الاثنين ٢٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨
بقلم لطفي زغلول

الأغنية العربية إنتكاسة ثقافية

قبل الخوض في غمار حيثيات موضوعنا، نود ان نستهل حديثنا بمقدمة عن الغناء الذي يمكن تعريفه على انه احد الابداعات الفنية الاكثر التصاقا ومعايشة وملامسة للمشاعر والاحاسيس الانسانية، وبالتالي تأثيرا بها وتحكما في مساراتها. فالغناء هو الاقدر على تلوينها بالفرح والطرب الى حدود النشوة والتجلي، والحزن والكآبة حتى البكاء وذرف الدموع، واستنهاض الهمم والعزائم. وهو قبل كل اعتبار واحد من المخرجات الثقافية لأية جماعة انسانية يعكس روحها وحسها ومزاجها ومدى شفافيتها وتجاوبها مع البيئة التي تعيش في كنفها، وبالتالي درجة تأثيرها وتأثرها بها.

والاغنية أيا كان لونها – طربية، شعبية، تراثية، وطنية، دينية، عاطفية، ألخ - هي وليدة خمسة عناصر رئيسة تتمثل في كلماتها ولحنها وتوزيعها الموسيقي وادائها وتلقيها. وهي عناصر تتداخل مع بعضها لتحدد في النهاية مدى صدقها وثباتها وامكانية نجاحها وقدرتها على التواصل مع الأجيال، ويمكننا ان نضيف اليها عنصرا سادسا هو روحها الوليدة من رحم ثقافة تنتمي اليها وتصبح جزءا لا يتجزأ منها.

قديما عرف العرب الغناء الذي كان عندهم قرين الشعر العربي الأصيل، الأمر الذي جعل منه فنا مقبولا ومرغوبا فيه. وقد ذكر لنا تاريخ الأدب العربي كثيرا من القصائد والابيات الشعرية التي غنتها الجواري والقيان آنذاك. الا انه مع الأيام وجراء التقهقر الثقافي وبخاصة في مجال اللغة العربية، برزت الاغنية ذات الكلمات العامية او ما يسمى اللغة الدارجة، والتي اصبح لها " شعراء خاصون " بها، وهي بالتالي اشكال والوان منها الغث ومنها المقبول، وتتناول في العادة موضوعات شتى في الحب والغزل والتغني بالوطن وامجاده وغير ذلك الكثير.

وايا كانت هذه الاغنية فقد كانت لها شخصيتها الفنية وهويتها الانتمائية وروحها الشرقية وخصوصيتها ولونها ومذاقها العربي الشرقي الاصيل. ولسنا هنا بصدد تناول اشكالها او جوانبها الفنية الاخرى، ولا نهدف الى ان نستعرض شيئا من تاريخها.

وعلى اعتبار ان الاغنية اصبحت تحتل مساحة متنامية من اوقاتنا وتذوقنا ورفاهيتنا وترويحنا وحياتنا بشكل عام، فما يهمنا في هذا الصدد ان تظل تخضع لمواصفات ومقاييس تحت مظلة ثقافية وطنية قومية. الا ان الرؤية شيء والواقع شيء آخر.

وبداية انوه الى الحديث هنا سوف يتناول فقط هذه الموجة من الغناء الحديث المتلفز، او ما يسمى بالاغنية العصرية، او الشبابية، والتي يطلق عليها مصطلح " فيديو كليب "، وبالعربية الاغنية المصورة، اضافت عنصرا اخر للاغنية طغى على كل العناصر الآنفة الذكر يتمثل في التقنيات الحديثة والخلفيات المصورة التي تتشكل بمجموعها من مرافقين ومرافقات للمغني او المغنية في اطار اجواء ثقافية وجغرافيات مختلفة لا تمت في الغالب بصلة الى ثقافة الوطن العربي.

ويلاحظ ان هذه الموجة من الغناء الناطق بالعربية، ولا اقول العربي، هي موجة عارمة من موجات الغزو الثقافي الآخذ بقصد في التسلل الى ذاكرة ابناء العالم العربي الثقافية عاملة على تدمير موروثه الثقافي الشامل، ليحل محله مستورد ثقافي اجنبي يعامل على انه يتماشى وروح العصر والحداثة والحضارة والتمدن، وينظر اليه نظرة اكبار واجلال على حساب النظرة الدونية للموروث الثقافي الوطني القومي.

ولكي ننتقل من العموميات والتجريد الى الملموس والمحسوس، فاننا لا نجد ضيرا في اعطاء امثلة على سبيل التذكير لا الحصر. ان كثيرا من اغاني " الفيديو كليب " العربية الانتاج، تصور في عواصم اجنبية وليس لكلماتها ولا لألحانها علاقة حقيقية بهذه الامكنة غير ما يمكن ان يشتم من توهم البعض انها تكسبها " العالمية "، وتضفي عليها مسحة من " الرقي الحضاري "، ويمنحها تأشيرة دخول الى اذواق " الشرائح الاجتماعية المتحضرة ".

ولا يقف الأمر عند هذا الحد، اذ نلاحظ ان معظم هذه الأغاني تعتمد على آلات موسيقية غربية كالقيثار الاسباني على سبيل المثال، كما اننا نشاهد الفريق المرافق " الكورس " وهو في الغالب يرتدي ملابس اوروبية تاريخية ذات علاقة ببلاطات اباطرة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، او ان هذا الفريق يرتدي ملابس حديثة وقبعات لرجال اعمال غربيين او رعاة ابقار، او انه يؤدي رقصات تارة اسبانية ومكسيكية، وتارة اخرى هندية، وثالثة امام معابد بوذية في تايلاند، ورابعة في غابات افريقيا السوداء، وخامسة يسوق الدراجات النارية بملابس جلدية ضيقة عارية الذراعين محلاة بأساور وعقود وسلاسل.

ولسنا هنا بصدد التطرق الى ما يمكن ان يوصف بكلماتها الهابطة المستوى، او معانيها المجترة التي تفتقر الى ابسط بسائط التجديد، او الى هذا الكم الهائل من شاكلة هذه الاغاني، او هذا الجيش العرمرم من المغنين والمغنيات الذي تقوده شركات الغناء الربحية الى الساحة العربية.

ان ما يهمنا هنا في الدرجة الاولى هو هذا الاستغلال الفاضح لجسد المرأة، بغية الترويج لهذه الاغاني التي تفتقر في الغالب الى ابسط عناصر الفن الغنائي الحقيقي. الا انها في نفس الوقت ترتكز اساسا على الاثارة الجسدية، سواء من خلال التركيز على اجساد المغنيات، او اجساد المرافقات وهن يؤدين رقصات شبه عارية، اوتلك الحركات الخلاعية، التي تخدش الحياء، وتستثير الغرائز الحيوانية، مستبيحة المحرمات الاخلاقية والتربوية، وضاربة عرض الحائط بالقيم الاجتماعية والسلوكية التي تتحلى بها غالبية المجتمعات العربية.

وليس من الصعب علينا ان نستقرىء الاهداف التي تقف وراء مثل هذه الموجة من الاغاني. ومثالا لا حصرا، هي اولا ليست من الفن الحقيقي في شيء. وثانيا، ومما لاشك فيه ان هناك دوافع ربحية مادية تجنيها الشركات المنتجة لهذا الفن السيء والهابط. وثالثا اننا نعتقد ان هناك دوافع لها علاقة بالغزو الثقافي الذي يتعرض له العالم العربي، بغية تجريده من قيمه الدينية ومثله واخلاقه وحيائه، وتدمير شبكة الامان الاخلاقية في الاجيال الشابة، تحت مظلة كاذبة من الحرية والتحرر والحداثة والعصرنة والعولمة. وهذا غيض من فيض.

في اعتقادنا ان سكوت الجهات العربية المعنية عن هذه الظاهرة ادى الى تفشيها واستفحالها عبر الشاشات الصغيرة التي تشكل اهم متنفس ثقافي للمواطن العربي وبخاصة الاجيال الشابة في عصر ضعفت فيه القراءة ووسائل الحصول على مصادر الثقافة الاخرى. واذا ما اضيفت الى هذه الظاهرة المستوردة ظاهرة اخرى كالتسميات باللغات الاجنبية، واعتماد اساليب نظم الشعر بالاسلوب الغربي وانتهاج اساليب النقد الادبي الغربي وتكريسها مرجعية رئيسة، فان هذا في اعتقادنا يشكل انتكاسة ثقافية قد تكون نجمت عن فراغ ثقافي او فهم خاطئ للثقافة والحضارة والرقي، وبالتالي فقدان الثقة بالذات والموروث الثقافي والتوظيف الخاطئ لحرية استيراد القوالب الثقافية الاجنبية، وفرضها على المواطن العربي بتسويقها عبر شاشات التلفزة العربية، وترويج اتجاهات ايجابية لها لديه وهو في الحقيقة لا يملك جهاز مناعة تربويا لحماية نفسه منها.

ان الغناء لم يعد مزاجا فرديا، ويفترض به ان ينبع من ثقافة الوطن، وان يعمل على توطيد اسس هذه الثقافة والحفاظ عليها. وهناك قضايا وطنية واجتماعية ونضالية وانسانية لا ينبغي الالتفاف عليها في معترك هذا النمط من الغناء الاخذ بالانتشار. ويفترض بالفن وبخاصة الغناء ان ينطلق من ثقافة محلية وان يصور أدق دقائقها، ذلك انه الاخطر في التأثير.

وكلمة اخيرة، لقد نحت " الأغنية العربية الحديثة " منحى ثقافيا غير محلي لا هو أصيل ولا قومي، ولجأت الى استعارة القوالب الثقافية الغريبة عن الواقع العربي، وهي بالتالي تقوم بعملية ترقيع ثقافية مشوهة بذلك مساحة مرموقة من الثقافة العربية، او انها مهمشة اياها. اضافة الى انها تكريس " لعلوية الثقافة الغربية ودونية الثقافة الوطنية القومية العقائدية ".

ونحن نفترض ان تكون هناك مقاييس ومواصفات ثقافية وطنية وقومية وعقائدية لكثير من الفعاليات الفنية وفي مقدمتها فن الغناء بدعم واشراف ومراقبة، من كل الجهات المعنية التي تهمها اصالة الثقافة وثقافة الأصالة، والحفاظ على الهوية الانتمائية، والشخصية الثقافية المميزة لانسان العالم العربي، دون ان يكون هناك قمع او كبت لحريته في اطار عدم السماح للذوبان الرخيص في بوتقة الآخر، او تركه يتسلل الى الجذور لاقتلاعها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى