الخميس ١٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم مجدي علي السماك

الست ياسمين حردانة

الست ياسمين حردانة منذ عدة أيام. وهذه ليست أول مرة تحرد فيها مدام ياسمين. لكن هذه المرة ليست مثل كل المرات.. وطول ما هي حردانة وهو يحدق إلى نصف التلفزيون.

يجلس نبيل الآن وحيدا في البيت نادما على ساعة الشيطان، أو هو يوم الشيطان.. بعد أن رجع إليه عقله، وصار كل همّه عودة زوجته والأولاد، صحيح أن الموضوع كبر وتطوّر، لكن نبيل لا يرى أنه بحاجة إلى تعقيد ولا ما يحزنون، رغم أن الجرح ما زال طازجا والحكاية لم تجف. ولكن كيف سيعيدها بعد كل الذي حصل؟ وفعلا ما حصل كان كبيرا.. وإنهاء مشكلة أصعب من بدئها في غالب الأحيان. في عقله الآن يكبر سؤال، ويغيب جواب.. وفي فمه يتجمد كلام. ولكن لو رجعت لا يوجد في البيت غازا، فالاسطوانة فرغت من أيام.

أصل الموضوع أنه ذات مساء عتمته خفيفة فيها طراوة، جلس نبيل على الكنبة أمام التلفزيون في أمان الله، وأسند ظهره الذي يسري في فقراته تعب وتنميل راح يحز مفاصله في فتور، وقد بدأ نبيل يهيئ نفسه ليشاهد تمثيلية رومانسية مفعمة بالحب وفيها غرام، فمدد رجليه على طاولة بلاستيكية صغيرة، فاختفى كعب إحدى قدميه في ثقب من ثقوبها الكثيرة المنشورة على سطحها الخشن.. ثم على مهله مد إصبعين في جيب جلبابه، والتقط عود ثقاب وراح يضغط به على أزرار الريموت كنترول لينتقي ما يرغب من قنوات.. هذا لأن أصابع كفه عريضة جدا وسميكة، فأصغر إصبع منها يغطي أقل شيء أربعة أزرار من أزرار الريموت ويضغطها في وقت واحد، وهذا أمر يزعج نبيل ويسبب له معاناة مملة، وما أكبر الإزعاج إذا أراد تنظيف ما في داخل تجويف أنفه من مخاط جاف.. وكان أكثر ما يضايق نبيل ويطق روحه هو كثرة الدعايات التي وقتها بالفعل أطول من وقت التمثيلية، لهذا اعتاد أن يستغل وقت الدعاية في تهذيب شاربه ذي الشعر الأسود النافر الذي نصفه طالع ونصفه نازل بلا نظام، وهو ربى شاربه ونماه منذ شهرين فقط، وهذا أول شارب يربيه نبيل في حياته، لهذا ليس لديه خبرة طويلة أو حتى قصيرة في تربية الشوارب.

في هذه اللحظة طلعت زوجته ياسمين بلا سابق إنذار من غرفة النوم، تهب منها رائحة العطر المعبأ في مسامات جسدها المغسول لتوه، وشعرها الغزير الأسود كان لا يزال مرطبا بماء الحمّام، وكاد يستحيل سواده البراق إلى عطر ونور، وكان يتناثر بكثافة ضاع في وسط سواده نصف جسمها الأعلى، وقد وصلت نهايات خصلاته إلى ركبتين كاملتي الاستدارة و تامتي الجمال.. وكانت ياسمين ساعتها على غير المألوف تلبس قميص النوم الزهري الذي جلبته لها أختها من السعودية قبل ثلاث سنوات، وهو رقيق وقصير يكشف من جسدها أكثر مما يستر، وبالكاد يصل وزنه إلى أربعة جرامات على أعلى تقدير، بما في ذلك وزن ملحقاته من دناديش، ولو تم جمعه وضغطه سينكمش لا محالة ويصبح بحجم حبة حمص صغيرة لا تفلح في سد فتحة أذن طفل صغير. ثم في رقة الفراشة جلست ياسمين بدلال رفيع جليل إلى جانب نبيل، وراحت بأدب تقرب وجهها من سحنته التي كانت بالفعل مقلوبة وملوّية أكثر من اللازم، فصار نبيل يعبس ويبعد رأسه إلى الوراء حتى التصق قفاه بمسند الكنبة، بعدها بدأت أصابع ياسمين، الرفيعة كأسنان المشط، على الفور ترعى وتتمرغ في شعر رأسه الخشن المفلفل الذي يغطي أذنيه النافرتين، ولم تكتف بهذا إنما راحت أيضا تداعب شعره وتعبث به، فمرة ترفعه ومرة تنفشه ومرة تلبده، واستمرأت ياسمين اللعبة وتمادت في غيها، فراحت تداعب أيضا أطراف شاربه الذي رباه بألف غصب..

هذا وكان ثلث وجهها يبتسم وثلثه يموج وثلثه يلمع، وكان كله عطشان وكله كان يفور.. وروحها استمرت تغلي وتوشك أن تتبخر كلها، وأخذت ملامحها المشتعلة تفيض ضياء وتفيض شهوة.

بسبب التعب والقرف الذي يسكنه لم يعر نبيل زوجته ياسمين أي اهتمام، حتى إنه لم يكلف نفسه أي عناء ليجبر بخاطرها ويمد أصابعه ويقرص خدها الطري الأبيض ولو قرصة واحدة خفيفة لوجه الله، وهو بالفعل كان مرهقا، لأنه طول النهار وقف على الدور في محطة الوقود والشمس تنصب على رأسه وتسلق نافوخه سلقا.. لقد كان ينتظر دوره ليعبئ اسطوانة الغاز التي فرغت منذ ثلاثة أيام، وانتظر نبيل حتى توّرمت قدماه وانتفخت فيهما عضلات ونفرت منهما عروق، لأنه انتظر منذ الصباح الباكر إلى غروب الشمس، ولمّا وصله الدور قالوا له لا يوجد غاز لأنه خلّص وتعال بعد أسبوع.. فتنكد نبيل ومزاجه تعكر وصار مثل الهباب، وأحس في داخل نفسه وفي خارجها أنه في أزفت مزاج مر عليه في حياته، حياته التي عاشها وحياته التي لا يزال يموتها، وحياته التي يسبها في كل يوم ويلعنها في كل دقيقة، حتى أنه راح يسب الداية التي سحبته من بطن أمه، وهو على الدوام يوجه أصبع الاتهام في سبب تعاسته إلى الداية، لأنها هي التي أخرجته من النعيم والجنات الواسعة التي كان يحيا داخل بطن أمه التي ماتت عندما ولدته، لقد أخرجته الداية بلا تفكير منها، إلى هذه الدنيا الضيقة عليه والتي هي مثل جهنم أبدية كلها شقاء في شقاء، وكان نبيل يلعن أيضا فيما يلعن اليوم الذي ولد فيه، ويشتم اليوم الذي تزوج فيه، ويزجر اليوم الذي أنجب فيه أولادا لا تملئ بطونهم صخور الأرض، ويعتبر نبيل يوم ميلاده هو يوم شؤم على البشرية جمعاء، وبات يتمنى أن يدفن حيا أو ميتا قبل أن يموت أولاده أمام عينيه من قسوة الأيام وعربدة الزمن، وزمن العربدة.. والعنظزة.

أراد نبيل استغلال وجود زوجته ياسمين إلى جواره بأصابعها الرفيعة المفصلة تفصيلا دقيقا على مقاس أزرار الريموت، ليرتاح من عود الثقاب وهمه، فأعطاها الريموت وطلب منها تغيير القناة التي يشاهدها أثناء فترة الدعايات المقيتة.. فأخذت زوجته تمازحه ولم ترجع إلى القناة التي كان عليها التمثيلية بعد انقضاء وقت يفترض أنه كاف، وفوق هذا لم تعطه الريموت وأخفته خلسة تحت الكنبة.. فتنكد نبيل وشتمها بقسوة، وبدأ بينهما نرفزة ونقار، واحتد النقار ونما بسرعة منقلبا إلى مشاحنات، وفي لمح البصر كبرت المشاحنات وترعرعت مستحيلة إلى عراك.. بعدها اندلعت الحرب.

حاصر نبيل زوجته الست ياسمين بين الكنبة والحائط، فصارت واقعة بين فكي كماشة، فلم تستطع الهرب أو الانسحاب، ثم قام بحركة التفافية سريعة، ودار بانسحاب تكتيكي متوجها بأقصى سرعته إلى المطبخ، مستودع الأسلحة الثقيلة، وعاد مسلحا بالمغرفة المعدنية، و بحركة مباغتة صوب ضربة إلى رأس زوجته ففتح فيها جرحا كبيرا وعميقا.. فصار الدم يتدفق مثل النافورة.. فانتصر نبيل.
جمعت ياسمين كل ما استطاعت جمعه من خرق وأقمشة بالية في البيت ولفتها على الجرح حول رأسها، فتضخم رأسها بالقماش حتى لم يعد بالإمكان دخوله في فتحة الفستان، فاضطرت أن تشق الفتحة لتوسعها.

ثم جمعت ياسمين ملابسها وملابس الأولاد في كيس نايلون كبير، وقد أزمعت على ترك البيت وعدم العودة إليه بالمرة، لكنها قبل خروجها طلبت من زوجها نبيل أن تأخذ معها جهاز التلفزيون، لأنها شاركت في نصف ثمنه عندما اشتروه قبل أعوام، فيومها باعت ياسمين سلسلة الذهب التي حول رقبتها والتي تزن سبعة جرامات، فتناول نبيل المنشار الذي يعمل بالكهرباء، هو نفس المنشار الذي كان يستعمله عندما كان يمارس مهنة الحدادة أيام زمان، لمّا كان موجود في البلد شغل.. ثم قص نبيل التلفزيون بالمنشار وقسمه إلى نصفين متساويين باستعمال المسطرة والقلم، وأعطاها نصف التلفزيون وأبقى لنفسه النصف الآخر، وقص أيضا الريموت كنترول إلى فلقتين متساويتين، وأخذ كل منهما فلقته.. ثم خرجت ياسمين إلى بيت والدها غضبانة وحردانة، ولم ينس نبيل لحظتها أن يودعها بسلسلة رشيقة من الشتائم واللعنات الموزونة والمنظومة على بحور الخليل بن احمد الفراهيدي، شتائم أصابتها وأصابت أباها وأقاربه وأقارب الأقارب، وبعض الجيران وأقاربهم.. حتى سابع جار.

يجلس نبيل الآن في البيت وحيدا نادما على ساعة الشيطان، وجاره العجوز الذي كان يساعده في إرجاع زوجته في كل مرة تحرد فيها، يرقد الآن في المستشفي بين الموت وبين الحياة.. وهو رجل طيب كان أيام زمان يساعد الناس في استخراج شهادات الميلاد.. ولوما علاقاته الواسعة، وجهوده الأصيلة، لظل كل الناس بلا شهادات ميلاد وربما بلا أسماء إلى يومنا هذا.

وأهل نبيل وأقاربه لا يريدون التدخل في الموضوع لأنه سوّد وجوههم في مرات كثيرة.. وهو لا يجرؤ على طلب معونتهم أو تدخلهم.

دار في خاطر نبيل التوجه إلى خاله ليساعده، وهو رجل بخيل، لكنه مع خاله في خصام، من يوم ما استدان منه خمسة دولارات قبل أربعة أعوام ولم يرجعها إلى الآن.. ويقال أن خاله لشده بخله بكى ابنته بعين واحدة لمّا ماتت قبل عام ونصف.
ولكن ماذا لو رفضت ياسمين العودة إلى نبيل؟

سؤال.. مجرد سؤال. يبلبل.. ويتخلخل من هوله قلبه ويرجف صدره.. ويتحجر في فمه اللسان، والريق يجف.

وماذا لو ذهب إلى أحد العرافين ليسمع الجواب؟

فألمع العرافين يسكن قريبا في الحارة المجاورة، وهو منذ فترة قريبة أرسل الجن الذي يتعامل معه في دورة تدريبية إلى الهند، ليرفع مستواه.

ولكن العراف بحاجة إلى نقود كثيرة! وماذا لو قال العراف إن ياسمين لن ترجع؟
أهذا يعني الطلاق؟ هل يقدر نبيل على دفع المتأخر والنفقة ومصاريف المحامي؟
ولكن لماذا الطلاق وهو يحبها ولا يريد تفكيك أسرة كان الحب يربطها.. والهناء.
حدق نبيل إلى المرآة وهو يحلق ذقنه في الحمام وراح يكلم صورته التي في وسط المرآة..

 آه منك يا نبيل.. أنت يا نبيل انتصرت في معركة المغرفة.. ولكنك تحصد الآن نتائج المهزوم دون أن توجه إليك ضربة واحدة.. ها أنت الآن مهزوم بانتصارك وضعيف بقوتك أمام ضعف زوجتك، ومتروك بضعفك أمام اسطوانة الغاز التي كان جسدك يتلوى من أجلها كالأفعى تحت شمس الله الموقدة.. ليس من حق المهزوم أن يقرر وحده مصيره أو مصير الآخرين.. فالهزيمة كما النصر تعني الجميع. أنسيت يا نبيل زوجتك ياسمين؟ ياسمين التي وقفت معك في الحلوة والمرة.. ياسمين التي تحملّت ذلك اليوم عندما ذهبت إلى المسجد تصرخ في جموع الناس والمصلين، بأنك لا تجد ما تطعم به أهل بيتك ورميت إليهم بأولادك الصغار ليطعموهم.. أنسيت؟ وحينها حضرت إلى بيتك لجنة إنسانية للتأكد من صحة كلامك، فعادت اللجنة تبكي مغرقة لحاها بالدموع لمّا لم تجد في بيتك غلوة شاي واحدة أو حتى حفنة ملح أو كسرة خبز.. أنسيت يا نبيل؟ تفو عليك أما انك قليل أصل يا حيوان.. يا واطي.. اخص.. تفو.

وهذه "التفو" لم تكن على ألفاضي في الهواء.. إنما رصعت وسط المرآة وسالت ذيولها إلى أسفل. خرج نبيل من الحمّام وفي ذهنه الذهاب وحده إلى زوجته، ويقول لها ولوالدها بعض الكلام الحلو الذي يحفظ منه الكثير، ويرضيه بأي كلام وأي شكل، ويبوس التوبة.. وهو صار على استعداد لأن يطبطب على ياسمين إذا اقتضى الأمر.. وربما يتنازل ويبوس على رأسها..أو حتى يبوسها كلها.

بالفعل ذهب نبيل وعاد بزوجته راضية مرضية.. ما إن دخلت زوجته إلى البيت حتى أسرعت إلى المطبخ ورمت المغرفة من النافذة، متحججة بأنه لا يوجد غاز ولا يوجد ما يطهون، وحجتها منطقية لأنها صادقة.. وكان نبيل ينظر إليها ويضحك.. ثم سألها: هل عرف والدك بأنني شتمتك وشتمته؟

لكن ياسمين لم تجب وراحت إلى الداخل.. محاولة كتم بسمة كادت أن تندلع على شفتيها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى