الأحد ٣٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨
بقلم مجدي علي السماك

ساعة شهوة

لهلبت الشمس وصار الجو يصهر الدهن في الأبدان، غير أن نسمات رشيقة فيها برودة هبت فحفت قميص عبد الجواد، ولفحت في طريقها وجهه المصّفّح الثري بالحشائش والأعشاب، وراحت بالمرة تداعب جسده الذي سخنه الجو لتبرده، فشعر ببدنه كأنه مدفون وسط شرائح رقيقة من ثلج، فانتعش.. ومن جلده الناشف تسللت برودة إلى جوفه الساخن فبرّدت قلبه.. لكن حلقه ظل يابسا عطشان.

راح عبد الجواد الجالس على حافة عربتة الكارو يدلدل ساقيه على آخر ما يكون الهدوء والانسجام، ويده ماسكة بالحبل الذي به يقود عربته بمهارة وخبرة سنين كثيرة مضت.. وعربته هذه يجرها حمار كان قد شراه في العام المنصرم، ورباه وكبره على يديه وسمّنه حتى لظلظ، وصار متينا لحمل الأثقال وقد انتفخت عضلاته وطلّزت. وإحساس رائع بالغبطة كان يموج في قلب عبد الجواد ويخلخله، وبعض هذه الغبطة تسربت صاعدة لتحوم في سواد عينيه المغطاة بشعر كثيف انسدل من حاجبين سميكين، فبرقت عيناه بشوق للنقود الكثيرة المرتقبة.. النقود التي سيكّحل عينيه برؤيتها ويقبضها بيده عندما يصل بالسلامة إلى وسط السوق، وينقل بعربته الصناديق التي اتفق بشأنها مع واحد من التجار الكبار.. وما اقل الفرص التي تقبض فيها يد عبد الجواد نقود كثيرة، ربما يجني هذه المرة ما يكفي لشراء رطل سردينه كان قد وعد به زوجته وأولاده قبل أسبوع.

كان حمار عبد الجواد يجري بسرعة وبهمة يجر العربة، ولسرعتها أخذت تزيق برتابة وتهتز، فيهتز بدوره على نفس الرتابة هابطا صاعدا جسده الذي ليس له عرض، ولكنه فارع ورفيع مثل العلكة الممطوطة. وبدأ عبد الجواد يتمايل بسرور ويتأرجح حين وقف وانتصب في وسطها، وأطلق العقال لحنجرته بالغناء.. وما أدراك كيف يكون عبد الجواد إذا غنى بمزاج، فصوته يكون عذبا نقيا حين يغني وهو هادئ الذهن وباله فرحان. صار عبد الجواد لبهجته بلا وعي يلوّح بالكرباج ويمط صوته ويتلذذ منتشيا في مطه، فيضحك لغنائه المارون للحظات طويلات يزول فيها حزن الحصار الذي يطلي وجوههم ويعكر سمرة ملامحهم الكئيبة، فتشتعل وجوههم بالطرب الخلاب وتتلألأ عيونهم بدمع ضاحك، وآذانهم بشراهة تغب غناءه وتنتشي.. وبعضهم انفكت عقدة لسانه وراح بحبور يردد معه الغناء، فاتقدت عقيرة عبد الجواد أكثر فأكثر، واتسع فمه واتسع، ليعلي صوته ثانية إلى آخر درجة تسمح بها فكاه، راح يعليه بنشوة، وأخذ يلوي كفه ويلفه حول فمه المحشو بطرب بهيج، وببال طري صار عبد الجواد يلاعب حاجبيه الكثين للناس.. ويغدق عليهم ابتسامات تولد طازجة من فمه المملوء على آخره بسعادة عظمى.

أوقف عبد الجواد عربته وركنها قرب دكان عتيق صغير، وشمّر عن ساقين رفيعين كالكرباج الذي ألقاه بجواره على الأرض، قبل أن يطويه تحت إبطه بعد أن ربط الحمار بعمود قديم مكسور. ثم على مهله دخل في الدكان، وبشهوة نظر عبر جفنين متلهفين إلى المشروبات الباردة في الثلاجة، نظرة الواثق من دنياه وآخرته.. وبثبات امتدت يده وفتحت باب الثلاجة، وبنفس اليد الواثقة تناول زجاجة سفن أب وفتحها، ثم دلقها على نفس واحد في فمه الحار الذي ما زال فيه جفاف، فشعر بحرقتها اللذيذة تدغدغ حلقه، وبشدة تجشأ، فهبت من جوفه موجة غازات عاتية لسعت طاقتي انفه الضيقتين، فأثارت ما أثارت من غبار عن شاربه الموصولة نهاياته مع شعر لحيته الغزير، وكان في لسعها لذة أشعرته بروعة الحياة، ثم ربت عبد الجواد بكفه السميك على بطنه الغائر في جذعه النحيل، وأمال ظهره إلى الوراء في محاولة فاشلة لإبراز كرش غير موجود، وهو يتمنى أن يصير له كرش ولو صغير كي يطبطب عليه، ثم حمد الله وشكر فضله. وبقي طعم السفن أب يراوح في فمه لا يفارق لسانه، وقد أعجبه طعمها كثيرا، واستساغ نكهتها التي كان قد نسيها أو كاد، وأكثر ما أعجبه برودتها التي طرّت بلعومه الجاف المقبوض على الدوام، فسوّلت له نفسه وبتهور مد يده إلى البائع بقطعة نقود أخرى، وشرب زجاجة ثانية، شربها على نفسين.. وتكرع عبد الجواد، ثم بطرف عينه رمق بتردد قطع الحلوى التي على الرف المجاور لكتفه، لكنها لم تعجبه.. فخرج يتلكأ بهدوء متلفتا هنا وهناك، ويضيء خاطره الأجرة التي سيحصل عليها من التاجر بعد قليل، في وسط السوق.. ويدغدغ قلبه رطل ألسردينه، وزوجته وقد تذكر سروالها الأزرق الذي تحول في خاطره إلى عطر ونور.

بوثبة واحدة صار عبد الجواد على متن العربة، وبلهفة سأل أحد المارة عن الساعة.. ثم امسك الكرباج وهوى به على ظهر الحمار ليمشي، لكن الحمار لم يمش، وتنّح، وعصلج على الآخر، وصار ينهق ويرفع وجهه إلى أعلى، وبهوّس راح يرفع أذنيه ويدّورهما بلهفة، والكرباج المنقوع بالزيت ما زال يسلق ظهره ويكويه.

تلفت عبد الجواد حوله.. فوجد أتان تمشي قربه على مهلها برشاقة ودلال.. وكان واضحا أنها حمارة أنيقة لها أنوثة حميرية طاغية، ونقرات حوافرها على الإسفلت لها موسيقا جميلة تهز كيان ومشاعر أكبر حمار في هذه الحارة والحارات المجاورة، وعلى إيقاع حوافرها كانت تتراقص بردعتها المحبوكة على ظهرها الجميل الفتان، والأدهى من هذا كله أنها أخذت ترفع ذيلها وتهزه بإغراء شديد.. لتفتك بقلب حمار عبد الجواد وتشعله.

ولم يستطع حمار عبد الجواد مقاومة كل هذا الإغراء وكل هذا الجمال الحميري الباذخ، الذي قل مثيله، فأثارته، وهاج الحمار وماج، واستمرت الحمارة في سيرها تتبختر حتى ابتلعها سواد الإسفلت وغابت عن الأنظار، لكن الحمار المفتون المسلي قلبه لم يهدأ له خاطر ولم يسكن له قلب، وركب رأسه بإصرار غريب، وظل واقفا بعناد ما بعده عناد، ورغم أن عبد الجواد عربجي ذو مراس يعتد به، وخبرته طويلة في الحمير وطباعها، إلا أنه لم يستطع إرغام الحمار على المشي ولو خطوة واحدة إلى الأمام، فامتقع وجهه وعبس.. وللمرة الثانية سأل احد الناس عن الساعة.

وساعتها لم ييأس عبد الجواد على الفور، إنما راح بلطف يستعطف الحمار، وبذلّة يرجوه، وبدأ يملّس بكفه على رقبة الحمار ورأسه: حقك عليّ، ما لي بركة إلا أنت، كبر عقلك، بلا فضايح، أنت سيد العاقلين، الله يخليك. وتجمعت الناس والعباد وتحلّقت بعشوائية حول عبد الجواد، جمعها الفضول، ومع كل لحظة تمر كانت تتسع الحلقة وتتسع بقادمين جدد، لتتسع خيبة أمل عبد الجواد ويكبر حزنه مع كل لحظة تمر لتأتي بقادم جديد. واستمر لا يتوقف عن التوسل والرجاء... هذه رزقه واكل عيش يا ناس، سأموت من الجوع، كيف سأشتري الدواء، مدارس الأولاد، دخيل الله، أنا في عرضك يا حمار يا طيب، سأبوس على رأسك.. وبالفعل راح عبد الجواد يبوس رأس الحمار، برقة كان يبوسه، ثم مرر فمه على كل رقبته المتسخة وزرعها بقبلات متوسلات، باسها من الجهتين، ثم مشى بيده على شعر الرقبة الطويل المعفر بالروث والتراب، وعاد ثانية يبوس ذيله المتسخ، وأوشكت دموع مالحة أن تطفر من عيني عبد الجواد كلما هفا إلى باله أولاده كومات اللحم البشري المعلقة في رقبته، ثم قرب فمه إلى أذن الحمار يوشوشه بكلام جميل ويرجوه، وبانكسار ظل يستعطفه، كأنما نسي أن الحمار لا يعقل ولا يفهم، لكن الحمار لم يلن له جانب، ولم يشفق على عبد الجواد ولا على صغاره، ولا حتى على زوجته وسروالها الأزرق، كأن الله خلق قلبه من حجر أو كأن الله استبدل قلبه بآخر من حديد.

انتحى المسكين جانبا وصفق بكفه فخذه، وبحزن أيضا صفق شفتيه على بعضهما وأغلق فمه كأنما يقفله إلى الأبد وقد تجمد في حلقه الكلام. والناس حوله توّزع نظراتها المبعثرة بين وجه عبد الجواد الجالس في استكانة، وبين وجه الحمار الواقف وسط عاصفة شهوته الفائرة بلا كابح.

صار عبد الجواد يلعن أبا الشغل وأبا الحمار، ويشتم نفسه والسفن أب ويسب الساعة التي شرب فيها منه زجاجتين. وتمنى في سره لو بإمكانه إخراجها من بطنه ليعيدها ثانية إلى صاحب الدكان، ويعيد نقوده التي أهدرها بيده وبمحض إرادته بسبب تهوره الأرعن.. وأمله في الوصول إلى السوق في الموعد المحدد بدأ يتأرجح.. وتأرجحت معه أعصابه التالفة بين اليأس والرجاء.

واستمرت الشمس تنسكب على جسد عبد الجواد لتسلقه وتعذبه، وتعليقات تترى حوله من الناس الذين كانوا بإشفاق يزومون بها، والصغار العفاريت لقطوها بآذانهم وراحوا يرددونها بسخرية ويضحكون ملء أشداقهم، وكانوا ينتشرون حوله ويتنططون مثل النحل الفايع.

انبرى رجل من الحاضرين ووعد عبد الجواد بحل المشكلة.. وغاب على الفور ورجع بعد اقل من ساعة ومعه حمارته، كانت اقل جمالا من تلك التي سلبت لب حمار عبد الجواد.. لكن الجميع قال بأنها تفي بالغرض.. وفك عبد الجواد الحمار من العربة لينال مناه.

والكل راح يضحك، والصغار الملاعين قفزوا فوق العربة ليتفرجوا، ونساء محبوسات في بيوتهن رحن يتلصصن النظر من خلال شقوق النوافذ، وينقلن الأخبار إلى العجائز المقعدات في الأركان، ويكتمن الضحكات.. وارتاح عبد الجواد رغم ما اعتراه من خجل، وصار وجهه اصفر وكاد يحمّر، لكن دمه ما انفك يغلي كلمّا تذكر السفن أب الذي شربه.. والموعد الذي ضاع وطارت بضياعه النقود.. وزال من ذهنه السروال.

ما إن فرغ الحمار حتى هرب مسرعا كأنه يسابق رصاصة انطلقت من فوهة بندقية.. فحزن عبد الجواد وكان في حزنه دهشة وفي دهشته نكبة.

ومرة أخرى عادت تعليقات تقطعها تخمينات وتأويلات.. وعبد الجواد الساكت في مكانه لا زال يمضغ حزنه وبمرارة يزدرد غيظه.. وسؤال مجروح حام على شفتيه اقرب إلى الغمغمة منه إلى الكلام: ما العمل الآن؟ وكان في سؤاله شقاء أكثر مما فيه من كلام كالعلقم.. وأحس بأن مشكلته عويصة اكبر من أي سؤال وأقسى من أي جواب، وسكاكين ماضية في جوفه راحت تفرم وتقطع.

سلط عبد الجواد نظره إلى العربة، وثبته بين الخشبتين حيث كان الحمار الهارب مربوطا.. وجرجر خطاه بحيرة وآلام.

وقف عبد الجواد محل الحمار.. وامسك بيديه الخشبتين، وراح يجر العربة، ويلهث.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى