الأحد ١٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم عبد الرحيم حمدان حمدان

اللغة الشعرية وتجلياتها في (البحث عن أزمنة بيضاء)

تُعَبِّرُ رواية" البحث عن أزمنة بيضاء" عن مرحلة جديدة في مسيرة الروائي الفلسطيني غريب عسقلاني الحافلة بالعطاء الأدبي، وتكتسب هذه الرواية أهمية خاصة؛ لكون بنائها الفني أقرب ما يكون إلى رواية السيرة الذاتية؛ التي تنهض على تقديم شكل سردي حديث تتقاطع فيه الرواية مع السيرة الذاتية، وهي من هذا المنحى تعد إضافة جديدة إلى ما سبق أن أبدعه الكاتب في السنوات التي مضت، إذ سبق له أن خاض مثل هذا اللون من الفن الروائي في روايته"جفاف الحلق" التي سجل فيها طفولته وسيرة أسرته التي طردها المحتلون الصهاينة من موطنها الأصلي مدينة"عسقلان"،وانتقلت لتعيش في مخيم الشاطئ بغزة، وحكى فيها التفاصيل الدقيقة لحياة الأسر الفلسطينية التي تعمل في حرفة النسيج(5).

وتكمن أهمية هذه الرواية في كونها واحدة من الروايات التي تمت بوعي المبدع ودرايته بجماليات الرواية وملامحها العصرية التي يعيد الكاتب فيها تأليف ماضيه، فهو ماض له خصوصيته ولونه وطعمه؛ ماض يمتد في الماضي، ويستمر إلى الحاضر، وفيه تطل الذات إطلالة زمنية ومكانية على مساحات بيضاء، وتمر بمحطات متنوعة، يتشابك فيها الماضي مع الحاضر من خلال بناء روائي متماسك بعيد عن التتابع الزمني والتسلل المنطقي للأحداث. ولا يكتفي الكاتب فيها بعرض مشاهد من ماضيه في شكل تسجيل سردي، وإنما يطرحه في سياق روائي جديد محاولاً إعادة اكتشافه من جديد.

يبحث الكاتب المثقل بالهموم والأحزان، المعذب بالغربة والضياع، المرجوم باللهاث الدائب عن بعض فصول حكاياته أو أطراف تلك الحكايات والمحطات الزمنية التي تحمل عبق ذكريات بيضاء مستثمراً في التعبير عن تجاربه الذاتية ورؤاه الإنسانية جملة من التقنيات الفنية الروائية مثل: أسلوب الاسترجاع والحوار بنوعيه: الخارجي والداخلي وأسلوب التقطيع، والترجيعات، والرسائل.

لعل من أهم ما يقف عنده القارئ من محطات بيضاء تلك العلاقة الحميمة التي ربطته في طفولته الغضة بـ"فارس" ذلك الروائي الشاب البطل الشهيد الذي تعرّف الكاتب من خلاله إلى أسرة"فارس" المكونة من والده القاضي، وزوج أبيه (لطيفة)، وأخته (شمس).

ربما كان دافع الكاتب إلى كتابة سيرته الذاتية هذه هو رغبته في العودة إلى الجذور، وتحقيق ذاته من خلال اشتداد البعد المكاني الذي قد يثير مخاوف استمرار انقطاعه عن وطنه، فقد كتب هذه الرواية وهو غريب مشرد لاجئ بعيد عن مسقط رأسه، وهو يري من حوله الكثيرين من أبناء شعبه مشردين، إذ احتل العدو الصهيوني وطنه، وشرد أبناء شعبه الذين تقطعت بهم السبل، واستحال على الكثير منهم العودة إلى الوطن، فجاءت روايته تعبيراً عن تجاربه الذاتية بخاصة وغربة الإنسان الفلسطيني بعامة.

تعد"الشعرية" ملمحاً بارزاً من ملامح الرواية الحديثة، وهي في مفهومها العام تشير إلى البحث عن الخصائص النوعية والقوانين العامة التي تمنح الأدب خصوصية مميزة تفصلها عن أنماط التعبير الفنية اللغوية الأخرى، خصوصية تتميز بأنها تنبثق من الأدب ذاته، وماثلة في أبنيته اللغوية التي تشترك الرواية فيها مع الشعر (8/ 79).

لم تعد مهمة الشعرية محصورة في النصوص الشعرية فحسب، بل بالنصوص الأدبية جميعها، لذلك أمكن الحديث عن شعرية الرواية والمسرحية والمقالة والسيرة الذاتية.

انسرب الأسلوب الشعري إلى ميدان الرواية الحديثة، فلم يعد يقف عند نمط الرؤية وموقع الراوي، بل تجاوزه إلي شعرية اللغة والسرد والمكان والشخصية والتناص والتقنيات الأسلوبية.

وفي محاولة الروائيين الجدد لتطوير أدواتهم الفنية الروائية، اتجهوا إلى إضفاء جو من الشعر على لغة الرواية عن طريق استثمار إمكانات اللغة الثرة، بوصفها عنصراً أساسياً في تشكيل البنية الفنية للرواية، ودعا بعض النقاد إلى العناية بلغة الرواية الحديثة عناية تقترب بها من جماليات لغة الشعر، وطالب أحدهم" بتبني لغة شعرية في الرواية، ولكن ليست كالشعر، ولغة عالية المستوى وتأسيساً على ذلك(10/ 115).

غدت"اللغة الشعرية" معلماً بارزاً من معالم الحداثة في الرواية العربية، وتجلى ذلك في اقتراب اللغة في هذه الرواية من لغة الشعر، فاستعارت طرائقه وتقنياته التي استخدمت هذا النمط من اللغة لسحرها وجماليتها وتوترها؛ بهدف التأثير في الذات المتلقية، من خلال السحر الذي تمارسه اللغة الشعرية وتجلياتها في الرواية إلى درجة يمكن النظر إليها، وكأنها نصوص شعرية، وقد تعددت مظاهر الحضور الشعري فيها ما بين لغة تصويرية ولغة وصفية إيقاعية ولغة غنائية انفعالية، ولغة رمزية، واستخدام واسع للمجاز وخروج عن المألوف في أساليب الربط، وتكوين العلاقات، وغير ذلك من سمات الشعر الفنية(1/ 100).

الدارس لرواية"البحث عن أزمنة بيضاء"، يتبين له أنها تنتمي إلى الكتابة الروائية الجديدة التي تبني حداثتها عبر أصالة فنها، واستكشاف الهوية، واختلاف الجنس الإبداعي، وقد حظيت من بين الروايات العربية الحديثة بنصيب وافر من مظاهر اللغة الشعرية وخصائصها الرئيسة، وهذه اللغة تعد الركيزة الأساسية التي يتكئ عليها الكاتب في روايته، وتأسيساً على ذلك يمكن رصد وجهين تجسد ت فيهما السمات الأساسية للغة الشعرية، وهما: شعرية العتبات، واللغة الشعرية في السرد، وسيعنى الباحث بالمقاطع الأكثر شعرية ذات التعددية الدلالية التي تخلق مساحة أوسع للتأويل دون أن يهمل لغة الرواية المألوفة المتعددة،

أولاًـ شعرية العتبات.

يقصد"بالعتبات" مجموعة العلامات التي تعد بمثابة مداخل تسبق المتن النصي, ولا يكون له دلالة مكتملة إلا بها، ومن هذه العلامات بالإضافة إلي غلاف الرواية العنوانُ الرئيس، والإهداء، والعناوين الداخلية للفصول، والمقدمة، وكل ما يتعلق بالمظهر الخارجي للكتاب: كالصورة المصاحبة للغلاف، وكلمة الناشر على ظهر الغلاف، وكلها عناصر توجه قراءة النصوص الأدبية، وتسهم بدور كبير في إثراء تأويل الملتقي لها، وسيقف البحث عند ثلاثة عتبات هي: عتبة العنوان، وعتبة الإهداء، وعتبة الغلاف الخارجي الخلفي للرواية.

أ – شعرية العنوان.

يعد العنوان عنصراً مهماً من عناصر العتبات النصية وملحقاتها الداخلية؛ لكونه مفتاحاً تأويلياًً، يرشد إلى الأبواب التي يمكن الدخول منها إلى متن النص، وانطلاقاً من هذا الفهم، فإن الدارس للرواية يقف أمام العنوان ليطل على عالمها، فعنوان الرواية المثبت على الغلاف الخارجي للرواية هو(.. أزمنة بيضاء)، وقد ورد في صورة جملة اسمية، هي خبر لمبتدأ محذوف دلت علية تقنية النقاط(..) التي لم يأت بها الكاتب عبثاً، وإنما لغرض فيه قصدية وتعمد، إنه يشي بأن ثمة كلاماً محذوفاً ؛ الأمر الذي جعل العنوان يعمل في فضاء مفتوح وموجب, يستثمر الطاقات الدلالية والتصويرية المشحونة بالإيحاءات والخيارات المتاحة أمام المتلقي لمفردتي العنوان" أزمنة/ بيضاء" وعلى أكثر من مستوى، التي منها: أن تجارب الكاتب الإنسانية كلها بيضاء، وان ذكرياته التي تنثال على ذهنه جلها ممتعة مفرحة،، أما مفردة"أزمنة" فقد جاءت في صيغة التنكير والجمع في آن معاً، أما التنكير، فيوحي في مدلوله بالشمول والاتساع، وتأكيداً لإحساس الذات الساردة بافتقادها والرغبة في العثور عليها، في حين أن صيغة جمع التكسير توحي بالتعدد والتنوع، ووصف الأزمنة بأنها بيضاء، يدل على توظيف الكاتب لدلالات الألوان وإيحاءاتها الخصبة، لا سيما اللون الأبيض الذي يرمز للأمن والسلام والسعادة والمحبة، ومجيء العنوان على هذه الصيغة التي تتميز بأعلى اقتصاد لغوي ممكن، ويحمل المتلقي على التأويل، يقوى شعريته، ويصبغه بطابع الشعرية.

ما إن يطأ القارئ صفحة الغلاف الداخلي، حتى يفاجأ بعنوان جديد ورد على صورة أخري هي:" البحث عن أزمنة بيضاء"، ومجيء هذا العنوان بهذه الصورة يقوي من قدرة العنوان على البوح والإفضاء بالمعنى، ويكثف من دلالته، ويبيح في الوقت ذاته للقارئ أن يسبح في رقعة أوسع من التأويل؛ لاستكشاف تعددية المعني وتنوع الدلالات، ذلك أن إضافة عبارة" البحث عن" لتحل محل تقنية النقاط(..) التي سبقت العنوان" أزمنة بيضاء"، وهكذا تجيء هذه الإضافة؛ بقصد تحميل العنوان دلالات أوسع وإشارات أرحب.

القارئ المتفحص للرواية، يتبين له أن اللون الأبيض ودلالاته هو اللون الغالب في الرواية جميعها، ويتردد اللون الأبيض بدلالاته المباشرة وغير المباشرة في غير موضع من متن النص، كما يتضح من هذه الشواهد: (الأيام البيضاء، الكف البيضاء، الريش الأبيض، الكوفيات البيضاء، لطيفة بيضاء،الزنابق بيضاء، القط الأبيض، الشراع الأبيض،الهمس الأبيض، المساحات البيضاء، السرائر البيضاء،والطير الأبيض، الوردة الجورية البيضاء، الطفلة البيضاء،الفستان الأبيض،النورس الأبيض، الدخان الأبيض، الفضة، الحليب، الثلج).

يرمز اللون الأبيض إلى انتصار الخير على الشر، والنور الذي يسحق الظلام والعتمة، ويبشر بالأمل والتفاؤل والإشراق.

إن استدعاء الكاتب لـلأزمنة البيضاء في العنوان، يوحي للقارئ بأن تجاربه وذكرياته ليست كلها ذكريات بيضاء، وأن ثمة أزمنة في حياته غير بيضاء، ولكن هذا المغزى لم يبح به العنوان مباشرة، بل ظل مستكناً وراء الدوال، وإن كانت أزمنته كلها بيضاء، فإن بياضها لم يكن نقياً خالصاً، بل كانت تشوبه شوائب متنوعة، وتعكر صفوه أمور متعددة، وأن أزمنته البيضاء قد اختلطت بأزمنة أخرى سوداء وحمراء، سلبت منها النقاء والصفاء والود والمحبة والطهارة والسكينة والطهر والبهجة والهدوء.

أما اللون الأسود، فيمثل طرف المعادلة الثاني (الخير- الشر) أو (الضياء – الظلام) ويمكن تتبعه بدلالاته المباشرة وغير المباشرة في العبارات الآتية:
:" أنا لست سوداء، متفجرة سوداء، حفر سوداء، الخدود السوداء، الغابة السوداء، القشرة السوداء،النقطة السوداء، العتمة، الظلمة، الحالكة، الليل، الليلكي).

يرتبط اللون الأسود بمعاناة الذات الساردة وهمومها ويعكس إحساسها بالفقد والغربة والتشظي والغياب، فالبطل يبحث في لهاث دائب عن أزمنة وذكريات بيضاء تضيء الحياة والظلام الحالك.

تكشف القراءة المتأنية للرواية عن انحياز الغلبة التعبيرية إلى اللونين الأبيض والأسود، وهذا يشير إلى ثنائية الصراع بين الخير والشر، والرؤية المهيمنة في الرواية تعكس الانتصار على عالم الظلام والعتمة والظلم، وخلق عالم نوراني مسكون بالضياء والنقاء والشفافية، ويوحي غلبة اللون الأبيض كذلك إلى تشبث الكاتب بالرجاء والأمل وإيمانه بان الغلبة لا بد أن تكون للخير أو الضياء أو عالم النقاء.

تتمازج الألوان: الأبيض، والأسود، والأحمر، والأزرق في مشهد واحد من مشاهد الرواية؛ لتعبر عن رؤية الكاتب وموقفه من الواقع(7 / 106)، وهذا يشي بأن ذكريات الكاتب الموصوفة بالبياض هي مزاج من مشاعر متباينة، وألوان أخري معتمة رمادية تحمل معني القتامه والعتمة الظلام والألم والعذاب والغربة.

الواقع أن في عنوان الرواية ما يشي باندغام الذاتي بالموضوعي والخاص بالعام والفردي بالجماعي، إذ تغدو ذكريات الكاتب صورة مصغرة لما حل بوطنه وشعبه، فالرواية تدور حول ذكريات الكاتب التي تحمل أياماً بيضاء هانئة قبل أن يبتلي وطنه فلسطين بالاحتلال الصهيوني، الذي حول أيامها وحياة أبنائها إلي أيام سود مفعمة بالآلام والغربة والضياع والتشرد والتمزق، واللجوء في المنافي، يقول السارد/ البطل، وهو يتذكر وصية أبيه الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى:

"مرقدي في حضن الجميزة يا غريب"، ويؤكد أبوه أن:"الجميزة قديمة في عسقلان، وفي عسقلان فقط تطرح سبعة بطون، والجميزة بشرتها لينة مطيعة للخدش، وتنز حليباً سرعان ما يتخثر عن أثر أزلي، أية أزمان عاشوا؟ وعلى أي طعام اقتاتوا؟ وأي سرائر بيضاء عاشروا؟"(7 / 14،15).

إن توظيف الروائي للألوان في الرواية يؤدي دوراً تعبيرياً فاعلاً في السياق، ويسهم في تشكيل صوره الفنية ويجسد تجربته، فضلاً عما يثيره توظيف هذه الألوان من رموز وإيحاءات وتراسل يتعدى الإطار المعجمي ويثري دلالات الألفاظ، وينتقل بها من المحسوس إلى ما وراء الظاهر، في الوقت الذي تظل هذه الألوان مرتبطة بشعرية الرؤية والفكرة المحورية التي ينهض عليها بناء الرواية الفني، وهو بذلك يدعم شعرية اللغة، ويبرز ملامحها.

أما عناوين الفصول الداخلية في الرواية، فقد جاءت في صورة جمل مكثفه، وعبارات موحية، إنزياحات مجازية، وجاء ورودها على الترتيب الآتي:
(عود ثقاب، في ظلمة حالكة، قناديل العتمة، رحيل الشهوات، ليل الهجانة الطويل، ظل القط الأبيض، قبلة على رأس لطيفة، الخروج من براويز الصور، أنا مَنْ يسكن اسمه، القمر في حضن شمس، المقامات، وهي تتكون من أربعة مقامات هي:" مقام الاعتراف، مقام الأفول، مقام الحضور، مقام الماء".

الرواية في معمارها الفني تتوزع على عشرة فصول تمثل محطات لأزمنة الكاتب أو مراحل حياته، وكأنه في كل مشهد من هذه المشاهد يجسد مرحلة من مراحل تجربته، وعلى الرغم من أن كل فصل في الرواية يحمل عنواناً مستقلاً، ويندرج تحت كل عنوان عناوين فرعية تتصل بعنوان الفصل، فإن هذه العناوين تبدو متماسكة مترابطة يلفها وشاح شعوري وفكري واحد، ويربطها حبل مشيمي، لا يمكن أن ينفصم بعضها عن بعض. هذا التماسك والترابط والتعالق سمة من سمات اللغة الشعرية التي سعى الكتاب إلى تحقيها في بناء أعمالهم الروائية بناء لغوياً قائماً على التكثيف والترابط، والوحدة العضوية المتماسكة.

المتصفح لهذه العناوين، يجدها تؤشر إلى مكونات عاطفية ذاتية، فهي في جزء منها تجسد حالات شعورية قائمة على أسلوب التضاد: الأبيض والأسود، العتمة والضياء، وهذه المفارقة التصويرية تقوي الإحساس بالفكرة وتعمقها، وتبرز مكنونات النفس الداخلية، إلى جانب أن الاعتماد على عنصر التضاد اللوني بالمقابلة بين اللونين: الأبيض والأسود يعد انعكاساً لثنائية الصراع بين النور والظلام، وكثيراً ما تكون الغلبة لصالح اللون الأبيض في انتصار الأمل على اليأس.

يلحظ القارئ أن عناوين الفصول قد جاء جلها في صورة جمل اسمية، وقد غابت عنها الجمل الفعلية؛ ليسود التقرير والثبات على حساب الفعل والحركة والصراع، والاسمية مهيمنة على كلمات العنوان؛ لقوة دلالتها من ناحية؛ ولأنها أشد تمكناً في النفس، وأخف على الذوق السليم من الدلالة الفعلية من ناحية أخرى (11 / 65).

الواقع إن العناوين الداخلية تحتمي بالإيحاء الشعري، وفيها حضور شعري متوهج، وطاقة تحمل رصيداً لا نهائياً من احتمالات التأويل والتحليل، والجمل في العناوين تتسم بالتكثيف والإيحاء والدلالات والرموز التي توحي بمعان ومشاعر ودلالات ثرة، وهي منسجمة مع فكرة النص وقضاياه التي تقابل الرواية من الناحية الدلالية، هذه العناوين تحمل سمات الذاتية والعاطفية، إنها نتاج إنسان له أشواقه ورؤاه ومواقفه وذكرياته وأحلامه.

ب ـ شعرية الإهــداء.

يعد الإهداء عتبة ثانية بعد عتبة العنوان، وهو يشكل موجهاً رئيساً للنص الروائي، وقد احتل الإهداء في الرواية موقعاً متميزاً في وسط الصفحة، إذ جاء مكوناً من أربعة أسطر، موزعة بطريقة معينة، تحاكي نمط مقطعة شعرية فشكل بذلك خطاباً بصرياً، يقول الروائي غريب عسقلاني في إهدائه:

إهداء إلى

فوزية مهران التي تقرأ في قاموس البحر سيرة ربانها الذي رحل،
وشمس الغافية على ذراع البحر في ظل شراع شاخت ساريته.

امرأتان من عطش,
تعيشان شهوات الأمكنة في أزمنة بيضاء.

بالإضافة إلى الوظيفة التعبيرية التي تكفل الإهداء بها، وهى وظيفة الإخبار والتبليغ عن علاقة تشابه وتماثل بين المهدى إليهما. فكلتاهما تتقاسمان الهموم والأحزان والغربة والآلام، ويغمرهما الإحساس بالرحيل والفقد والشوق والحنين إلى عالم مثالي مجهول.

إن اجتماع هاتين المرآتين(فوزية وشمس) يثير التساؤل حول مقدار التداخل بين الواقعي والمتخيل، ومقدار التماهي بين شخصية" فوزية" الواقعية، وشخصية"شمس" المتخيلة، وهل هما شخصية واحدة؟.

بقدر ما حملت (فوزية) من رمز وطهر وعفه وشوق وعذاب، كذلك تحمل" شمس" دلالات إيحائية اكتنفها هذا الاسم" شمس" الذي يعد من الرموز ذات الكثافة الدلالية الثرة، فهو مصدر الحياة والقوة والخير والضياء والنور والأمل والرجاء والنماء والإلهام، وكل ما هو طيب، كما أنها ترمز إلى التسامي والعقل والإيمان، وقد يحدث التماهي بين الشخصيتين، لكن أيهما أوجد الآخر (فوزية) تتقمص شخصية (شمس)، وتبرز من خلالها بعض تفصيلاتها في المتن أم أن شخصية (شمس) تستكمل وتسد ما كان في الواقع من حرمان ونقص وعوائق، فكانت شمس الجزء الغائب والمشتهي في شخصية (فوزية)، إن التماهي يبلغ ذروته وتكون (شمس) هي المعادل الموضوعي لشخصية (فوزية) مع ما يستوجبه الخيال الفني والحبكة الفنية.

بذلك يكون المتن قد اكتمل بحضور شخصيتين هما: (فوزية) و(شمس) المهدى إليهما، فـ(فوزية) تحيل إلى شمس البطلة المحورية في الرواية، والمُهدي الذي ليس سوى الراوي الذي يتخفى وراءه (غريب عسقلاني)، وتبرز في متن النص الروائي العلاقة بين المرسل الباث وبين (فوزية وشمس) قوية واضحة، وهي علاقة صداقة، والصداقة وما يتولد عنها من مشاعر الود والمحبة والإخاء والتضحية هي أغلى ما يهيمن على العلاقات الإنسانية، يقول السارد على لسان (شمس):

 صديقتي فوزية مهران كانت تبحث عن رجل يحمل اسمين، فوجدته في أسطورة فرعونية، في أي الأساطير أعثر عليكَ يا غريب؟

أم أن السارد أراد الصداقة الأدبية التي تجمع بين المشتغلين بحقل ثقافي واحد ألا وهو عالم الرواية، حيث يتقاسم معهما هموم القراءة وعذاباتها، فيكون مجال الاهتمامات الإنسانية والقضايا الفكرية ميداناً أرحب من أي علاقة أخرى.

هناك في الرواية ما يشير إلى أن العلاقة بين الراوي / الكاتب و(فوزية / شمس) المهدى إليهما علاقة قوية، فكلتاهما مصدر إلهام للكاتب، ومن حياتهما استمد مادة رواياته، يقول السارد في حوار مع شمس(7 / 10):

 ماذا تكتب هذه الأيام يا غريب؟
 أبحث عن موضوع يا شمس.
 قد تكون شمس موضوعك الجديد.

وفي أحد مقالاته النقدية يعبر الروائي عسقلاني عن العلاقة التي تربطه بالكاتبة الروائية فوزية مهران بوصفها ملهمة له، يقول:

"وبعد يا صديقتي، ومعلمتي التي شكلت ورفاقها وعي جيلي, فقد حاولت التسلل إلى قصص معنية، أبحث فيها عن شفرات تأخذ بيدي إلى فضاءات عالمكِِِ الأثيري, المؤسس على معرفة ثرية بالنفس البشرية..."(6).

يؤدى الإهداء وظيفة جمالية في تشكيل اللغة الشعرية في الرواية، ويتجلى ذلك من خلال الانزياحات اللغوية، والتراكيب المجازية مثل:(قاموس البحر، ذراع البحر،الشراع الذي شاخت ساريته، امرأتان من عطش، شهوات الأمكنة، الأزمنة البيضاء).

تكشف القراءة أن الإهداء يحتوي على إيماءة خفية توحي إيحاء شفيفاً، لا يدركها القارئ العادي، وهي أن (قاموس البحر) الذي تقرؤه فوزية يحيل إلي رواية بهذا الاسم للروائية المصرية فوزية مهران، وأن الربان الذي رحل ما هو إلا بطل تلك الرواية، الربان العاشق الذي تمخر سفينته عباب الماء إلى الفنارات المنسية/ الحاضرة لإرشاد سفن الماء حتى لا تقع في شرك الارتطام، وتعد هذه العبارة استدعاء موحياً ذا دلالات ثرة، جاءت متآزرة مع سياق الإهداء تغنيه وترسخ مغزاه في النفوس.

إن عتبة الإهداء لم تأت منفصلة عن عنوان الرواية من ناحية، وعن المتن الأصلي للرواية من ناحية أخرى، بل جاءت عباراته متشظية في غير مكان من متن النص الروائي، وبذلك يكون الإهداء قد قام بعملية استباقية؛ لتقديم الشخصيات المحورية في الرواية، وحقق دهشة الشعر وإيحاءاته، وفتح فضاءات رحبة للإيحاء والبث، يقول السارد:

 "كيف سيكون الأمر مع امرأة تنام على ذراع البحر" (7/6).
 "شمس هناك غافية على ذراع البحر" (7/ 50).
 "لم تحدثني عن عطش الندى.
 سأحدثك طويلا عن العطش" (7 / 12).
 "رحلت شهواتها بعد رحيله" (7 / 29).

"نساء الماء يصعدن من عميق العمق، يركبن سطح الماء من حولها، يتطهرن، وقاموس البحر لا يعرف فصلاً للدنس والموبقات"(7 / 102، 103).

الواقع أن دوال الإهداء جاءت متميزة، تعبر عن مدلولات وحالات نفسية متشابهة، وترمز لتجارب إنسانية موَّارة بالعواطف الإنسانية، وهذه الدوال هي:" الرحيل، البحر، العطش، الشيخوخة، الشراع" فهذه الدوال تشي بالذبول والغربة والحيرة والضياع والضعف والوهن، فدال"البحر" الذي جاء قاسماً مشتركاً بين شخصيتي (فوزية وشمس) يرمز للغموض والإبهام والخطر والخوف، وحضور"الشراع" في قلب الصورة يمثل رمزاً للصراع بين الإنسان والبحر، وارتباط الإنسان بالبحر كان دائما يثير الكثير من الأحاسيس الغامضة المبهمة إلي جانب الخوف والصراع من أجل البقاء.

ج - شعرية الغلاف الخارجي الخلفي.

يعد غلاف الرواية عتبة أساسية للدخول إلي النص، وتشكل موجهاً مهماً، لا يمكن للقارئ أن يتجاهله؛ لما له من دلالة تساهم في توجيه توقع القارئ ورسم أفق انتظاره؛ لذا فإن أي مقاربة للوحة الغلاف الخلفي من قبل قارئ عادي تبقى قاصرة عن سبر أغوارها واستكناه دلالاتها.

احتوي الغلاف الخلفي فقرات متتالية وردت في متن النص الروائي، وجاءت بطريقة مقصودة من قبل المبدع؛ لتكون مفتاحاً تأويلياً لمضمون الرواية، ويبدو أن الناشر قد قرأ الرواية قراءة جيدة، أو أصغى إلى كاتبها الذي أوعز إليه بأن يختار كلمته التي يريد أن يضعها على الغلاف الخلفي للرواية من هذا المقتطف من الرواية؛ بوصفه يمثل بؤرة الرواية ومحورها المركزي، ويعد من أبرز سماتها وخصائص أسلوبها الفني. يقول السارد/ البطل مناجياً معشوقته"شمس":

"هل تورّد فيكِ الامتلاء فيض شهوة غسلت أديم جلدك بالعرق؟ وهل تذوقت روائح وسادة من أثير؟ وهل تمرغت على حشايا من ندى؟ وهل ما زلت تنتظرين فارسك النبيل؟ أم أخذتكِ القطارات إلى غير مراعيكِِ، جذبتكِ روائح الفتيان في قاع المدينة، والمدينة تأكل المستور خلف أردية النساء، وأنتِ عارية كوجه الله لم تأخذي بلعبة الأقنعة.

ماذا تطلبين من مدينة خائنة لعوب، تفقأ بؤبؤ القلب في صدر الوليف. والوليف يرتدي قميص جلده، يتزود بالأغاني والأهازيج الرخيمة، لم ينل شبعاً، ولا رطب ريق قلبه من جفاف. يتساوى عنده لفح نار الصيف مع برد الشتاء. ابتنى كوخاً على طرف الزمان وتسلي وتعرى وتعرف كيف يسكن اللحظة موتاً خلف ريق الأسئلة.

همه الأوحد مرقد في مقلتيك، يا امرأة ما بعد الفصول. والذي أنا هو، وأنا الغريب، طيّرتُ أغنيتي على جناح رنة صوتك المغناج، وأغنيتي تقول:
خارج مدار الروح لا يأتي القطار.

وأنا على رصيف الانتظار طالت وقفتي/ غربتي.

فهل يا شمس، يأتينا القطار؟(7 / 47، 48).

من يقرأ هذه الفقرات المجتزأة من متن النص، يدرك أنها أسطر من قصيدة نثرية، ضلت طريق الشعر، فارتمت في أحضان النثر، وقد تجلى فيها كثير من سمات تلك القصيدة التي تبدت في لغتها الشعرية بما تحتويه من دوال منتقاة مترعة بالإيحاءات والإيماءات النفسية، وصور استعارية، وإيقاعاءات نغمية، وإنزياحات بلاغية، ولغة انفعالية متوترة، بالإضافة إلى هيمنة جو صوفي روحاني على أجواء هذه القطعة الشعرية النثرية.

فالتساؤلات التي تقاطرت في النص الروائي، تكشف عن قلق الذات وتوترها الداخلي، وتعبر عن ظمئها ورغبتها في إشباع حاجة النفس إلى معرفة موقف المحبوبة من فارسها النبيل، وتسعى الذات الساردة جاهدة عبر صيغة سؤال المحبوبة(شمس) المسكون بالحيرة والتوجس إلى معرفة كنه العلاقة التي تربط السارد/ البطل بالمحبوبة، هذه العلاقة ظلت الهاجس الشاغل للوليف:

 هل تورّد فيكِ الامتلاء فيض شهوة غسلت أديم جلدك بالعرق؟
 وهل تذوقت روائح وسادة من أثير؟
 وهل تمرغت على حشايا من ندى؟
 فهل يا شمس، يأتينا القطار؟

ويأتي السؤال بصيغة التسوية(أم)"وهل ما زلت تنتظرين فارسك النبيل؟ أم أخذتكِ القطارات إلى غير مراعيكِِ، جذبتكِ روائح الفتيان في قاع المدينة"، تعبيراً عن ضبابية الرؤية، واختلاط الأشياء، وعدم قدرة الذات على الحسم والاختيار.

هذه المناجاة الحرَّى بوحٌ شعري وجداني صادر عن عاشق موله، يحيل القارئ إلى فضاءات واسعة من التأويل، تجعله يتساءل: مَنْ تكون"شمس" التي يناجيها السارد / البطل ؟ إذ ليس ثمة ما يشير إلي ما يحدد هويتها وملامح شخصيتها، وهنا تحدث الدهشة والمفاجأة، وهما عماد اللغة الشعرية، وركيزة من ركائزها الأساسية.

هل هي فتاة ما محددة الملامح والقسمات والهوية؟ أم أنها رمز للحب الذي يطمح الروائي إلى تحقيقه بما فيه من نقاء وطهارة، ومحبة وألفة؟ وما المدينة كذلك إلا رمز للآثام والأحزان والقهر والمعاصي والموبقات، وتلك نظرة مثالية، تجسد الهروب من الواقع البائس إلى عالم الحب الرحب الذي تمتزج فيه القداسة بالبراءة. وقد أشار الكاتب إلى هذا المغزى في غير مكان من روايته، يقول واصفاً (شمس):

"لم تقترب من سيرة فسق أو فجور أو خيانة، تريد أجندتها نظيفة من كل رجس"(7/ 21).

" لم َتدُر يوماً على أعتاب حانات المدينة، والمدينة لوثتها المواخير وخطايا الساقطات، لم تكن يوماً حديثاً بين أشداق السكارى والمغنين على دلع الأراجيل الرخيصة"(7 / 70).

إنها مناجاة مترعة بالإفضاء والبوح والكشف، مضمخة بعبق الشوق والحنين، وما يمور بمكنونات النفس الداخلية من أحاسيس وانفعالات وشوق الوليف إلى محبوبته.

إن اللغة الشعرية في هذا المقتطف بما تمتلك من إمكانات نغمية تولدت من التساؤلات المتلاحقة، قد أدت دوراً مؤثراً في الكشف عن توتر الذات وحيرتها وقلقها وصراعها، وجلت أبعاد العلاقة بين السارد البطل ومحبوبته (شمس) وتجلياتها. فالوليف يركض وراء المحبوبة ويمارس طقوس العشق في حضور قوي يؤكده ضمير الغائب (هو) المندغم بضمير المتكلم (أنا)، المتشبث بالأفعال المتعاقبة(يرتدي، يتزود، ابتنى، تسلى، تعرى، تعرف، طيّر)، لغة انفعالية متوترة تؤثر في المتلقي وتحقق المشاركة الوجدانية بين الذات الساردة والذات المتلقية.

ثانياً ـ اللغة الشعرية في السرد.

ما إن يتخطى المتلقي عتبات الرواية: العنوان، والإهداء، وكلمة الغلاف الخارجي الخلفي، حتى يلتقي السردَ الروائي الذي تهيمن عليه أجواء لغة تقترب من شواطئ الشعر، وتلامس حدوده، وتستوعب بعض ملامحه، ومن هذه الملامح: انتقاء المفردات والكلمات العامرة بالإيحاء، والدلالات الغنية، والقوة المجازية، وانفتاح الدلالة وتعددها، والصور الفنية المبنية التجسيد والتشخيص، وتراسل مدركات الحس، واللغة الشديدة التكثيف والاختزال، ومثل هذه اللغة تحتاج من المتلقي قدراً كبيراً من التروي والتأمل والإدراك حتى يتمكن من فض مغاليق النص(9 / 43).

المتصفح للرواية يجد أن معظمها يعتمد على اللغة الشعرية، وأن هذه اللغة تتجلي في جملة من المكونات التي تتوزع في الفضاء الروائي ومن بينها: مستوي الجمل والعبارات والتراكيب، ومستوي الصور الفنية الوصفية والإيقاعية، والرمزية.

من سمات اللغة الشعرية التي تجلت في السرد الروائي الصورُ الفنية المبنية على المجاز والاستعارات والكنايات والرمز، والصور ذات الدلالات الحسية من حركية وسمعية وشمية وبصرية، وقد برز ذلك من خلال الجمل والتراكيب الآتية:
"عود ثقابٍ يذهب للموت قبل أن يرضع طعم الحقيقة، إلا من حقيقة لهبٍ تمتصه إسفنجة العتمة"(7 / 5).

"فتيل القنديل يرضع من زيت القلب. يتوهج ولا يحترق"(7 / 6).

" العشاق يسترشدون بقناديل قلوبهم في العتمة"(7 / 6).

"أوراق دفاترها سهول وأنهار وجداول وصحارى"(7 / 11).

" أوراق الدالية عفية، ينبثق من أديمها زغبٌ ناعس يمتصُّ ندى الفجر"(7 / 25).

" أبحث عن فصولي... ألملم بقاياها من الطرقات، ومن أصداف الشواطئ... أمارس جنون الخلق"(7 / 7).

" اليوم أنت امرأة صغيرة تسكنك العصافير...تمضغين بعضاً من حكاية.. امرأة أصبحت تمارسين اللهاث"(7 / 49).

" اجدلي يا شمس فتيلا من ضفيرة القمر، وازرعيه في بطن قناديلك، وأشعليها بزيت من ينتظرونك، والليل طويل"(7 / 79).

"صوتك يا شمس له طعم الياسمين"(7 / 43).

المتابع للجمل والتراكيب السابقة، يدرك مدى اتكاء الكاتب على عناصر التشخيص والتجسيد وتراسل الحواس، ويجد قارئُ الرواية أنها تسير حتى نهايتها على هذا النسق السردي في اللغة، إذ تقترب هذه اللغة من لغة الصورة الشعرية، وتعتمد على الإيحاء والتكثيف الفني وتراسل الحواس، والتراكيب غير المألوفة للسياق اللغوي، مثل:"يرضع طعم الحقيقة"،"اللهب تمتصه إسفنجة العتمة" قناديل القلوب"،" أوراق الدالية عفية، ينبثق من أديمها زغبٌ ناعس يمتصُّ ندى الفجر"،"الصوت له طعم الياسمين".

إن مثل هذه الصياغة اللغوية قد أعانت الكاتب على تجسيد المغزى الكامن وراء تلك العبارات التي أشاعت في كثير من مقاطعها روحاً من الشعر، تمكنت من السيطرة على نفوس المتلقين، وحققت شرط الشعرية في الرواية.

من أبرز سمات السرد الشعري أن الكاتب في مقاطع كثيرة من الرواية كان يروم رسم صور فنية ولوحات شعرية متكاملة للشخصيات والأمكنة والأحداث، يتداخل فيها السرد الشعري بالتشكيل الفني، فيغدو المقطع كأنه لم يكتب بالقلم، وإنما بفرشاة فنان، ومن الصور الفنية ذات الصبغة الشاعرية ما رسمه الكاتب من لوحة وصفية حية لأبعاد محبوبته (شمس) التي يناجيها، قائلاً:

"يا امرأةً ـ امتطت مياه أنهاري، أمسكت بلجام لهاثي، حصان أنا يمضي إلى محطة وصول، وأنت لا قيد يزمل فيك وهج الرغبات ولا لجام يتمطى بين فكيك يعود بك إلى مرابط الخيول"(7 / 53).

وفي لوحة أخرى يقول:

" ما الذي اعرف فيك يا شمس أبعد من امرأة تكتب نفسها صباح مساء وتعجن رغيف يومها من لحمها ولا تقدر على مضغة، فتعيده من جديد وتشكله رواية أو قصة؟" (7 / 53).

 "إني أراك وقد تعلقت بضفيرة الشمس امرأة من شوق، لا أحد غيري يرى امرأة من أشواق تتشكل لحماً وعظماً ونبضات بدن"(7 / 54)..

 " شمس امرأة تعيش الأرق..تحمل غربتها، تصبح أوسع من مساحات الأجندات والتواريخ، يومها يتوزع بين ابتسام وعبوس... أوراق دفاترها سهول وأنهار وجداول وصحارى, امرأةٌُ تدخل المذبح كل يوم وتخرج عفيةً تبحث عن نقاهةٍ من جور التفاهة"(7 / 10، 11).

 " شمس صوتها مشروخ مثل مرآة قلبي، تشطر الصورة صورتين، صورة تدب على الأرض من لحم ودم، صورة أخرى تأخذ العين إلى الوهم كأنه صلب الحقيقة"(7 / 78).

تكتسب التعبيرات في هذه الفقرات أبعاداً ذاتية انفعالية تتمثل في المفردات والتراكيب والجمل، فالكاتب مثلاً يجنح لاستخدام أسلوب النداء" يا شمس، يا امرأة" ليعكس إحساسه بالوحدة والغربة والفقد، وحاجته إلى من يشاركه هموم هذه الحياة وأعباءها، إنه يريد التوحد والاندغام مع معشوقته (شمس)؛ لأن همهما واحد، وغربتهما واحدة، ورغبتهما في العودة إلى الوطن واحدة، إنها امرأة من دم ولحم، امرأة حقيقية..

وأحياناً أخرى يضفي الكاتب على ملامح(شمس) دلالات أسطورية، فيبرزها في صورة المعشوقة التي تعلو فوق البشر، وتسمو فوق المخلوقات، وهذا البعد الأسطوري لشخصية شمس يعكس نظرة الكاتب إلى محبوبته، فيقول:
"الطفلة خرجت من كهف الرحم إلى نور الحقيقة، دون صراخ، وأنها خرجت قبل أن تشتد آلام المخاض. قالت لطيفة إن ريحاً من أثير سكنتها عند ميلاد شمس، وهي تعجب من طفلة لم تصدر عنها"كغكغة" الصغار، كل ما تأتيه تقصف في الشفتين عند الشبع أو عند حالات الوجع"(7 / 90).

"شمس ذات العينيين اللتين تطلان من كهف العتمة إلى بهاء الضياء"(7 / 54).

هذه هي شمس لم تكن ولادتها كما الآخرين، شمس كانت تتعلم من أمها فنون السباحة بعد الميلاد عارية كالحقيقة، بيضاء كلون النقاء الأزلي: (7 / 53).

وفي لوحة أخرى يجد المتلقى صورة (شمس) محفوفة بهالة قدسية أو علوية، وتقترن مناجاته لها بالرهبة والتجريد، وتحمل سمات أهل التصوف أهل العشق الإلهي، فهو يصل إلى قمة الحلول الصوفي حين يسألها:

 "من أنتِ يا شمس؟

  أنا روحٌ يبدأ جسدي من يدي التي تكتب، وينتهي عندها !" (7 / 11).

ويقول في مناجاة مفعمة بالشوق والهيام وقد اكتسبت طابعاً صوفياً:

"أنت في أوردتي صهيل مهرة رشفت ماء الجداول، أطلقت فيّ جنون البوادي.

"ما الذي تفعله رنة صوتك في بدني، رجفة رعشة تأخذني إلى مقامات الحلول، روحك ترحل فيّ"(7 / 46).

"هذا الصباح رأيت صوتك أخضر يا شمس، أقسم أني رأيته أخضر، وعَبَرَتني سكينة، واغتسلت بشلال راحة، وكنت تعبرين سهولاً، وتفيضين مثل ساقية عذراء، ترهفين لوشوشات عصافير نقرت قشر البيض لتوها، تطل من كهف العتمة إلى بهاء الضياء"(7 / 44).

وفي مشهد آخر يقول الكاتب مناجياً محبوبته (شمس):

هذا الصباح أنت شجرة تعطي وتختال، وأنا على الطرف الآخر أدخل حالة شفيفة مثل ندى الفجر" (7 / 45).

إن هذه الصفات التي أضفاها الكاتب على أبعاد صورة محبوبته(شمس)، جعلته يقترب في رسم صورة المحبوبة(شمس) وملامحها من التجارب الروحية للمتصوفة، فنظر إلى المحبوبة تلك النظرة الروحية التي ملؤها الإجلال والضياء والطهر والقداسة، وارتفع بها إلى آفاق علوية سامية، واستغرق في محبوبته استغراق الصوفي في معبودته، فرآها: كالملاك الرقيق الطاهر الشفاف، أو الروح الجميل الذي صاغه الله، أو الشجرة التي هي مصدر الخير والعطاء.

وكما توحد السارد/العاشق بمحبوبته(شمس)، واندمج معها، فقد جعل المحبوبة هي الأخرى تندمج بالطبيعة، فتجلت كالشجرة (أنت شجرة تعطي وتختال) بما تكتنزه من دلالات نفسية غنية توحي بالخصوبة والخير والنماء.

امتاح الكاتب عناصر هذه الصورة الصوفية، ومادتها الأصلية من الحقول الدلالية للغة المتصوفة، ونظرتهم المثالية إلى المرأة، فقد ترددت في هذه المشاهد الدوال والتراكيب المستوحاة من الأجواء المحيطة بالتجربة الصوفية مثل:" الروح، الجسد، الأوردة، مقامات الحلول، الروح الراحلة، الصوت الأخضر، العبور، الفيض، كهف العتمة، بهاء الضياء، الصباح، الحالة الشفيفة".

تكشف القراءة أن ثمة عناصر عديدة قد ساهمت في رسم هذه اللوحة الفنية الصوفية: منها الوظيفة الإيحائية التي أداها اللون الأخضر بمستوييه: المباشر والدلالي، وما فيه من ارتباط بأجواء التجربة الصوفية التي يتنفس فيها الروائي، وبما أشاعه من هذا اللون من دلالات تجذرت في الوجدان الصوفي، وما أوحى به من رموز النعيم والجنان، وفي هذا السياق امتزج الصوت والضياء المنبعث من الصباح بالخضرة، ورمزا لـ"أحوال" و"مقامات" تدنو منها الذات الساردة تبعاً لحالتها النفسية.

إن مثل هذه الصورة المتنوعة لمحبوبة السارد / البطل (شمس)، لا بد أن تستثير الذهن، وتبعث على الحيرة، وتفجر السؤال عن كنه صاحبتها وحقيقتها، هل هي حقيقة أم خيال أم كلتاهما معاً؟ هل هي رمز لحب مثالي صوفي بلغ قمة الحلول الصوفي، واتسم بالطهارة والنقاء والقداسة؟، هل هي" صورة تحمل كل رموز الوطن، يتوحد معها السارد/ البطل غير عابئ بالبعد الجغرافي؟، هل هي شخصية أسطورية ود الكاتب" أن يجعل من(شمس) أسطورة جديدة لأفروديت، أم أنه كان يرغب في أن يجعلها كأسطورة إيزيس الفرعونية التي كتب عليها ان تجمع أشلاء أوزوريس لتعيده إلى الحياة من جديد هل أراد بهذه الأسطورة ان يستعيد أشلاءه المبعثرة في الأرجاء بواسطة شمس..."(4).

يغلب على هذه الفقرات المقتطفة من الرواية الطابع الشعري الذي لا يقل روعة وبهاء عن كثير من القصائد الشعرية، ويتجلى ذلك من خلال اتكاء الكاتب على الصور البيانية التشبيهية ذات الدلالات الموحية والإيماءات المكتنزة بالظلال والمعاني التي تتعانق مع الحالة العاطفية والنفسية للذات الساردة، فهي صورة لا تقوم على التماثل بين طرفي التشبيه، وإنما تظل العلاقة مفتوحة لمزيد من التأويل والتفسير،(أنت في أوردتي صهيل مهرة، أنت شجرة، أنت روح، أنت ساقية عذراء)، وهي لغة تعتمد على البوح والإفضاء والكشف، لغة مشحونة بالذاتية وشظايا الأنا والانكسار الذاتي. لغة شفيقة تنساب عذوبة ورونقاً، تعبر عن العالم الداخلي للشخصية بكل أبعادها النفسية من شوق وحنين.

وفي مشهد آخر يرسم الكاتب لوحة وصفي فنية جسّد فيها أبعاد شخصية (رجال الهجانة السودانيين الذين تنسب إليهم (تلة السودانية) التي تقع شمال مدينة غزة) وملامحهم الخارجية والداخلية، يقول السارد واصفاً تلك التلة، وما يتصل بها من فضاء مكاني:

" تلة رملية شقراء تركب الشاطئ وهي جزء منه, وخيمة كبيرة عميقة الأوتاد تصمد أمام الريح، تنتظر النوّات بتوجس محسوب، ومراح جِمال ناخت تجتر ما تختزنه من عليق فقير، تلوك الجمال أسرار الصحاري،رجال الهجانة على الهوادج العالية، يشقون الهواء بضربات الكرابيج، يتألم الهواء بحاتٍ قصيرة، الهجانة خدودهم سوداء مشروطة عن جروح قديمة، يلفون رؤوسهم بكوفيات بيضاء ناصعةٌ نظيفة. جاءوا من بعيد البعيد، صامتون، لا يخالطون الناس، قلما يتحدثون،..سيرتهم بين الناس كرابيج تحفر على الظهور خطوطاً من نار محقونة بآلام تسري تحت الجلد.السود طيبون، تركوا الأهل والوليف والولد، يعيشون الاشتياق في الليل وعند الفجر، يطيرون أغاني ومواوييل حزينة"(7/ 33).

اعتمد الكاتب في تشكيل هذه اللوحة على عناصر متعددة: كالصور اللونية، والدوال ذات الإيماءات الموحية، والانزياحات البلاغية المجسدة للرؤى والمضامين، والجمل القصيرة المتوترة، المكتنزة بالإيحاءات مع الاستغناء عن الروابط بين الجمل، والاتكاء على الجمل الاسمية التي ترمي إلى تقرير المعنى، وتثبيته في الذهن، وكلها عناصر تصويرية فنية تشد القارئ إلي أحياز اللغة الشعرية، بالتضافر مع الإيقاع الصوتي المنبعث من التراكيب اللغوية مثل: (بعيد البعيد)، والصيغ المتماثلة في بناء هيئتها الصرفية نظير: (يخالطون ـ يتحدثون ـ يطيرون ـ يغيبون ـ يلعبون). إن انتهاء هذه الصيغ الصرفية بصوت (الواو) وهو من الأصوات الصائتة و(النون) ينسجم مع المغزى الذي يريد الكاتب التعبير عنه، ويعمق الصورة الإيقاعية في النص الروائي ويثريه، ويجعله وسيلة تعبير وبناء في آن واحد.

اتكأ الكاتب في الصورة الوصفية السابقة على توظيف عنصر النعت في صياغته اللغوية، والذي يعد مظهراً أساسياً للغة الشعرية من خلال الانزياحات السياقية، سواء على مستوى اللون أم المكان أم الشخصيات مثل:"تلة رملية شقراء، خيمة كبيرة عميقة الأوتاد صامدة، توجس محسوب، عليق فقير، الهوادج العالية، بحاتٍ قصيرة، خدودهم سوداء مشروطة، جروح قديمة، كوفيات بيضاء ناصعةٌ نظيفة، خطوطاً من نار محقونة بآلام سارية، أغاني ومواوييل حزينة".

أدت النعوت هنا دوراً مهماً في تكثيف الدلالة، والإيحاء بالمغزى الكامن وراءها، ذلك أن الكلمة في النص الروائي الذي يتصف بطابع الشعرية تتحول إلى إشارة، لا لتدل على معنى، وإنما لتثير في الذهن إشارات أخرى، وتجلب إلى داخلها صوراً لا يمكن حصرها(3 /232).

استغل الكاتب لوحة(رجال الهجانة) التي جسد فيها ملامحهم النفسية، وما يعتلج في صدورهم من أحاسيس الشوق والحنين إلى أهلهم وأوطانهم؛ ليكون معادلاً نفسياً، لمشاعر الغربة والفقد التي تضطرم في أعماق نفس القاضي الذي اضطر للرحيل عن مسقط رأسه مدينة الخليل إلى مدينة غزة بسبب مواقفه الوطنية، ويعكس موقف القاضي في الوقت ذاته ما يعانيه أبناء الشعب الفلسطيني من هموم الغربة والفرقة وآلام البعد عن وطنهم وأهليهم، وقد جسد الكاتب ذلك في الحوار الذي دار بين القاضي وزوجه(لطيفة) التي سألته عن حداء القافلة الذي يرسل مواويلَ حزينة، فأجابها قائلاً:

 الحادي يناجي وليفه بعيده، وأولاد كبروا وأم وأب ربما غادروا، وهو ما زال يعيش الغربة.
 بأي لغة يغني؟
 لغة الأشواق واحدة يا لطيفة.
 هل تعرف لغتهم؟
 المجاريح يتعرفون إلى سر ألم الفراق والغربة(7 / 37).

من يتأمل بناء الصور الوصفية في الرواية، يجد أن الكاتب كان أميل إلى استخدام اللغة الشعرية منه إلى اللغة العادية المباشرة المألوفة، وقد تجلى ذلك في تحديد ملامح عدد من الشخصيات الروائية، وتحليل نوازعها الداخلية ومشاعرها من مثل شخصية: شمس، ولطيفة، وفارس، والسارد نفسه.

الحقيقة أن ليس ثمة لغة أقدر على نقل أبعاد هذه الصورة الموحية المكتنزة بالدلالات والرموز مثل اللغة الشعرية بدوالها وتراكيبها العامرة بالغنائية والرهافة والإيحاءات والألوان والظلال. فاللغة الشعرية تسعى إلى أن تكون الصور الوصفية مؤثرة من جهة ما تؤدي من دور مهم في إخراج المتلقي من نمطية اللغة الواضحة المحددة المباشرة، إلى نمط أخر يستفز القارئ ويمتحن مقدرته في الربط بين الأشياء وإقامة العلاقات بينها.

ثمة لوحات وصفية أخري يشخص فيها الكاتب عناصر الطبيعة، ويخلع عليها صفات إنسانية، فيحيلها إلى كائنات حية تشارك الإنسان أحزانه وعذاباته من جهة وأفراحه ومسراته من جهة ثانية، فمع مطلع بعض فصول الرواية لا تلبث الطبيعة تعلن عن وجودها الفاعل، وتتجلي في لوحات نابضة بالحياة والحيوية مثل قول السارد:

 "الريف بساط ريح يطير خلف القطار، محمل بكائناته الخضراء الخارجة لتوها من رحم بكر".
 "في الكرم توتة كبيرة نستحم في عبها، تحرسنا، جميزة أبدية تستقبل الحساسين والهداهد والخضير وتطرد البوم والغربان".
 "البحر مرآة شفيفة، تستقبل ضباب أبخرة حبلى، تراوغ الاندماج في الماء، الضباب يسربل رأس المنارة".
 "قرص الشمس كرة متوهجة باردة، تغرس أشعتها البرتقالية على جلد الماء،
ترسم الرغبة فتصعد الأسماك الشبقة إلى السطح".
 " وقرص الشمس يغطس في الماء، عروس تغتسل، تنشر ضفائرها خيوطاً من ذهب".
 " لون عينيها بلون زيتون البلاد".

بمثل هذه التعبيرات الشعرية أقام الروائي علاقة بين الإنسان والطبيعة اتسمت برهافة الحس، والمشاعر الإنسانية الشفافة التي تتفاعل داخل نفوس الشخصيات، وقد تجلت علاقة الإنسان بالطبيعة بصورة أعمق في اللوحة التي رسمها الروائي لحال (الدالية)، يقول السارد في لوحة وصفية رائعة يصف فيها الدالية:

"...تكعيبة تظلل الممر الطويل الممتد إلى براندة الدار، العناقيد ثريات حمراء تتدلى من سقف التكعيبة، أوراق الدالية عفية، ينبثق من أديمها زغب ناعس يمتص ندى الفجر، يرضعه لثمار مشدودة مزدحمة بشحم وفير وعصير مركز، وبذور غائصة في شهد الحالة. والحالة عناقيد مطرزة بحلمات حمراء منتصبة(7 / 25)..

وحين رحل رب الدار(القاضي) عن الدنيا، توقفت (الدالية) عن الإثمار، ذبلت حزناً على رحيله، يقول السارد مصوراً حزن الطبيعة الشفيف:

الشمس تضربني، سقف التكعيبة أقرع، فروع الدالية جافة مشققة، وبعض وريقات تعكس نحول المكان، وسيدة عند حافة البراندة تجاهد حتى تقف منتصبة.

أخذت كفها، لسعني دفء شارد، قلت:

 أين الدالية؟!
 صامت.
 كيف!!
 رحلت شهواتها بعد رحيله(7 / 29).

بيد أن الأمور بعد عودة (شمس) ابنة القاضي من غربتها الطويلة- من أرض (المانجو) إلى أرض (الكروم) - قد تغيرت، فإذا بالحياة تدب في عروق الدالية من جديد، وإذا بها تعود إلى العطاء والخير والإثمار.

"أطلقت الدالية فرعاً يتدلى تحت ثقل العناقيد.

الدالية صامت عن شهواتها منذ زمن، هل خرجت من صيام امتد وطال؟ هل هي عودة الفروع إلى الأصول... العناقيد تدلت حصرماً يزخر بالحموضة.." (105).

القراءة المتمعنة تهدي إلى القول بأن ثمة مفارقة تصويرية واضحة بين الموقفين في الفقرات السابقة، بين ما كانت تمنحه (الدالية) قبل الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، أيام كان الناس يعيشون أزمنة بيضاء، حيث كانت الدالية تعطي عنباً بطعم المانجو، أما ما بعد الاحتلال، فقد أصبحت العناقيد التي تتدلى من الدالية تعطي حصرماً يزخر بالحموضة، وهذه المفارقة التصويرية بما توحي به من دلالات وإيحاءات عمقت المعنى، وأغنت التجربة، وحققت التأثير في الذات المتلقية.

إن مثل هذه اللوحات الفنية الوصفية رحبة الدلالة مترعة بالرموز، فهي ليست لوحات جمالية تزيينية، وإنما هي لوحات مكثفة دقيقة لها علاقة وثيقة بمكونات السرد الروائي.

ومن خصائص اللغة الشعرية في هذه الرواية استخدام الكاتب اللغة الرمزية الموحية، فالرمز هو الأداة التعبيرية التي تتشكل من خلالها تجربة غريب عسقلاني الروائية، بما يحمل من دلالات وإيحاءات على معان وحالات نفسية، والرموز من أقرب الوسائل التي تستعين بها اللغة الشعرية للتعبير عن رؤى الكاتب وتجربته.

ومن أبرز الرموز اللفظية التي وردت في رواية"البحث عن أزمن بيضاء"،واستخدمت كثيراً: رمز القطار والطائر، والقط الأبيض، والبحر، وشمس، وفارس،والدالية والجميزة والتوتة، والزيتون، وغيرها.

ويأتي رمز (القطار) وما يتعلق به من(أرصفة، ومحطات، ونوافذ، صافرة، وعجلات، عربات، وسكك) في طليعة هذه الرموز التي تقترن بتجربة الروائي الذاتية، فـ(القطار) يرمز لـلارتحال والسفر والغربة والضياع والتشظي والتشتت وعدم الاستقرار والقلق، والفقد، ويعد (السفر) أبرز محاوره، وهذه الرؤية تتجدد بدءاً من أول صفحة في الرواية والصفحات التي تليها، فالذات الساردة ومعها الشخصيات الرواية في سفر دائب، ولهات دائم؛ بحثاً عن هويتها ولاستعادة ذاتها، وتحقيق طموحها وأحلامها الخاصة والعامة، فالذكريات البيضاء ما زالت عالقة بذهنها، لقد نذرت نفسها للغربة والارتحال والسفر؛ حتى يعود الوطن السليب إلى أهله، وحتى تتحقق أحلامه في وطن ينعم بالحرية والخير ويتجه الإحساس بالدفء والأمن من عناء الغربة:

 "ها هو القطار لا يحيد عن سكتة، ولا يتوقف عند المحطات حتى يدرك محطته الوحيدة والأخيرة".
 "الآن يحملني القطار إلى شمس".
 "قطاري يقترب من محطة العودة إلى الوطن".
 "قطاري في الإياب والذهاب يتوقف عند المحطات قليلاً، وأنا أبحث عن نوافذ تأخذني إلى بعض فصولي".
 "أنا على رصيف الانتظار".
 "قطار العمر يمضي لا يتوقف عند هفوات الزمن، لكننا يا شمس، وفي كل محطة مًنْ يدفع الفواتير، مًنْ يعتذر عما حدث وصار.. عابرون نظل حتى يستقر بنا المقام في الوطن..".

ومن أكثر الرموز شيوعاً في هذه الرواية رمز (الطير) والدوال المقترنة به مثل: (العصفور، الزغلول، النورس، الحمام)، ويتسع مدلول رمز (الطير) ؛ ليرتبط في كثير من المواقف بالرؤية الذاتية للكاتب، فهو حيناً يرمز بالطائر الأبيض للحب بمفهومه الإنساني الواسع، وهذا الرمز يتوافق ومشاعر الشاعر وتجاربه الذاتية وما فيها من لهفة وشوق وبوح وإفضاء، ومن هنا يكون استدعاء الكاتب الطائر رمزاً للحب، إنما الغرض منه هو إعادة تشكيل الواقع وفق أحلام الكاتب وتطلعاته إلى عالم مفعم بالبراءة والقداسة والطهر، إن هذا الرمز يكتنز بدلالاته الرمزية والنفسية، فيعكس حنين الكاتب وشوقه إلى زمن ماضٍ جميل عاشه بمنأى عن هموم الحياة ومفاجأتها المزعجة، يقول السارد:

"رف قلبي، صار عصفوراً، يتدرب على الطيران أسفل ثديي الأيسر، زقزق العصفور..طار، شهقت رغباتي"يا حبيبي يا أخي".

"انظري النورس ينقر وجه الشمس لا يخشى الاحتراق".

"لا تطفئي قنديلك، فأنا أرى فيك شوق الانتظار وأرى العصفور يخرج من تحت جلدك، يفرد جناحين في بياض الثلج، في منقاره بعض بهاء الفجر لقيمات سفر،.يأتي إلىّ يودعني فأرى فيه وجوه أحبتني فارس وغسان وأنت"(7 / 103).

ويرمز الكاتب أحياناً أخرى بـ(الطائر) في هذه الرواية لحلم الفلسطيني في العودة إلى وطنه السليب، ويصور السارد في أحد المشاهد محاولة الطائر العودة إلى مسقط رأس الكاتب مدينة (عسقلان) المحتلة، فيقول(7 / 106):

" يمم العصفور يا شمس شمالاً إلى منارة عسقلان... طيري الأبيض ينقر وجه الماء، يحوم فوق رأسي ثم يعود إلى البحر، يقف على جلد الماء يصدر"كغكغة" أشبه بالنداء.إنه الطير يدعوني إلى الماء. عارياً أصبحت كما خلقني الله، أقطع الموج غايتي طائري الأبيض. أبتعد والشاطئ، يبتعد حتى أصبح نقطة سوداء على مرمى النظر.. فجأة صارت الدنيا بلون الدم، صار الماء احمر.. طائري ينطق مذعوراً يصرخ بي بصوت آدمي:

 عد إلى الشاطئ يا ظلي.. فقد تعديت الحدود.

زورق دورية الاحتلال يشوي الماء بصليات الرصاص، طائري يمم نحو منارة
عسقلان يقطر دماً.. جدفت نحو الشاطئ، روحي تسبقني إلى الرمل..."(7 / 105،106).

أخذت اللغة في هذا الصورة الوصفية بعداً انفعالياً عبَّر عن أحاسيس الذات الساردة ومشاعرها والتوترات النفسية التي تعيشها، فجاءت تؤدي وظيفتها في التعبير عن تلك العواطف والانفعالات وإثارة المشاعر في الآخرين، وقد توسلت في ذلك أساليب متعددة منها: الاقتصاد اللغوي المتمثل في اعتماد الجمل الاسمية التي تتناسب مع الإيقاع النفسي، وتساعد على تكثيف المعاني في جمل معدودة، إلى جانب الدلالات الموحية للألوان:"الأبيض، والأحمر، والأسود، والأزرق" التي أدت دوراً بارزاً في إظهار عنصر التضاد بين عالمي الخير والشر، فقد قابل الروائي بين اللون الأبيض رمز الأمل والحياة والخير والحق وبين اللون الأسود رمز المعاناة والشر وقوى البغي وظلمها وحواجزها المقيتة، كما أن اللون الأحمر يرمز للتضحية والفداء من أجل نيل الحرية والاستقلال، أما اللون الأزرق فيرمز للقلق والخوف والاضطراب.

وعلى الرغم من أن الطائر قد أصيب ونزف، ودفع حياته ثمناً لتحقيق الحلم في الوصول إلى الوطن السليب، فإنه لم يتردد في المضي قدماً إلى منارة عسقلان، فليس ثمة ما يؤشر أن الكاتب فقد الأمل في تكرار مثل هذه المحاولات إلى أرض الوطن السليب، كذلك الأمل في صدور الفلسطينيين، فإنه لم يخبُ، ولم يتراجع، إنه ما زال متوقداً، والحلم في العودة إلى فلسطين مازالت جذوته مستعرة في القلوبً.

إن اختيار الطائر (البحر) وسيلة للعودة إلى أرض الوطن يشير إلى ما للبحر في وجدان الكاتب من قيمة رمزية، فالبحر عنصر بارز، ومكون رئيس في تجربة الروائي، وهو أمر طبعي؛لانتماء الكاتب إلى بيئة بحرية فلسطينية(عسقلان، غزة)، فالبحر رمز من رموز فلسطين التاريخية، وبوابة من بوابات الوطن للعبور من الوطن إلى الوطن(2 / 147).

والكاتب لا ينظر إلى البحر كعنصر خارجي، وإنما ينظر إليه بوصفه جزءاً لا ينفصم عن عالمه الذاتي، وذكر البحر مصحوباً بالطائر يعمق الإحساس بالوطن، والتعلق بحبه ويبث روح الأمل والرجاء في العودة إليه، ويمنح المتلقي قبساً من حلم العودة إلى الوطن، فضلاً عن أن عودة الطائر إلى الوطن عن طريق البحر تجنبه حواجز العدو وأسلاكه الشائكة التي تحول دون تحقيق رغبته في الخروج من واقع الغربة واللجوء والتشرد، إلى آفاق الحرية.

وبذلك يندغم في هذا الموقف الذاتي بالموضوعي والخاص بالعام، ويتحقق التساوق مع نفسية الجماهير، فاللغة الشعرية وسيلة تعبيرية قوية تساعد في الوصول إلى الجماهير والتأثير فيها.

وقد يجمع الكاتب بين رمزي (القطار) و(الطائر) ويوحد بينهما في مشهد واحد، يقول:

 "...أخذتُ كفها بين راحتي، واغتنمت الفرصة كي أمسح عن عينيها غلالة حزن مقيم، فصافحني زغلول حمام اكتسى بريش أبيض ناصع البياض، انفجر النحيب في صدري قفزت إلى عربة القطار التي أخذت تتحرك"(7 / 23).

 "لوحت لي، كان ثمة طير أبيض يسابق القطار، وصوتها ما زال يعلو على ضجيج عجلات القطار"(7، 23).

ثمة رموز أخري استدعاها الكاتب في هذه الرواية،ولكن بصورة أقل كرمز: الدالية والتوتة والجميزة والزيتونة، وهي رموز تدل على فلسطين وأرضها وتراثها وعاداتها وتقاليدها، وقد وظفها الكاتب بصفة خاصة لتحديد علاقته بالوطن فلسطين.

لم يكتف الكاتب بتوظيف الرموز الجزئية في بناء أساليبه اللغوية الشعرية، بل جنح لاستخدام التعبيرات الرمزية ذات الدلالات والإيحاءات الغنية بالمعاني وتصوير الأحاسيس بأسلوب غير مباشر، مستخدماً وسيلة فنية، هي"تراسل الحواس"،بمعنى أن تحل حاسة محل حاسة أخرى في مثل قول الكاتب:

 "هذا الصباح رأيت صوتك أخضر يا شمس".

 "وسيلتنا همس أبيض".

 "أقتفي لون صوتك، أراه وأمشي من خلاله إلى صدرك، أسكن رئتيك.
 "صوته يفح جليداً".

 "صوتك يا شمس له طعم الياسمين"(7 / 43).

ففي التعبيرات السابقة تراسلت الحواس خواصها وتبادلت مدركاتها، فالصوت وهو من مجال (حاسة السمع) تبادل اللون مع الأخضر، وهو من مجال (حاسة البصر)، وكذلك الأمر في الصوت الذي له طعم الياسمين، حيث إن الصوت من مجال (حاسة السمع)، تبادل مع طعم الياسمين وهو من مجال (حاسة التذوق)، وأصبح الهمس أبيض.

إن تجربة الروائي أذابت الفروق بين مجالات الإدراك، وحولتها إلى انفعالات وأحاسيس، سهلت انتقالها؛ ليتسنى التعبير عنها،؛ لتسد عجز اللغة اليومية المألوفة عن الغوص في الأعماق لانتشال تلك الانفعالات.

إن مثل هذه التعبيرات لها دلالات نفسية ثرة، وقد جاءت عفوية بعيداً عن الافتعال، وعبرت عن حرارة انفعال الروائي وعمقت من مضامينه ومكنته من تكثيف أحاسيسه والإيحاء بها.

إن القراءة لرواية"البحث عن أزمنة بيضاء"، تكشف أن الكاتب أفاد في لغته الشعرية السردية من عالم الحلم والرؤى؛ كوسيلة لبناء عالمه الروائي، وليمنحه قوة وتشويقا، وقد جاء توظيف الحلم في الرواية باعتباره أداة تعبير يجسد الكاتب من خلالها المعاني الشعورية والفكرية التي يريد التعبير عنها. وقد اقترن الحلم عنده بالعودة إلى ذكريات الماضي وتوظيفها فنياً في المعمار الفني للرواية؛ بقصد إبراز معان ودلالات رمزية تكون أكثر إيحاء وارتباطاً بواقع الكاتب المعيش، يقول الكاتب في أحد (أحلام اليقظة) واصفاً خال(لطيفة)مخاطباً معشوقته (شمس):

"...هل تصدقين أنني رأيت خالها في غيمة من الدخان، يكبر، يتبرعم، ويتنفخ، ويتشكل مثل بطنٍ يتهيأ للولادة، ورأيتكِ فيه ترفسين، تستعجلين الخروج، عشتُ حالة عجيبة، وراقبتُ عملية الميلاد، ورأيتُكِ كيف تشقين الخال على صفحة خدها؟ تخرجين إلى الدنيا صامتة، بلا صرخة ميلاد"(7 / 53).

بمثل هذه التعبيرات اللغوية التي تستمد مادتها من عالم الحلم، عبر الكاتب عن رؤيته وتجربته الروائية التي اتسمت بالغرابة والغموض، حيث يشاهد القارئ (الخال) الذي على خد (لطيفة)، وقد كبر وتحول إلى بطن امرأة حامل؛ لتخرج منه (شمس) ابنتها إلى الوجود. إن مثل هذه الصورة الحلمية التي تقترب من الجو السريالي ما كان لها أن تحقق قدرتها في نقل ما يستكن في أعماق نفس الروائي من رؤى وأفكار ومشاعر دون الاتكاء على اللغة الشعرية، من صور مجازية، وإيقاع فني يتمثل في الجمل القصيرة الموجزة، وإسقاط حروف العطف، وروابط الوصل؛ ليتناسب الإيقاع السياقي مع الإيقاع النفسي، واستخدام الجمل الفعلية التي تدل على الحركة والتدفق وتصوير الحدث، وبذلك عكست الصياغة الشعرية للمفردات والتراكيب أجواء تلك اللحظة الشعورية في هذه الرؤى الحلمية.

تتجلى ملامح اللغة الشعرية في جملة من العناصر الأخرى منها الإيقاع الموسيقي، فالرواية تزخر بالإيقاع، وجاءت اللغة الإيقاعية أقرب إلى الشعر، إذ يلحظ القارئ أن بعض الفقرات لو نسقت تنسيقاً خاصاً، لغدت قصائد جميلة لا يعوزها الوزن ولا الصورة الشعرية، يقول الكاتب:

"سماء غزة غاب عنها القمر، وأزيز الزنانة يستدعي الانفجار.

أرهفي يا شمس،..قد تسمعين؟

هللت كل المآذن والمنابر، قصفوا يا شمس.. يا وجه الحقيقة.

والحصار هنا يعلن عن بعض حصاد.

بقروا بطن امرأة حامل في شهرها السابع، هل تسجل في دفتر الأحوال شهيداً أم شهيدين.

قتلوا الأم، وقتلوا حتى النطف.

مازال القصف ومازال الحصار(7 /97، 80).

تناغمت في هذا المقطع الروائي البنية الإيقاعية بألوانها المتعددة مع المغزى الكامن وراء النص في الإيحاء بجو الاضطراب والقلق ومشاعر الخوف والفزع التي تولدت من الممارسات الصهيونية البشعة ضد أبناء الشعب الفلسطيني من حصار وتقتيل وقصف وتدمير، وقد استعان الكاتب لإثراء اللغة الإيقاعية بطرائق عدة أدت دورها في تعميق الإيقاع الصوتي منها: التكرار النغمي(قتلوا – قتلوا، ما زال – ما زال، يا شمس – يا شمس) والجناس الناقص(حصار - حصاد) وترديد صوت (الراء) غير مرة في الفقرة السابقة (القمر، الانفجار، الحصار، حصاد، بقروا، شهرها، دفتر، الحصار) وصوت (الراء) من الأصوات المرتعشة التكرارية التي أثارت جواً من التوتر الحاد، يتوافق مع الجو الروائي العام الذي هيمن عليه الحصار والفزع والانفجار، والقتل والقصف.

ومن المشاهد الغنية بالإيقاع النغمي قول الكاتب مناجياً محبوبته(شمس)(7 / 49):

"اليوم أخذتك من بطن الغيمة، كنت طفلة، رأيتك تطردين النعاس عن جفنيك، وتقذفين بالنوم بعيداً، تغسلين وجهك بماء الفجر، تلبسين فستاناً قصيراً يحرر ساقيك، تدسين قدميك الصغيرتين في صندل صيفي ناعم، اليوم أنت امرأة صغيرة تسكنك العصافير، تسحبينني من يدي، أسير على خطاك ولا أتعثر... ومضيت إلى غيمة الوقت تكبرين وتكبرين و... امرأة أصبحت تقطع المسافات، تجتاز الدروب، تمارس الانتظار عند محطات طقس حياة، تفيضين نغمات صوتك، ترسمين حدود الضحكات، تمارسين اللهاث"(7 / 49).

جاءت اللغة الإيقاعية في هذا المقطع أقرب ما تكون إلى الشعر، إن لم يكن الشعر بذاته، وقد تشكلت البنية الإيقاعية من عناصر نغمية متنوعة منها: اتكاء الكاتب على الصور الصوتية الموحية بالمعنى والإحساس والتي أشاعت جواً خاصاً بدا أشبه ما يكون بالموسيقى التصويرية المصاحبة للحدث؛ لإحداث مزيد من التأثير في الذات المتلقية: مثل التكرار والجمل القصيرة الموجزة، والتخلي عن الروابط الأسلوبية وأدوات الوصل؛ والمفردات ذات الإيحاءات والدلالات النفسية التي تكشف عن مشاعر السعادة الغامرة التي هيمنت على روح السارد وهو يستعيد ذكريات بيضاء في طفولة (شمس)، فضلاً عن الإيقاع الصوتي المنبعث من النسيج الصوتي المتميز المتولد عن تكرار صوت بعينه، هو صوت الهمس والخفوت(السين) الذي ولّد تردده في غير دالة كثافة نغمية ناسبت جو الفرح والذكريات السعيدة، وهي جلها جمل وعبارات تكتسب شعريتها من توظيف هذه التقنية الصوتية، فأدى الإيقاع النغمي دوره في دعم شعرية اللغة وموسيقية الجمل والتراكيب.فضلاً عن تكرار بعض الأبنية الصرفية المتشابهة مثل" تطردين، تقذفين، تغسلين، تلبسين، تدسين، تكبرين، وتكبرين، تفيضين، ترسمين،تمارسين". ومثل هذا التكرار للأبنية الصرفية يقوي الإيقاع النغمي ويغنيه ومعه تقوى البنية اللغوية في سرد الرّواية.

ومن ملامح اللغة الشعرية في هذه الرواية الإيقاع المتولد من التكرار والسجع والجناس، ومن الأمثلة على ذلك:

 " انكسر صوتك مثل بلور انكسر، ولعنت نفسي، عذبتك وأنت في قمة البهاء فاض وجعي، وتمزق نخاع لحمي، ونقر الإحباط على أوتاري، فعزفت بكاءً، هل يصلك عزفي ؟"(7 / 45)..

 "لا تنال سوى شهيقٍ من جليدٍ ووهنٍ أو وسن"(7 / 70).

 " أنا الآن يضربني فصل يصير على الورق، والوقت بين شمس ولطيفة دخل في طور الأرق/ القلق"(7 / 104).

 "نسائي قفزن إلى عربة القطار وأخذن مقاعدهن: راجفات، واجمات، راغبات، جافلات، مبتورات الرعشات"(7 / 6).

 "شمس ناصعة لها وجه من أثير ورأس من ذهب."سبحان من خلق وسوى ووهب"(7 / 70).

اتكأ الكاتب في هذه الجمل والتراكيب على الصور الصوتية أو الإيقاعية، وتوسل إلى تحقيق الإيقاع النغمي بوسائل عدة منها: السجع، والجناس، والتكرار، فقد اضطلع الجناس بدور بارز في إثراء الإيقاع، وهو يتردد في الرواية بصورة لافتة، ويأتي في معرض التماثل الإيقاعي، فيؤدي ما تؤديه القوافي الداخلية من انسجام نغمي.

فالجناس قد تحقق بين لفظتي (وهن، وسن) مع التماثل النغمي المتولد من التنوين الظاهر (سوى شهيقٍٍٍ من جليدٍ ووهنٍ أو وسنٍ) الذي يسمح بنوع من الترجيع النغمي أو الوقفات السريعة، مما أكسب الإيقاع جرساً خاصاً ونغمات إضافية، إلى جانب أن الجناس قد تحقق بين لفظتي: (الأرق، الورق)، مع التماثل النغمي المنبعث من السجع في دالة (القلق)؛ ومن تكرار صوت القاف في نهاية الجمل، وهو من الأصوات المجهورة الشديدة؛ الأمر الذي جعل الإيقاع النغمي يتوافق مع الجو النفسي، وما يهيمن عليه من اضطراب الذات وقلقها وحيرتها.

ويتحقق الثراء الإيقاعي كذلك من خلال التكرار المتمثل في تشابه الدوال وبنائها الصرفي في الفقرة الواحدة، بما يولده من نغم متميز، مثل:"راجفات، واجمات، راغبات، جافلات، مبتورات الرعشات" ونظير:" انكسر صوتك مثل بلور انكسر"،"نفسي، وجعي، لحمي، أوتاري"،" فعزفت،عزفي". ومثل هذا التكرار النغمي يعكس حركة الذات في تفجرها العاطفي، وينسجم مع تلك العاطفة التي تمور في نفس الذات الساردة، ويثري الإيقاع ويطبعه بطابع موسيقي.

وعلى هذا النسق أدى الجناس والتكرار والسجع دوراً مهماً في إثراء القيم الصوتية والتعبير عن الجو النفسي الذي تعيشه الذات الساردة، مما يعمل على تعميق تجربة الروائي الإنسانية وإثرائها، وتغذية البؤرة أو المغزى الكامن وراء تلك الفقرات الروائية.

وصفوة القول، فإن استخدام الروائي غريب عسقلاني لغة جميلة تلامس شواطئ الشعر، وتستعير الصور الخيالية الجميلة، يشي بمهارته وإتقانه وهيمنته على أدواته التعبيرية، إنه كاتب مقتدر، يمسك بزمام اللغة فلا يفلته، إذ لم يكن أمامه من سبيل إلا الاعتماد على اللغة الشعرية؛ بوصفها الوسيلة الأكثر أماناً للتعبير عن التجربة الإنسانية والرؤية الوجدانية الذاتية للشخصية المتأزمة في علاقاتها مع الآخرين ومع الواقع، فالمضمون العاطفي الانفعالي تناسبه لغة شعرية تتكئ على التجسيد والتشخيص وتراسل الحواس من خلال المؤثرات الصوتية واللونية والحركية كافة ؛ ولأنها القادرة على للتعبير عن حجم مأساة الكاتب في الغربة والضياع واللجوء والتشرد والكشف عن مكنونات النفس البشرية، وإتاحة الفرصة أمام الكاتب للغوص في أعماق الشخصيات ومعرفتها عن قرب، فضلاً عن اللغة الشعرية بما تمتلكه من ظلال وإيحاءات وخيال قد ساعدت الكاتب على دفن أسراره الذاتية التي لم يشأ أن يعبر عنها مباشرة وبوضوح عند كتابة سيرته الذاتية.

المتأمل في لغة هذه الرواية الشعرية، يكتشف أنها لغة غنية متجددة تتكئ على الصورة الفنية والرمز والغموض الشفيفين، وهي بذلك تشد القارئ وتغريه بالمتابعة، ومطاردة النص، دونما جنوح نحو الغموض والإبهام أو التعقيد اللفظي أو المعنوي، ودون ان تكون هذه اللغة ترفا وزينة وزخرفة خارجية على حساب تطور الحدث وحركة الشخصيات.

أما ما يحس به بعض القراء العاديين من غموض بعض النصوص في هذه الرواية واستغلاقها، وعجزهم عن إدراك ما يتغيا الكاتب التعبير عنه، لا يعزى في الحقيقة إلى استخدام الكاتب للغة الشعرية، وإنما يعود إلى توظيف الكاتب للتقنيات الفنية الحديثة في بناء المعمار الفني للرواية مثل: أسلوب التقطيع، والاسترجاع، والحوار بنوعيه: الخارجي والداخلي، والرؤى والأحلام، والاستدعاء من الذاكرة، والتداعي الحر، والرسائل والحكايات وغيرها من أساليب.

إن اللغة في هذه الرواية هي لغة شعرية عملية أي ليست شعرية نمطية سائدة تضفي على الرواية جواً رومانسياً شاملاً بقدر ما هي لغة ذات موقف وذات دلالة وذات وظيفة، فهي لغة متوازنة وظفت بغرض التكثيف السردي ولخدمة الحبكة الروائية.

 [1]


[1(1)إبراهيم، نبيلة: قص الحداثة، فصول - الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة، م6 – ع4 1986

(2)أبو شاويش، حماد وسعد العزايزة، رواية البحر" نجمة النواتي" لغريب عسقلاني تحليل الخطاب الروائي، دراسات في الرواية الفلسطينية المعاصر، منشورات الملتقى الفكري للأكاديميين في قطاع غزة، غزة، فلسطين، ط1، 2006.

(3) سيزا، قاسم: حول بوطيقيا العمل المفتوح، مجلة فصول، القاهرة عدد 2، 1984.

(4) شومر، توفيق: البحث عن غريب في رواية البحث عن أزمنة بيضاء

(5)غريب، عسقلاني: جفاف الحلق، بيت الشعر، رام اللة، 1999.

(6)غريب، عسقلاني: فوزية مهران امرأة تقترف الوجد:

(7)غريب، عسقلاني: البحث عن أزمنة بيضاء، دار الماجد، رام الله 2006.

(8)فضل، صلاح: بلاغة الخطاب وعلم النص، عالم المعرفة، الكويت، عدد164، سنة 1992.

(9)مبروك، مراد: مستويات الخطاب في النص الروائي المعاصر(نار الزغاريد نموذجاً)، مجلة فكر وإبداع، العدد16، القاهرة، 2002.

(10)مرتاض، عبد الملك: في نظرية الرواية، الكويت:المجلس الوطني للثقافة
والفنون، 1998.

(11) مفتاح، محمد: دينامية النص، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء ط1، 1987.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى