الثلاثاء ١٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨

خولة

بقلم: عدلة شداد خشيبون

ضاقت بها الدّنيا، وصَغُرت في عينيها الأحلام، وعجز لسانها عن الكلام، عقلها مُصاب بالشلل، ولا يخرج من جوفها إلاّ تنهدات عميقة عميقة بعمق المحيط.

الرّيح تصرصر عاتيه في أحشائها، وسماؤها ملتفة بستار أسود اللون حالك قاتم، وعيناها تغشاهما سحابة كثيفة تحجب نجوم الأمل عن سماء روحها.

وحيدة إلاّ من عنوستها التي باتت الشغل الشاغل لأهل الحيّ الذي يسكنه جسدها الواهن.

ما أصعب أن يكون الانسان وحيداً والأصعب منه عندما يعجّ المكان بالنّاس وأي ناس ؟؟؟، من ذا الذي يستطيع أن يحلق عالياً بخياله كي يدرك حجم المصيبة ووقع المُصاب ؟

من ذا الذي يستطيع أن يترك أفكاره السقيمة ليفكر بحجم المأساة بمأساة خولة، بربكم من ؟

هوت على صدرها صخور صمّاء، مزقت ذاك الفؤاد وحطمت ذاك الكنز الثمين من الحبّ والعاطفة، وبعثرت أشلاء روح كانت في طريقها للشفاء من سقم ألّم بها.

نزف فؤادها تماما كما ينزف القتيل بعد أن يغوص خنجر المجرم في وريد حياته،..وتألمت خولة وما بكت، ونزفت ولم يرها أحد أحد،، غاصت بخلوتها تناشد الباري الموت المرتقب، تتوسل إليه أن يهب ما تبقى من روحها لفتاة ثرية الحبّ غنية الجسد.

وتئن الرّوح ويبدو صريعاً ذاك الجسد، وتمسح خولتنا دموع قهر وعبرات غيظ وألم وتخرج، تخرج بشوشة المحيا ضامرة الجسد، تصفق لطفل رضيع كان بالثدي قد أفلح فرضع...تصفق لطفلة شقية كانت بالثغر توزع أعذب القُبل...فتحظى خولتنا بابتسامة كهل وإعجاب شيخ من العجز قد رقد..لتكون تحت ذراعيه السيف الذي غمده قد فقد...وتلجأ لحضنه تماماً كما الطفل لحضن أبيه قد عاد بعد أن شرد..

الجوّ دافئ بنيتي لا تشعلي الموقد...واقتربي فاشتعال النار في صدري
يدفئك من برد كانون وصقيع غربة قد لفتك طوال السنين..إقتربي خولتي لتدفئي صقيع غربتي، ابتسمت خولة لقهقهة العجوز تماماً كما السماء تبتسم بعد الرعد..وتحرك في أحشائها طفل تماما كاخضرار الارض من سحابة يضحك من بكائها الروض وتخضر من سوادها الأرض.

ليندمج خريف العمر بربيعه...ويبرعم على الفنن برعم أمل هو ما خلدته تلك اللحظة...فليلتها كانت قد استعارت لون الخيل الدهم ولبست ثوب الثكالى ليغادر شيخها برحلة أبديّة...وينطفيء إذ ذاك موقدها...فلا أمس ليومها ولا غد، حتى مضى من الليل صدره ليغفو على صدرها طفل طالما انتظرته وطالما صرخت عالياً لتلده.وأقبل فجر آخر.....للتتكوم خولة حول الموقد بردانة بيأس...وعواصف عاتية عادت لتعصف بروحها خاصّة بعد أن
سعل وليدها دماء قهر ٍ، وزفر زفرات مغص وألم، ولا من مسعف ولا من مداوٍ لذاك السّقم وهذا المرض، فرضخت لإرادة القدر، وخبأت وليدها بحضنها، علّ نَفَسَها يهبه عمراً، ولكن هيهات فصدر الولد يرتفع ويهبط، وحرارته قد باتت في الخطر، ليلفظ أنفاسه الأخيرة، ولترتمي خولتنا بين الحُفر، تودع ثمرة تعبها، وتختبيء من ظلم كان بها قد لحق...

تكفر للمرةِ الاولى...تكفرُ الظّلم َ...تكفر القهر...تكفرَ الحظّ...تكفر الجوّ المدلهم الذي أحاطها...
لتواري التراب....بلا نَفَسٍ بلا نفس...

بقلم: عدلة شداد خشيبون

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى