الجمعة ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
الاستشهاد في الشعر الفلسطيني الحديث: (المناصرة، درويش، والقاسم)

أطروحة دكتوراه لريتا حدّاد

جرت في الجامعة اللبنانية، مناقشة أطروحة دكتوراه أعدتها الطالبة ريتا حداد، عنوانها (الاستشهاد في الشعر الفلسطيني)، بإشراف الدكتور ديزيره حبيب سقال. وقد ناقشها الدكاترة: هند أديب دورليان، مفيد قميحة، رشيد مبارك وخريستو نجم، ونالت الطالبة درجة (جيد جداً).

هنا كلمة المناقش الدكتور خريستو نجم: موضوع هذه الدراسة جديد، لأن الباحثين قديماً لم يتَوغّلوا في نواحي هذه الأطروحة (الاستشهاد في الشعر الفلسطيني). فالموضوع محتواه معاناة فلسطين في مقابل إسرائيل منذ الاحتلال، وقد تعمق البحث في المقاومة. ولا شك في أن شعراء العرب ذكروا أيضا كارثة هذا الوطن المتألّم. ولأن الموضوع محصور في شعر الفلسطينيين، ركّز البحث على ثلاثة من الشعراء: (عز الدين المناصرة، ومحمود درويش، وسميح القاسم). أ- الفداءُ انتصار، وقد أظهرت هذه الدراسة رغبة الفلسطينيين بالمقاومة، عن طريق الفداء والانتصار، أي في الكفاح من أجل تحرير الوطن، الذي عاش فيه قديماً يسوع المسيح وتعذّب فيه مثل الفلسطينيين. وبسبب هذه المعاناة سيطر الموت على الشعر الفلسطيني. مثال ذلك هذه المقطوعة الشعرية لـ (محمود درويش) القائل: (هناك موتى ومستوطنات، وموتى وبولدوزرات، وموتى ومستشفيات). ونتيجة هذه الكارثة طالب الشاعر بالمقاومة قائلاً: (علّمتني ضربة الجلاد أن أمشي على جرحي/ وأمشي ثم أمشي وأقاوم). وهؤلاء التعساء في مقاومتهم لا يخافون حتى من الموت، لأن الحياة بنظرهم تنبعث من رحم الموت. من هنا أصبح الانتحار صفة إيجابية لدى الشاعر محمود درويش، لأنه جعله مرحلة عبور من حياة الدنيا إلى حياة الجنة التي ينتصر فيها الخير على الشر.

يقول: (الله أكبر/ هذه آياتنا فاقرأ/ باسم الفدائي الذي يرحل / من وقتكم لندائه الأول/ الأول الأول/ سندمّر الهيكل). لا شك في أن لهذه الآراء ملجأ دينياً إسلامياً من أجل الفداء، تلبية لهذه الدعوى: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم). فالانتحار انتصار كما في قول (درويش): (قال انتحرت، وردّ معتذراً أتيتُ/ وقال حارسه الزماني: انتحارك انتصار). فمعاني الانتحار إذاً إيجابية، وهي ليس الخضوع بل استخدام المحاربة. يقول (سميح القاسم): (كفانا انتحاراً بسور الطوالع/ بين البروج وبين الكواكب،/ صحراء قومي نحارب).

و(محمود درويش) يشاركه في الدعوى إلى النضال والمقاتلة كما في قوله: (يا انتحاري المتواصل/ قف على ناصية الحلم وقاتل). من الطبيعي أن نقرأ هذه الكلمات الفلسطينية عندما احتلّت إسرائيل جزءاً كبيراً من أرض الوطن الفلسطيني، وقتّلت فيه عدداً كبيرا، وطردت أيضاً أعداداً كثيرة من الشعب الفلسطيني. كانت إسرائيل تحصد القتلى من أعدائها بالمئات. وكان الفلسطينيون يحاولون في كل مرة تسديد الضربات الموجعة. هذا ما ورد في الأطروحة تعبيراً عن (الاستشهاد في الشعر الفلسطيني). لا ننكر أن العرب حاولوا مساعدة فلسطين، ولكن بعضهم انقطع عن ذلك بسرعة. من هنا عتب الشعراء الفلسطينيون على بعض الاخوة العرب. ب-تحليل الهواء والنار والألوان: هذه الدراسة تبدو جيدة، لانها تنتمي إلى مناهج حديثة، ولا سيما (الموضوعاتية) والتحليل النفسي. مثال ذلك رمزية الألوان (الأبيض والأحمر والأسود والأخضر والأصفر)، التي ظهرت في الأشعار بمعنى الطهارة والخلود أو السلبية والفناء. وغير ذلك عن طريق التحليل الحديث الذي اشتهر مع (غاستون باشلار) في العناصر الأربعة: (الماء والنار والهواء والتراب). ولأن الهواء هو الريح العاصف والغاضب للعدو، تحوّل الهواء الفلسطيني إلى رياح جبارة تواجه العدو الإسرائيلي. وكذلك النار أيضاً، كان الأعداء يطلقونها على فلسطين.

ولكن القتيل في رأي الشعراء يصبح بطلاً شهيداً، ومكانه مضمون في الجنة، فالنار ليست دائماً صورة الجحيم بل هي رمز النور والإشراق وموطن الروح والتأمل، لأنها النار المطهّرة التي تسمو أيضا بالمرء، فترفعه من أدران الحس إلى شفافية النفس. وهذا تاريخ النار المجوسية المقدسة، التي عبدها القدماء من فرط ما بهرتهم بصفاتها، وسحرتهم بجبروتها وعظمتها. وكذلك تحليل الألوان في هذه الدراسة من المناهج الحديثة التي استخدمتها الطالبة، متعمق بضجيج الألوان في قصائد الشعراء الفلسطينيين. فالأحمر للعنف، والأزرق للوفاء، والأخضر للرجاء، والأصفر للخبث والحسد. يقول (محمود درويش): (وتعوي إناث الوحوش/ على قمر أحمر فوقنا). فبعد الاحتلال، تحول الزمن إلى أيام الوحوش وفي ظل القمر الأحمر.

فاللون الأحمر لون النار لارتباطه بالدم. والنار كما ذكرنا، تحمل المعاني المتناقضة كالخير والشر. يقول (غاستون باشلار): (النار التي تحيا في قلوبنا تصعد من الأعماق إلى الأعالي كأنها عشق، ثم تنزل لتتوارى وكأنها تحتوي الحقد). فاللون الأحمر إذا نار حمراء. واللون الأزرق أكثر الألوان عمقا. ورد في مطلع قصيدة (عز الدين المناصرة): (كنتَ تغني في سرِّك وحدك في الحافلة الزرقاء).

وختمها قائلاً: (وثيقة قتلك في يدكَ الآن/ جاوزتَ حدّ الغناء). واللون الاصفر رمز الخلود والفناء وقوة أشعة الشمس وضآلة شحوب الموت. ونتيجة مأساة فلسطين رأى الكثيرون أن اللون الأصفر رمز لألوان الخريف، حيث تتعرى الطبيعة من ثوب حياتها الاخضر، فيكون الاقتراب في الخريف من الشيخوخة والنهاية والموت. يقول (محمود درويش): (ورق العمر اصفر. مر الخريف عليّ ولم أنتبه/ مر كل الخريف، وتاريخنا مر فوق الرصيف). تكثر الألوان في النتاج الحزين، وتكون الغلبة للون الأصفر. يقول (سميح القاسم): وأسأل نفسي أشقى وأضجر/ ألم يكن العشب أنقى وأنضر؟/ هل الصبح أصفر؟). فجلي أن الصبح المشع بالشمس تحول إلى صبح اصفر باهت. معناه تبدل الأيام من الفرح إلى الحزن، من السيادة إلى الاستغلال، من الحرية إلى العبودية، من الحياة إلى الموت.

من هنا تساؤل (سميح القاسم) بقوله: (هل الصبح أصفر؟). ورد في البحث أيضا حنين العودة إلى الوطن بعدما عانى المرء رحيله. وهذا الحنين إلى الوطن نسخة من الأرض/ الأم / بنظر التحليل النفسي الذي ورد في هذه الدراسة. ولأن الأمومة الهوامية في أوجه الحياة اللاواعية، رمز المحبة، أصبحت فلسطين / الأم، وطن الجمال. ولذا قرأنا في الدراسة)، أن فلسطين لو لم تكن وطن الجمال، ما كانت تعرضت لهذا الطمع الذي اختاره الأعداء). وكذلك رغبة الاستشهاد أحياناً بدت في البحث النفسي، أنها غريزة الموت (ثاناتوس) التي تهدف إعادة الكائن الحي إلى الحالة اللاعضوية قبل الميلاد. ولأنها رغبة كبيرة، سيطر الموت على أبيات الشعر الفلسطيني. ولذا قرأنا في هذه الدراسة أيضا (صدمة الولادة) التي ذكرها المحلل المشهور (أوتو رانك)، كما ورد أيضا زرع الأمل الذي ألقاه الشاعر مشبها موت الفلسطينيين بموت (يسوع) وقيامته. وهذا يجسد انتصار قوى الخير على قوى الهلاك. ج- الحديث عن يسوع وفلسطين: يسعدني أيضا ذكر بتأثر الشعراء بالديانة المسيحية في الحديث عن يسوع وفلسطين. وبما أننا وصلنا إلى تاريخ استولى فيه الصهيونيون على فلسطين، ألقى الشاعر نزار قباني لافتاً روحانية مدينة القدس التي امتزج فيها حب المسيحيين بحب المسلمين.

يقول: (بكيتُ حتى انتهت الدموع/ صلبت حتى ذابت الشموع/ سألت عن محمّد فيكَ..وعن يسوع/ يا قدس يا مدينة تفوح أنبياء / يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء). إنّ ذكر يسوع نتيجة موته وقيامته في ذلك المكان، رمز للكثيرين الذين يؤمنون بانتصار قوى الخير على قوى الهلاك. من أجل ذلك عبر الشعراء الكثيرون عن آلامهم بفكرة الصليب، وعن أمالهم بفكرة القيامة، وذلك من خلال استفهام الإنجيل وحياة السيد المسيح. هكذا وردت في الدراسة، أفكار من الآيات الإنجيلية. يقول: عز الدين المناصرة): (كان عرس بقانا، وكن يحنين كفي، صرختُ ولم يستجب لي أحد/ كان عرس بقانا الجليل). تقول صاحبة الأطروحة؛ يذكرّنا عرس قانا الجليل عند (عز الدين المناصرة) بعرس قانا الجليل في الإنجيل الذي ظهرت فيه) أولى آيات يسوع عندما حوّل الماء خمرا إلى الاصحاب الموجودين في العرس.

وكان المدعوون لا يزالون على المائدة يطالبون بالمزيد، فطلبت (مريم) من (يسوع) أن يقوم بمعجزة لتقديم المساعدة. فلبى النداء وحوّل الماء خمراً. لكن أولئك الذين شربوا خمرة يسوع في قانا، قد تركوه وخانوه. وصارت الخمر في الذبيحة المقدسة رمزًَا لدم المسيح على الصليب. يستعمل محمود درويش (يسوع) الذي يخاطب الأب، مستعملاً الـ (أبانا) المستوحاة من الصلاة: (أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأتي ملكوتك). وعوضا عن (أبانا) الذي في السماوات، يقول (محمود درويش): (أبانا الذي معنا/ أبنا الذي في النهايات/ يا أبانا). فكأن الشاعر يشبه موت الفلسطينيين بموت يسوع الذي صعد إلى الجُلجلة ومات على الصليب. وبموته تفتحت القبور الضيقة وخرج منها الاموات، كما ورد في إنجيل متّى. وتكثر الملامح المستوحاة من الإنجيل في ذكر (العشاء الاخير) الموجود أيضا في الإنجيل نفسه.

فلسطين مهد المسيح، تعاني وتتألم وتجابه القدر القاسي مثلما واجهه المسيح في زمانه. وهذا دليل غياب العدالة عن هذه الأرض. وربما ينتصر الحق ذات يوم كما انتصر المسيح. فقيامة المسيح انتصار على الموت، لذلك استوحى الشعراء الفلسطينيون القوة من سيرة المسيح، وعللوا نفوسهم بقيامة الوطن. ولكن لم يتمكنوا من إلغاء الأسى والحزن. في خاتمة هذه الدراسة أظهر (محمود درويش) قلة عظمته في هذه الدنيا قائلاً: (لكنني نزلت عن/ الصليب لأنني أخشى العلوّ/ ولا أبشر بالقيامة). فهو لم يتجرأ على الصعود إلى الصليب خوفاً من النهاية التي قد لا تكون القيامة مثل قيامة المسيح. فمن الصعوبة إذا تحقيق هذا الحلم أو الرغبة المطلوبة. فجلي أن هذه الأطروحة فيها تعمق بموضوع (الاستشهاد في الشعر الفلسطيني)، وبمعاناة الوضع السياسي، إلى جانب المعاني الأدبية والأفكار العالمية في مناهج أدبية حديثة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى