الثلاثاء ١٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨

المدينة الفاضلة من خلال سورة النحل

بقلم: د. محمـــد عبد الباقي فهمي

(وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) (النحل: 112)

تأتي هذه الآية لتبين الحالة الطبيعية التي ينبغي أن تكون عليها الدولة أو المدينة الفاضلة والمجتمع المثالي، أولاً أن تنعم هذه الدولة أو المدينة بالأمن والأمان والسلام الخارجي وأن يغشي الناس فيها الطمأنينة وراحة البال وأن يكون هناك رغدٌ في العيش، وأن يأتي الرزق للمقيمين في هذه القرية وأهلها من كل مكان.

فالحالة العامة التي تحكم هذه المدينة هي حالة الأمن والأمان فلا تهديد ولا خوف من عدوان خارجي ولا حروب ولا منازعات بينها وبين جيرانها ومن يحيطون بها. وذلك ما أشاعه في جو هذه القرية قوله تعالي "آمنة" أمان حقيقي لا تزيف فيه ولا تدليس.

كما أن الحالة الداخلية لهذه القرية أو المدينة وبالتالي حال أفرادها أنها "مطمئنة" وأنظر معي للوصف الرباني للقرية وهي الجماد الذي لا يحس بأنها مطمئنة، فالكسوة التي تكسو هذه القرية واللباس الذي تلبسه والشعار الذي يرتفع علي أرجائها أنها مطمئنة، فكيف سيكون حال من يسكنها؟.

أن الطمأنينة والأمن هما مطمع كل البشر علي مر العصور وعبر التاريخ وهذان الركنان هما ما يفتقده كل شعوب الأرض الآن وذلك مما أضني البشرية في رحلة البحث عن المجتمع المثالي المنشود.

أن شعوباً كثيرة الآن لا يستطيع أحد منهم أن يأمن علي نفسه ولا علي أهله وأولاده في كثير من البلدان، كما أن البلاد التي تدعي أنها قطعت أشواطاً في مضمار الحضارة ولا تستطيع أن تخرج في شوارعها بمفردك ليلاً ولا أن تأمن علي نفسك أو مالك أو عرضك لهي بلاد بالمقياس الذي نستجليه من خلال سورة النحل بلاد متخلفة.

أما عن الناحية المادية المجردة فحال الرزق في هذه القرية التي ضربها الله لنا مثلاً أنه يأتيها رغذاً

والرغد هو الواسع من العيش، الهنـيء الذي لا يُعَنّـي صاحبه, يقال: أرغد فلان: إذا أصاب واسعا من العيش الهنـيء، كما قال امرؤ القـيس بن حجر:

بَـيْنَـمَا الـمَرْؤُ تَرَاهُ ناعِماً يَأمَنُ الأحْدَاثَ فِـي عَيْش رَغَدْ

وعن ابن عبـاس قال: الرغد: الهنـيء.

ورغداً تدل علي الوفرة والكثرة التي تزيد عن حد الاحتياج إلي الفيض والبغددة، فليس من حال الأمة الإسلامية ولا المجتمع المنشود الذي يرضاه الله لنا أن تكون الحياة فيها تقتير وتضيق وضنك وشدة وربط الأحزمة علي البطون ووعود بالرخاء عاماً بعد عام والحياة لا تزداد إلا شقاءً وضيقا.

أما المعني والبعد الذي أضافه قوله تعالي يأتيها رزقها من كل مكان فهو دلالة علي أن رزق هذه القرية التي ضربها الله لنا مثلاً ليس من أنتاجها ولا من داخلها فقط، ولكنه يأتيها أيضا من خارجها فهو يستورد ويجلب من أماكن أخري يتوفر فيها ما لا يوجد في هذه القرية من أجل أن يتوفر لأهلها أعلي درجة من درجات الرفاهية والرغد في العيش. ويجسم التعبير الجوع والخوف فيجعله لباسا، ويجعل أهلها يذوقون هذا اللباس ذوقاً، لأن الذوق أعمق أثرا في الحس من مساس اللباس للجلد وتتداخل في التعبير استجابات الحواس فتضاعف مس الجوع والخوف لهم ولذعة وتأثيره وتغلغله في النفوس, لعلهم يشفقون من تلك العاقبة التي تنتظرهم لتأخذهم وهم ظالمون.

فالله سبحانه يعرض لنا هذا النموذج في صورة خبر عن قرية تحقق لها ذلك الرغد في وقت ما ولكن المطلوب من الباحثين عن الحقيقة والمتقدمين للزعامة والفارضين أنفسهم بأنهم قواد ومصلحون وأنهم رعاة مصالحنا والساهرين علي إجابة متطلباتنا، عليهم أن يوفروا لنا بكل الطرق والوسائل هذا النموذج للمجتمع الأمن المطمئ، كما إن علي كل المتصدين والمتطلعين للسلطة أن يوفروا لشعوبهم البلد الأمن المطمئن والرزق الوفير الذي يكفي الحاجة ويفيض رغدا وألا يحرمونا من رزق البلدان الأخرى المجاورة.

قد يقول قائل أن الأمن والطمأنينة المذكورة في الآية هي خاصة بمكة البلد الحرام التي حرمها الله سبحانه ولا تنسحب علي غيرها من المدن والبلاد، ولكني لي وقفه هاهنا، فلقد استعرضت أغلب كتب التفسير للبحث عن التفسير المفصل لهذه الآية وقد أجمعت أغلبها علي أن الآية نزلت في مكة المكرمة حال كفر أهلها وتكذيبهم لرسول الله فبدل الله رغدهم وأمنهم جوعاً وخوفاً، ولكني أري في هذه الآية الكثير من الظلال والعبر التي أود لأن أذكرها:-

فإنني منذ أن وطئت قدمي بلد الله الحرام مكة المكرمة منذ أكثر من عشرين عاماً وأنا يشغلني دائما أن الحرمة والقدسية التي أحاط الله بها مكة, حيث يأمن فيها الناس علي أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وحيث تعظم الحرمات ويضاعف فيها الجزاء، بل أن الله يعاقب من ينوي أو يهمّ بالذنب فيها، ولا يُقطع شجرها ولا تلتقط فيها اللقطة ولا يختلي خلاها ويحرم فيها الصيد فينعم الطير خاصة الحمام بجو من الآمن والطمأنينة، كل ذلك أليس مطلوبا في بقية المدن والقرىن قد لا يكون فرضاً علينا أن نفعل هذه الأشياء في غير البلد الحرام ولكنه بالطبع مندوب، كما أنه لم يطلب منا عكسه في بقية المدن, صحيح أن الصيد مباح في غير مكة ولكن من يستطيع أن يقول أن قطع الشجر والأغصان وأخذ أموال الناس بالباطل مطلوب في غير مكة، من يستطيع أن يقول أن الطير ينعم بالطمأنينة في مكة وحدها ولكن يجب علينا ترويع الطير بل والبشر فيما سواها, أن ما تعلمته من مكثي في مكة المكرمة أن تعاليم الإقامة فيها ومظاهر تقديسها يجب أن تكون خلقٌ يتحلي به المسلم في شتي بقاع الأرض. أنه لمن المؤسف بل والمخجل أن تجد الطيور آمنة مطمئنة في شتي ميادين الدول الأوربية ولا تجد عاصمة عربية أو إسلاميه واحدة – المفروض أنها تربت علي تعاليم القرآن- تتزين ميادينها بالطيور الآمنة، ولكنه الخوف والجذع الذي يملئ قلوب الطير والبشر.

وقد يقال أيضا أن الرخاء الاقتصادي والمادي المذكور في هذه الآية مقصور علي مكة لدعوة إبراهيم عليه السلام لها بأن تُجبي إليها الثمرات من كل بقاع الأرض ولا ينسحب علي بقية المدن. ولكني وأن كنت قد حددت نفسي في أول هذا البحث بأن أتقيد بسورة النحل دون غيرها من سور القرآن فإن في سورة سبأ مثالاً واضحاً جلياً لمدي النعيم والرغد في العيش واستتباب الآمن والأمان والسعادة المادية والمعنوية التي يمكن أن تتحقق علي أرض الواقع, وتعالي معي نتدبر مدي وبعد هذا النعيم الذي بسطه الله علي أهل هذه البقعة من جنات ونعيم وأسفار قاصدة ومدن متقاربة. النعيم الذي تحقق علي أرض الواقع ولم يرفع عن أهلها إلا بسبب كفر وعناد وتمرد الإنسان:-

(لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (سبأ: 15)

(وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) (سبأ: 18)

وكذلك قوله سبحانه علي أهل القرى كافة في سورة الأعراف: -

" ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض" الأعراف 96
ثم قوله تعالي عن بني إسرائيل:

"ولو أن أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون" المائدة 66

إذاً فالنعيم والرغد في العيش هو الأصل في مسار الحياة شريطة ألا نكفر بنعم الله ولا نعصاه ونتكبر ونتجبر عليه.

وقد يقال أيضا أننا بهذه الكلمات نفتح باباً التمتع بالحياة الدنيا علي مصراعيه مع ما فيها من شهوات تبتعد بنا عن الشوق إلي النعيم الخالد الذي أعده الله لعباده في الجنة, ولكن آية في السورة التي نحن بصددها " سورة النحل" كفيلة بالرد علي ذلك:

"ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)

فإن كل هذا المتاع والنعيم أن تحقق لنا في الدنيا فإنه لا يغنينا ولا يصرف أشواقنا ولا يحول بيننا وبين تطلعنا للقاء الله والخلود في جنته والتمتع بجواره والنظر إلي وجهه الكريم, ومع أداء مهامنا في الأرض من أتباع لدين الله ودعوة البشرية كلها لأنوار الهداية والرشاد, مع أيمان كامل بأن هذا المتاع الدنيوي محدود بعمر قصير وأن الخلود السرمدي سوف يكون في الحياة الآخرة.

وكما ينبغي أن نذكر هنا وفي هذا المجال بالذات أمراً في غاية الأهمية, ذلك أن الفكر الإسلامي سيطر عليه للأسف الشديد في أغلب مراحل الدولة الإسلامية بداية من العصر الأموي وبلوغاً للذروة في العصر العباسي ولازال حتى عصرنا هذا – ونتيجة تسلط أغلب الحكام علي بعض الفقهاء والكثير من الدعاة - الذين استطاعوا علي مر عصور طويلة من تطويع النصوص والخطاب الديني ليسوغوا للناس الزهد في الدنيا والتحلل من نعيمها والإسراف في صرف أشواقهم إلي التمتع بنعم الله في الجنة فقط دون الحياة الدنيا التي خلقت في تصورهم للهم والنكد والتحمل والصبر والرضا بالكفاف, في الوقت الذي يرفل فيه هؤلاء الحكام ومن حولهم في نعيم الدنيا, فسممّوا علي العوام معيشتهم وصرفوا المفكرين والمبدعين من التوسع في تذليل وتوفير الحياة الناعمة السعيدة في الدنيا, ولا أكون مبالغاً إن قلت أن هذا الفكر الذي أسقط من حساباته أن الدنيا يمكن أن يتمتع فيها الإنسان بأقصى درجات النعيم من اللحم الطري والفراش الوثير وأن يلبس من الوبر والصوف ما يشاء وأن تتحلي زوجته بأغلى أنواع الحلي - كما سنري من آيات سورة النحل – هذا الفكر هو الذي خلق هذه الفجوة الحضارية الرهيبة بين مجتمعات من يدّعون الإسلام وهم في الدرك الأسفل من السلم الحضاري وبين المجتمعات الأوربية التي انغمست في نعيم الدنيا وأخرجت لأهلها أفضل الاختراعات التي يسرت وذللت لهم سبل الحياة.

بقلم: د. محمـــد عبد الباقي فهمي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى