الجمعة ١٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨
بقلم أحمد الخميسي

المدارس المصرية.. عذاب الطفولة

كنت في السنة الخامسة بمدرسة راتب باشا الإبتدائية حين بدأت كل ليلة، قبل نومي، أدعو الله بحرارة أن أستيقظ في الصباح وأتجه إلي المدرسة فأجدها مهدومة بقدرة قادر فأعود لأكمل نومي دون توبيخ من أحد. وكان عندي سيناريوهات مختلفة لهدم المدرسة كنت أرفقها كلها بدعائي الحار لأسهل على العناية الإلهية عملها. وكان العقاب البدني هو أول أسباب كراهيتنا للمدرسة، وكان بعض المدرسين يتفنن فيه، فمنهم من كان يفضل المسطرة، ومنهم من كان يحبذ الصفع على الوجه، ومنهم من كان يجبر التلاميذ على الوقوف ووجوههم إلي الحائط، وغير ذلك.

بالطبع كان هناك مدرسون عظماء، ونبلاء، لولاهم ما تحملنا المدرسة، لكن العقاب البدني المهين كان طريقة سائدة، مع أن العقاب البدني ينسف من الأساس كل فكرة التربية، وكل منهج التعليم، إذ ينقل طرفي المعادلة (المدرس والتلميذ) من خانة التعليم والتعلم بمخاطبة العقل إلي خانة الحيوانية البدنية البحت، إلا أننا لم نسمع أبدا حينذاك، لا أنا ولا أي من أبناء جيلي على ما أعتقد، عن مدرس ضرب تلميذا ضربا أفضى إلي الموت! ولم نسمع عن مدرسين يتحرشون جنسيا بالأطفال، أو عن ناظر مدرسة ضرب تلميذا بكابل كهرباء حتى أغمى على التلميذ! لم تتردد بيننا أبدا مثل هذه القصص المرعبة التي تصلح مادة لأفلام هيتشكوك. لكننا الآن صرنا نسمع عن كل ذلك وأكثر، ونقرأ في أواخر شهر أكتوبر عن تلميذ لم يتجاوز الحادية عشرة، أي طفل، أفلتت منه ضحكة في مدرسة سعد عثمان الابتدائية بالاسكندرية، فما كان من مدرس الرياضيات هيثم نبيل إلا أن ركله بقدمه فلما وقع على أرض الفصل واصل ضربه بالعصا وسبب له من الرعب ما أدى إلي وقف النبض والتنفس ووفاة الولد الذي ضحك لأنه طفل! وفي منطقة شبرا الخيمة قام الناظر السيد محمد زكي بضرب محمد عبد اللطيف التلميذ بالصف الثاني الإعدادي بكابل كهرباء على جميع أجزاء بدنه حتى أغمى عليه ونقل إلي المستشفى! وحين استدعي الناظر للتحقيق لم ينكر شيئا وقال إنه كان يقوم " بتأديب الولد وتربيته"! وفي أول نوفمبر الحالي نشرت الصحف أن صلاح عاشور المدرس في مدرسة السيدة خديجة الابتدائية ببورسعيد ضرب التلميذ شهاب الطيب بالبوكس في صدره لتأخره في نقل الشرح المكتوب على السبورة إلي كراسته، فنزفت الدماء من فمه ونقل إلي المستشفى! ونشرت جريدة الجمهورية في أبريل هذا العام أن مدرس التربية الرياضية في مدرسة ليسيه الحرية بالنزهة ضرب التلميذة شروق عبد العليم، وعلقها من قدميها بمروحة السقف في الفصل بحجة جلوسها بطريقة غير لائقة! علما بأن التلميذة لم تتجاوز السابعة من عمرها! أما عن حوادث التحرش الجنسي بالتلاميذ فهي كثيرة ويحرر الأهالي بها محاضر ثابتة في مختلف أقسام الشرطة.

ومن يتابع مظاهر الرعب والتفسخ هذه سيجد أنها منتشرة أساسا في مدارس الأحياء الفقيرة والقرى والصعيد، حيث يوقن المدرسون، أن التلاميذ من أصول اجتماعية فقيرة، وأن أهلهم سيلزمون الصمت لأنه ليس بوسعهم الدفاع عن أنفسهم أو عن أولادهم. وتصبح الصورة قاتمة إذا أضفنا إلي مظاهر الرعب والتحلل والتحرش حالة التعليم في المدارس التي تصل فيها كثافة التلاميذ في الفصل الواحد إلي ستين تلميذا، إضافة إلي ارتفاع المصروفات، وظاهرة تسريب الامتحانات التي قرأنا عنها أكثر من مرة، وتدهور المستوى التعليمي، بحيث أننا نجد أنفسنا في نهاية المراحل التعليمية أمام طلاب أنهوا التعليم الجامعي لكنهم يرسبون في امتحان الإملاء البسيط! ظروف المدرسين أنفسهم هي الأخرى صعبة من دون شك، ورواتبهم ضعيفة، لكن ذلك لا يصلح مبررا لاعتبار أن الضرب حتى الموت والإهانة حتى المرارة وسيلة تربوية. وأعتقد أنه من الضروري أن تكون هناك وقفة حازمة بالنسبة لضرب التلاميذ وتحقيرهم، الذين أصبحوا بحاجة وأن على الوزارة أن تصدر قرارا ينص على الفصل الفوري لأي مدرس يتعدى على تلميذ بالضرب.

مازلت أذكر أن كاتبا كبيرا قال ذات مرة: " حب الأطفال ليس المشكلة، فالجميع كقاعدة عامة يحبون الأطفال، المهم احترامهم، هذه هي المشكلة ". ولن يكون بوسعنا أبدا أن نتحدث لا عن حضارة، ولا عن ثقافة، ولا عن أي شيء، مادامت ثقافة الكابل الكهربائي، والتعليق في المروحة، هي ثقافة التعليم السائدة فعليا. بهذا الصدد أذكر عبارة للأديب الروسي الكبير دوستويفسكي حين قال: " إن معاشرة الطفولة تشفي الروح "، فكيف وجد البعض في الطفولة متنفسا للكراهية بدلا من شفاء الروح ؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى