الثلاثاء ٢٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨

الكبرياء يليق بـ عبد الناصر

بقلم: ممتازالحسن

مشكلتـنا الحقيقية مع جمال عبد الناصر أنه بلا رذيلة مما يجعله من الناحية العملية غير قابل للتجريح، فلا نساء ولا خمر ولا مخدرات، كما لا يمكن شراؤه، أو رشوته، أو حتى تهويشه، نحن نكرهه ككل، ولكننا لا نستطيع أن نفعل تجاهه شيئاً، إنه فعلاً بلا رذيلة وغير قابل للفساد (يوجين جوسـتـين) ـ مديرالمخابرات الأمريكية سابقا.

بهذا الكلام أعلن جوستين كرهه واستسلامه بأن واحد، كرهه لأن عبد الناصر أوقع أضراراً بالغة بالمصالح الغربية بعد أن طردها من المنطقة العربية حيث لاحقها من مكان إلى مكان من مصر إلى الجزائر، من العراق إلى اليمن إلى ليبيا إلى كل بقعة من الأرض العربية. لذلك ترك بصماته في كل موقع وكل ناحية. وأعلن استسلامه لأنه وقف مكتوف الأيدي أمام هذا الرجل. إن إنجازات عبد الناصر على الصعيدين الوطني والقومي دخلت التاريخ المشرف من أوسع الأبواب، هذه الانجازات التي كانت بالنسبة للغرب كوارث هي التي زرعت جمال في قلوب الجماهير العربية، على امتداد وتنوع ساحات الوطن العربي. إن الأحاسيس الوطنية والقومية والطبقية التي تمتع بها، ومن خلال نظافتها ومصداقيتها وأصالتها دفعته إلى اتخاذ القرارات والمواقف المناسبة، في الأزمنة والأمكنة المناسبة: (إقامة الجمهورية ـ إجلاء المستعمر البريطاني ـ تأميم قناة السويس ـ الإصلاح الزراعي ـ الاشتراك بثورتي الجزائر واليمن ـ حشد القوات المصرية لمنع الغزو التركي لسورية ـ منع عبد الكريم قاسم من التوغل في التورط بالمسألة الكويتية ـ الجمهورية العربية المتحدة ـ حرب حزيران تضامنا مع سورية بأحد جوانبها – التهيئة للثأر خلال ثلاث سنوات ـ دفع حياته وهو يعالج أحداث أيلول)، والكثير أيضاً الذي لا يتسع المجال لذكره هنا.

امتلاكه مقومات الزعامة التلقائية وانبثاقه من بين الناس وأمانته وإخلاصه ووفاؤه لهذا الانبثاق، وإحساسه المتنامي بالمسؤوليات، واستقامته واستقلاله، جعلت منه رمزاً قومياً، أما إنسانيته فقد جعلت منه رمزاً عالمياً، وشخصية مؤثرة وجديرة بالاحترام أثرت في مجريات الأمور الدولية، من خلال عدم الانحياز أو الحياد الايجابي، ومن خلال علاقاته الدولية لا سيما بالمعسكر الاشتراكي. إن المعسكر الاشتراكي، وليس كما فعل مع البعض، لم يكن عبد الناصر يبحث عن موطىء قدم للانتشار والفعل السياسي أو العسكري في المجال الدولي، وإنما كان عبد الناصر شريكا بالمعنى الدقيق للكلمة في كل القرارات والمواقـف النظيفة والصادقة، لذلك فرض احترامه. ومنحه السوفييت أعلى الأوسمة لديهم ليس لشرائه، لأنه غير قابل للبيع، وإنما تقديرا لشخصيته وتثميناً لسياساته النزيهة ومنهجه النظيف. إن جرأة جمال وجسارته لم تنطلق من الزيف أو الفراغ أو الأوهام، ولم تتجلّ في الخطابات الفارغة والكلمات الزائفة، وإنما انطلقت من قاعدة صلبة، اساسها الجماهير والحقيقة، وهدفها الحق، وعبد الناصر كان يعرف هذا لذلك تجلت جرأته وتجسدت جسارته بمواقفه الشجاعة تحقيقاً للمصالح الوطنية والقومية والطبقية والانسانية. لقد حاول البعض تقليده، ولكن بغير الزمان وغير المكان، والأهم في غير الشخصية لذلك كان لابد من الفشل.

لم يرتكز عبد الناصر إلى ايديولوجية ، ولم يستند إلى حزب، ولكنه لم يكن فردياً بل كان – وخاصة في المسائل الكبرى – يستشير ويشاور من أكبر المسؤولين إلى أصغر الموظفين وفي ضوء النتائج يتخذ القرار. وقد قيل الكثير عن تورطه أو استعجاله في حرب حزيران، ولكن الحق إن إسرائيل كانت ستعتدي سواء أكان لديها المبررات أم لا، وذلك لأن عبد الناصر بجماهيريته ومصداقيته بدأ يهدد وجود ومصير المصالح الغربية والأطماع الاستعمارية، وهكذا كان فقد دعا ليندون جونسون الرئيس الأمريكي أيامها نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة إلى واشنطن يوم 6 حزيران 1967 للتباحث في الوضع المتوتر في المنطقة ومحاولة إيجاد حلول سلمية لتهدئة الأوضاع والخروج من المأزق، ولكن الصهيونية باشرت العدوان يوم 5 حزيران وحتى (يوثانت) الأمين العام السابق لمنظمة الأمم المتحدة ساهم في اللعبة عندما رفض السحب الجزئي للقوات الدولية وأصر على الانسحاب الكامل أو اللانسحاب مما يعني التدخل السافر في شؤون مصر الداخلية والنيل المباشر من سيادتها على أراضيها وقراراتها استقطبت شخصية جمال اهتمام العالم، وفي مرحلة معينة كانت في مركز هذا الاهتمام، لذلك صدرت عنه مئات الكتب والمؤلفات، ولا زالت تصدر، بعض الكتب أنصفته، وبعضها أرادت التشهير به للنيل من مكانته وزعزعة ثقة الجماهير بشخصيته الكاريزمية، وليس بالكتب فقط وإنما بالعمل والممارسة أيضاً. خلقوا رموزاً تافهة وسخيفة ووصفوها بالناصرية ومن لا يعرف عبد الناصر ولا الناصرية مقت الاثنين لان الأتباع يمثلون المتبوع. ولكن الحقيقة بدأت منذ حين بالظهور، فليس كل من ادعى الناصرية هو من نهج ومصداقية عبد الناصر، بل إنّ الكثير من الأدعياء هم من ألد أعداء عبد الناصر، وإنما ادعوا الناصرية ادعاء مأجورا للطعن بعبد الناصر وتسفيه إنجازاته وتقزيمه في محاولة بائسة لعملقة البعض الذين لن يرتقوا إلى مستواه مهما طالت سلالـمهم مستوردة كانت أم كاذبة وملفقة. وفي بيته كان يعيش حياة المواطن البسيط وأكثر من مرة ضبط متلبساً بالكشري وفحل البصل، في منزله الذي لم يغيره منذ أن كان ملازماً في الجيش وحتى موته مديناً. أما أبناؤه فقد كانوا كبقية الأبناء في نفس المدارس بنفس الملابس ونمط الحياة، وأما زوجته تلك الإنسانة الجديرة بالاحترام تلك الإنسانة الرائعة التي آزرته وأعانته في الظروف الحالكة، وفي كل الظروف، وقامت بالأعباء الزوجية كما تقوم كافة النساء من تربية وتنظيف وطبخ وكي، لم تتطلع يوما إلى مكاسب وامتيازات الرؤساء وزوجاتهم، لأنها كانت زوجة الريس جمال وليس أي رئيس آخر.

لم يمارس الاستفتاء الروتيني أو الملفـق بل مورس عليه استفتاء من نوع أخر: مورس عليه في الـ 1954 أيام الجلاء ومورس عليه في الـ 1956 أيام تأميم القناة والعدوان الثلاثي، وفي الـ 1958 أيام الوحدة، ومورس عليه في سورية يوم الانفصال في الـ 1961، وأشد وأروع ما مورس عليه يوما 9و 10 حزيران 1967، حيث انتقلت مصر كلها، بل مجموع من آمن بعبد الناصر إلى القاهرة وتحديداً إلى منشية البكري. تراجع عن الاستقالة، وليس كل تراجع إلى الوراء أو الخلف، ألزمته الجماهير، فالتزم، ودفعته إلى الأمام، فتقدم، وبدأ البناء الجديد لاستعادة الحقوق المسلوبة وإعادة الاعتبار للكرامة المهدورة. عندما نقرأ جمال في يومنا هذا كاننا نقرأ عمر بن الخطاب في زمان. وعندما نقرأ عمر بن الخطاب في أيامه كأننا نقرأ جمال عبد الناصر في زمانه، تشابهاً إلى حد التماثل في بعض الأحيان الأنك ابن أمير المؤمنين؟ الأنك ابنة رئيس الجمهورية؟ عمر الذي قال عنه علي: ما تركت شيئاً لغيرك من بعدك يا عمر، أو كم أشقيت الذي سيأتي بعدك يا عمر؟. عمر اختط نهجاً، وجمال رسم طريقاً مستقلاً نظيفاً، وسار عليه، ولو سار الرؤساء من بعده على ذات الطريق لما كان حالنا كما هو عليه اليوم. في هذا الزمن وخاصة عند الأجيال الجديدة، وعندما نستطلع نهج عمر، وندرس طريق ناصر كأننا نقرأ في ألف ليلة وليلة!! وهم يريدون ذلك، عمر خرافة وجمال وهم.

إذن لا نجد نحن كأمة أن نمتلك مصيرنا، وأن يكون من بيننا قادة وزعماء، بكل الجدارة والاستقامة والشرف، ولكن إرادتهم تلك هي الخرافة بحد ذاتها والأوهام بعينها: فمنا عمر ومنا جمال، وعندنا مثلهما، ونريد الأفضل منهما، لأنهما قالا هذا وأراداه، ولأن منطق التطور يستلزم ذلك. ولد عبد الناصر، ليكون ميلاده بشارة بميلاد أمة. وفي أيلول غاب جمال. إبان محاولاته المستميتة وقف الأحداث في الأردن وحتى غيابه أزعج الأعداء إن أكبر جنازة في التاريخ، حسب مجموعة غينيس للأرقام القياسية، كانت لجمال فقد شـيّعه إلى مثواه الدنيوي الأخير أكثر من ثلاثة ملايين إنسان. غاب فاشرأبت الأطماع، كان يريد أن يحتل موقعه. كل يريد أن يكون مكانه، ولكن شتان ما بين الثرى والثريا. ارفع رأسك يا أخي.. هذه صرخة جمال، وفي نيته طرد الذل ودحر الهوان.. لذلك تـليق الكبرياء بعبد الناصر، وتنتسب إليه.

بقلم: ممتازالحسن

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى