنا نغافل ام ابراهيم ونتسلل الى حاكورتها نسترق خيارة او حبة تين تبوأ ابو جحيش كومة الزبالة المقابلة وطفق يراقبنا. اما اذا لعبنا في البور القرعه التي صنعناها من ورق الجرائد وبعض كتبنا القديمه حيث كنا نلت الورق ونكوره ثم نحشوه في كيس نايلون فتطلع اشبه لقرعة منها بكرة فنلعب بها ونلهو, اتخذ ابو جحيش مربضا له تحت شجرة الجميز اليتيمة, يطل علينا منه ولا يتزحزح الا اذا تدحرجت القرعة فارة منا هرول خلفها تفحصها بانفه ثم حملها باسنانه والقاها خلف مرمى احمد الاصلع وعاد بالتو الى مربضه يراقبنا من جديد.

كان احمد اصغرنا سننا فقد شعر راسه والحاجبين إثر مرض ألم به في سنين طفولته الاولى فاستحق عن جدارة إسم ابو صلعه .

اما اذا كنا بحاجة إليه ناديناه ابو حميد, وكانت الحاجة تزداد إليه عندما يصر كل فريق منا الايثار به كحارس مرمى , إذ انه كان امهرنا في هذا المجال وغالبا ما بقى مرماه بكرا. وهو الوحيد الذي لم يوجه جام حجارته الى ابو جحيش منذ ان اصاب ساقه بحجر لعين بل صار كلما لمح عضمة او كسرة خبز التقتها فرحا ونفخ عنها ما علق بها من رمل وغبار وقذفها باتجاه ابو جحيش الذي كان يلتقفها هازا ذيله شاكرا.

كان ابو جحيش كلما مر امام بيت تطير اهله واذا شم لهم وعاء او لحسه نهروه وغسلوا الوعاء سبع مرات او استعاظوا عنه اذا كان قديما وباليا, وازداد الناس تشاؤما منه بعد ذيوع قصة تبوله على عتبة الجامع. وقد شاء له حظه العاثر ان تكون فعلته تلك وقت خروج المصلين من صلاة الجمعة, فهاجوا وماجوا وعلا السباب والضجيج كأن الهلاك الاكيد حل بالبلد واهلها فهرعت نساء الحي تطهر بالدعاء والماء والصابون موضع النجس, واسرع الاطفال خلفه يرجمونه بالحجاره ويضربونه بالعصي حتى وقع على قفاه فبان عضوه صاحب الفعلة الشنعاء, فاحمرت وجوه البنات وتدافعن ضاحكات وتمادى الاولاد ولولا وصول ام ابراهيم في الوقت االمناسب لقضى بين ايديهم.

كانت ام ابراهيم قد ردت الطبخه على النار وانهمكت كعادتها في تعشيب حاكورتها حيث وصل الى مسامعها صدى هرج ومرج فهرولت معجلة تستقصي الخبروهي ما زالت تعقد الخرقة على راسها وثوبها مشمر عن خاصرتها. ولما رأت الجسد الطريح يرتعد اسود وجهها وتجعد جبينها وضربت كفا بكف فتبعثر التراب االعالق بهما في وجوهنا وصاحت باعلى صوتها ,, اتقوا الله يا اولاد الاحرام؛ ماذا فعل لكم هذا المخلوق المسكين ؟ فاجبنا باعتداد من قام بواجبه – لقد نجس االجامع – إن شاء الله ينجس رؤوس اهلكم؛ قالت مزمجرة والتقتت عصى وهجمت علينا فاندفعنا مولولين هاربين لا نفهم سر هذه المودة الطارئة. لكن في صباح اليوم التالي كان ابو جحيش قد نسي او تناسى الحادثة ووقف ينتظرنا كعادته عند باب المدرسة فلما رانا هز ذيله وانحنى جانبا محافظا على مسافته المعهوده.

مع حلول السنة الجديدة كانت الانتفاضة قد عمت البلاد بطولها وعرضها, حتى قريتنا الراكدة منذ مئات السنين على سفح جبل ولا يصلها بالدنيا غير طريق ترابي ضيق وانتينتا تلفزيون وتلفون المختار, نهضت تنفض عن وجهها غبار السنين العاتية, فشمخت الاعلام على السفوح الجرداء وازدانت الجدران الكالحة بشعارات قانية اخرست المختار والامام واولي الامر واصبح الحل والربط من شأن اللجان المختصة التي انتشرت في كل حي وزقاق. فام احمد وام سعيد شكلتا مع بنات المدارس لجانا للمرأة وساهمت ام ابراهيم مع بعض النسوة والرجال بتاسيس لجنة للزراعة كما اشترك المجبر خليل الراعي والقابلة حسنه بوضع حجر الاساس لاللجنة الصحية واصرحالفا الطلاق تلو الطلاق ان يكون بيته مقرا لها. اما نحن صغار السن اعتمرنا الكوفية مع الشباب وقمنا مع بزوغ الفجر نشعل الاطارات ونرشق سيارات الجيش باالحجارة والمولوتوف ثم عدنا بعد كل مواجهة الى القرية ندبر امورها مع غيرنا.

يبدو ان ابو جحيش احس بالتحولات الجارية بالبلد وادرك كنهها اذ انه غدا يجسر على اجتياز الحاجز المرسوم له ويدنو منا بل انه اصبح يلازمنا كفرد منا ولكنه كان يرتبك وتختلط عليه الامور حين نفترق فيحتار اي فرقة يتبع وغالبا ما كان احمد الاصلع يسعفه من حيرته بصفرة حانية.

كانت جموع الناس ما زالت تتوافد الى ساحة البلد رافعة الرايات واللافتات حيث من المقرر ان تنطلق المسيرة الجماهيرية,. الهتافات تنادي للحرية وسقوط الاختلال.اقتربت ثلاث سيارات مصفحة قفز منها جنود مدججون بالسلاح لم تخفي الكمامات القبيحة الحقد في وجوههم واخذوا يطلقون النار وقنابل الغاز على الجموع العزلاء.فتصدت لهم الجماهير والقوات الضاربة بالحجارة والمولوتوف. وقع شاب يقبض على حجر على الارض والدم يسيل من ذراعه. هب الناس لنجدته فالقى الجنود قنبلة غاز عليهم وجروا الشاب من ذراعه المصاب وهم يضربونه بالعصي واعقاب البنادق فسقط اللثام عن وجهه. صرخت ام احمد وهبت لتخليص ابنها من قبضتهم فانهالوا عليها بالضرب ولكنها الصقت به تشده اليها وهي تصرخ لن تاخذوه!

فجاة انطلقت صرخة اخترقت عنان السماء ويزعم اهل القرى المجاورة بل منهم من يحلف اغلط الايمان انهم سمعوا زأيرا صم اذانهم = وقعت ام ابراهيم على ظهرها محتضنة ولدها الجريح فابو جحيش الذي لم يشعر بوجوده احد كان قد وثب صارخا عن عتبة الجامع وغرز اسنانه في عنق احد الجنود فافرغ الاوغاد حقدهم في جسده فسقط مدرجا بالدماء.

بقلم جميل مسكه

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى