الجمعة ١٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم محمد متبولي

أعشاش وإناء

مرة آخرى يعود إلى الحى ويقف يتابع المارة من شرفة المنزل القديم مثلما كان يفعل فى الصغر، يتذكر ما كان وما أضحى ليكتشف كيف تبدلت الأحوال، فالشارع الرئيسى اخذ سبيله فى التطور من ترعة زراعية إلى شارع ترابى ثم مدق مكسى بالدقشوم قبل أن تمتد إليه أيادى الرصف، والذى اعتبره قاطنى الشارع خطوة سابقة لأوانها، فكلما شرع فى مد شبكات المياه والصرف والتليفونات تهدم الشارع من جديد، ليستقر الأمر فى النهاية ويحصل الشارع على لقب المرصوف، أما المسجد فبدأ بمجموعة أعمدة حديدية فوقها لوح من الصاج، ثم تكاتف أهل الحى لانشاء القواعد والجدران مع الابقاء على السقف الصاج، ومثله مثل الشارع بدأ المسجد رحلة التطور، ليصب السقف وتنشأ المأزنة وتتعدد طوابق المسجد، ويفرش بأفخم أنواع السجاد ويرصع بأزهى وأرقى النقوش الإسلامية، إلى أن ينتقل نقلته الكبرى بانشاء دار المناسبات ومشفى للفقراء ثم المعهد الدينى ليصبح المسجد مجمعا إسلاميا عملاقا.

أما تلك المنازل الصغيرة فقد تبدل حالها هى الأخرى، فعلت طوابقها، وهدم بعضها وبنى على أثره عمائر شاهقة لم يعتد الحى على رؤيتها من قبل، وهؤلاء المارة إنه يعرفهم جميعا كانوا يوما ما يلعبون الكرة الشراب حفاة وقد قضى تراب الشارع على بعض النظافة التى كانوا يخرجون بها من بيوتهم، فاتسخت أقدامهم وأيديهم وثيابهم إلا أن السعادة كانت تعلو وجوههم التى اضاع التراب ملامحها، وربما ازادت مياه الصرف سعادتهم بغمرها الحى كالمعتاد فتصبح مكان ملاءما لتسيير مراكب الورق، منهم من أصبح حرفيا ومنهم الطبيب والمهندس والمحاسب ومن بدأ يشق طريقه فى الصحافة، أغلبهم ترك الحى ولم يعد يأتى إلا لزيارة من تبقى من أقاربه، أو من أجل سهرة الخميس الموعودة التى تجمعهم على اختلاف مراكزهم ومهنهم، يلعبون النرد ويشربون الشيشه ويتسامرون.

إلا أنه ترك كل ذلك وركز على سبيل الماء أمام المسجد، الذى بدأ كصنبور صغير يتوضأ منه المصلون، وأخذ يتطور حتى أصبح سبيل متعدد الصنابير بقاعدة رخامية جميلة، ومع كل مرحلة من مراحل التطور لم يفارقه منظرها، فينظر نحو منطقة الأعشاش على أطراف الحى التى جال مرة واحدة فيها فى حياته، هناك رأى أناس غير الناس، يتحدثون بلغة كأنها غير اللغة، ويحيون حياة غير الحياة، ولم يعلق فى ذهنه من كل المشاهد التى رآها هناك سوى تلك الرائحة الكريهة والتى كان يشمها كلما تذكر ذلك اليوم، ومشهدها وهى تخرج من تلك المنطقة حاملة الإناء الفارغ، مرتدية عصابة الرأس، والخف البلدى شبه الممزق، وجلبابها الأسود الذى تتجسد من تحته ساقيها كلما اسرعت فى السير مما يدلل على عدم ارتداءها أية ملابس آخرى تحته، متوجهة بجسدها النحيل ووجهها الذى يخلو من أية علامة للجمال أو الزينة، للصنبور العمومى تملئ الإناء ثم تعود من حيث اتت.

ما هى إلا لحظات حتى تظهر أمامه من جديد، نفس الملابس، نفس الإناء، نفس طريقة السير، نفس النظرة والوجه كما لو أن الزمان توقف كل تلك السنين، فلم يتغير فيها شيئا سوى انحناءة الظهر وبعض تجاعيد الوجه، ملئت الاناء وعادت للأعشاش من جديد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى