الجمعة ١٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم عناق مواسي

عذراً... أنا لا أعرف محمود درويش

نزل زوجي مسرعاً من مكتبِه طيراً جارحاً واثباًً، سمعتُ ضربات قلبه وهي تقفز على الدرج أدركت أن أمراً مفزعاً قد حدث... أول ما خطر في بالي أنني أخفقت في إحدى واجباتي... لكن المطبخ نظيفٌ للغاية والبلاط مرآة !!! فوراًَ جمّعت قطع البازل عن الأرض، وخبأت قسماً منها تحت السجادة ووقفت منتظرة أن يصرخ في وجهي... ابتلعت صمتي وفتحت أذني... انتظر... لكنه لم يفعل!!!!!!

ترددت في إبطاء نبضِه بسؤالٍ عابرٍ يقطع هذا الشك المريع، أسند يده اليمنى إلى الكرسي المُسنَد إلى الطاولة.. وبصوت أعياه التنهد قوةً.. قال ما قال وغادر البيت.. وغادرني الشوق... إلى اللامكان..

لا أتذكر حجم الصدمة حينها، لكني أتذكر تماماً أنها نوعٌ مختلفٌ من الاختناق، جديد علي ولم آلفه مرةً، ولا حتى تحررت من قفصي الصدري آهات مشبعة بالولع والدلع والهلع آنذاك...

أرغمت طفلّي على النوم بفظاظةٍ، فأنا لم يعد بمقدوري أن أعيد ترتيب الأشكال فكل الخطوط المستقيمة تكسرت أمامي وانحنت لهزيمتي وأغلقت كل دوائر تفكري واحتجزت دمعتي في مربعٍ من الفراغ.. بقيت لوحدي في البيت وأعلنتُ انتصار هزيمتي على انتصاري.. ومرت ساعات الأيام الأربعة بتثاقل شديد.. اعتذرت عن الذهاب لسهرة صديقتي الحميمة وأرسلت لأختي رسالة قصيرة على هاتفها أنني لا استطيع مشاركتها في صنع كعكة الجوز مملة التفاصيل وكثيرة المقادير.. وأشعلتُ أعواد الثقاب المنتصبة صمتاً وأنا اشعر بمرارة تداعب شفتي ابتسامةً بمراوغة شديدة وتمتعت جداً وأنا أراها تنطفئ أمامي واحدةً تلو الأخرى وهي تسوّد ألماً تاركةً وراءها دخاناً يقتحم الفضاء.. ولعنتُ الساعة التي لم أجد بها شمعة واحدة في كل المخابئ السرية في غرفة النوم وأدراج المكتب السفلية حيث أخبئ الشوكلاته التي اشتريها لنفسي فقط..

بسرعة نسرية أخذتُ أوراقي المزرّقة هباءً بالحبر السائل.. وأشعلتها على انفراد وجلستُ أمامها أطالع كف هذا المساء على مساحة آفلة في عمق التكوين اختنق.. فاختنق..
وقضيت ما تبقى من الليل أتقلب على وسادتي الهاربة من جفني أرقٍ يصبو لفجر آتٍ على مهل...

ولما بان البياض في أفق الأربعاء كنت قد نظفت كل الزوايا ولمعت المرايا ورتبت الرفوف واعدت آخر قطعة من الملابس إلى مكانها... لم يعد هناك أي شيء كل الأمور على ما يرام..

هناك، في بيت أبي وهو من أوائل البيوت التي تستقبل الشمس في قدومها إلى بلدتنا شرقاً، كان مسرحاً للاعترافات المملة، وما أن وصلتُ إليهم كانت الساعة الثامنة صباحاً...

اختصاراً لنقاشٍ هاربٍ من الجدوى معهم، قلت وهم يشربون الشاي الساخن المعطر بالزعتر... أريد أن اترك نوّار عندكم وسآخذ بشار معي ولن نتأخر.

سحبتُ نفسي بالقوة من أمامهم معللةً أن زوجي ينتظرني في السيارة وانه لا يحتمل أن ينتظرني كثيراً لإطالتي المفرطة في الحديث عن أغلب التفاصيل اليومية المهمة والغير مهمة حينما أرى أمي... فأوجز أياماً وساعاتٍ بدقائق مذهلة من الثرثرة..

وارتفع صوت أبي وقال لي: أين هذه المرة إن شاء الله؟؟

ألصقت أمي إليه جملتها " يوم لمهرجان الغناء الدولي، ويوم لمسيرة العودة، ويوم لذكرى النكبة والأسبوع الماضي افتتاح المركز الثقافي وغيره.. وغيره، بكفي عاد، بيتك وأولادك وزوجك.. لازم تستقري......."

أصواتٌ من السيارة المنتظرة بمن فيها تستصرخني وهما لا يزالان يريدان ربما مقنعة.. أشرت لزوجي أني قادمة وقلت لهم بسرعة كي أتجنب الملاحظة التالية:

"إلى الجنازة..."

وانطلقنا إلى الجنوب تاركةً خلفي سيلاً عارماً من التذمر!!!

تحررتُ من الأسئلة لأستسلم ثانيةً إلى اختناقي وكلما اقتربنا من الجنوب كلما أردت الهروب... من لقاء حياةٍ ومماتٍ على بعد خطوات نقشها المعول والمنجل والسنابل...
رفعت بطاقة هويتي الزرقاء وسُمِحَ لي المرور بسلام.. لم يكن في المقاطعة أناسٌ بعد.. وقفتُ تماماً في انتظار الجثمان وأنا أتحرق شوقاً لملاقاته وإخباره بالسر..
شعرت أني لوحدي أقف على حافة بساطٍ من ياقوت.. أنا لوحدي...

حط الجثمان وأنا أراقبه عن بعد.... هابطاً من السماء إلى الأرض مستريحاً في الأرض راجعاً إلى السماء... الموسيقى العسكرية تتقدم ودموعي الحارة تتقدم ليلتقيا على باب الضريح... سجدت للسكون بلحظة مرّت من أمامي موج ابتلعه الشاطئ بعمق.. اقترب مني على أكفٍ من عسكر، والعيون تتسع لمرأى انتصارٍ على الأمر الذي لا يقهر...
شعراء وأدباء وكتاب وأصدقاء وأصدقاء- أعداء وأناس والكثير منهم مروا من أمامي أسرابًا من أيامٍ تمرُ على المعابد الواجفة من الظل..يتبادلون التعازي وهي ترّن على طبول مسامعي فتحدثُ دوياً مزعجاً من الألم... واحداً لم يقدم لي تعزيةً في روحي التي رافقتك حيناً كصّبارةٍ لم تقتلع من قريةٍ مهّجرة.. لكن أحداً لم يعنيني.. واحداً لم يعن لي شيئاً...
ولما كان على بعد ذراعٍ مني..

 " أتعرف أنني كنت قريباً سألتقي بكِ لولا أن القدر أسرع إليك... كنت على وشك أن اعترف لك بسرٍ كبير لا أحد يعرفه غيري... ولا حتى سبق لي وان حولته إلى حفنة كلمات ازرعها فوق تربة السطور لأجمعها سبع سنابل اغرسها فوق أهازيجنا معاً..

كل ما في الأمر أنت... وهذا السر الكبير الذي أتاني إليك اليوم بعدما قضيت ساعة كاملة وأنا انقش الكحل حزناً في عيني الذي أرهقهما البكاء لوعةً لان لحظة اللقاء ذابت بين أصابعي ولم استطع أن امسكها...لأني أردت أن أراك حسب مواعيدي لا حسب ما تشاء المواعيد...

لم يتسن لي أن أعرفك على طريقتي الخاصة حيث كانوا يتزاحمون إلى قصائدك أما أنا فلا... لا اعرف لك سوى بعض الكلمات التي أصبحت تتناقلها الألسن بخفة حفظتها منهم.. حبة الرمان التي طلبتها مني أن أفرطها لك بعدها في انتظارك والعسل في انتظارك تتذوقه على مهل والوسادة البيضاء المطرزة..

وقهوتك التي علمتني أن اعملها بطرقة شهية لا زلت أتذكرها.. وقميصك الذي نبهتني إلى خطوط الحرير المخفية فيه.. وربطة عنقك الحمراء المربوطة بشكل مذهل.. أتعرف حتى عطرك صرت استعمله في غير موعده عندما لا أكون لوحدي لتتملكني وأتملكك..
لم اشتر لك ديواناً.. لم أحفظ شيئاً عن ظهر قلب.. ولا اعرف تضاريس طفولتك المهجرة ولا حتى المكان الذي أدركت بلوغك فيه.. أطمئنك فقط انك معي..."

لم تهب في موقدي أي شرارة لتشعل فيّ فأضيئ وحشة الأوراق بنار من نور.. رغم كل ما مر في هذا اليوم.. عدتُ في المساء صامتة بلا كلمات، همي أن أواجه أمي بجواب لا ينبلج منه سؤالٌ آخر معاتبةً متذمرةً على تأخري الاعتيادي...

فتحت الباب... ورائحة أعواد الثقاب لا زالت تئن في المكتات الصامتة...

وأعلنت الحداد..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى