الثلاثاء ٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم حميد طولست

الآخـــرون

زمن غريب هذا الذي نعيشه، والأغرب منه أولئك الذين نعيش بينهم ومعهم، والأكثر غرابة من هذا وذاك، الذين يتولون شؤوننا كمغلوبين على أمرهنا. الكل منشغل بنفسه و"دايها فعرامه". ورغم ما لنا من مميزات يندر اجتماعها عند غيرنا من الشعوب، فإننا وللأسف الشديد في قمة الانحطاط والتأخر والتقهقر. وياليتنا توقفنا عن التراجع والتدهور. فأين العيب ياترى؟ ومن المسؤول عنه إذن؟؟؟؟.

العيب فينا وليس زماننا ولا في غيرنا كما نعتقد ونتصور ونتخيل. نحن المسؤولون عن كل ما حل ويحل بنا؛ إذ لسنا فقراء من ناحية المبادئ والقوانين التي تمهع الناس عن الدنايا وتبعدهم عن الخطايا. بل نحن فقراء في استخدام هذه القوانين وتطبيقها في الصالح العام.

ـ أمر غريب حقا أن تعايش الآخرين عملا بما تربيت عليه من أخلاق، ظنا منك أن الآخرين سيكتشفون ذلك فيقدرونه. فإذا بالآخرين يشاهدون فيه غرورا وتكبرا وغباءا و" تاحميريت "

يسطوا عليك الآخرون ويغتصبون حقوقك كلها المادية والمعنوية. فتغض الطرف وترفض أن ترد بالمثل، رغبة في ألا تتدنى أخلاقك إلى مستوى الآخرين، وحتى يعلم الآخرون بتسامحك وحلمك وصبرك على الضيم وقدرتك على المغفرة. فيظنه الآخرون سلبية وخنوعا وعجزا منك، متمسكين بقولة زهير بن أبي سلمى :" ومن لم يظلم الناس يظلم ".

ـ تجد وتكد، تجتهد وتتابر، ساهرا الليالي، منتظرا تكريم نجاحك بما يستحقه الجادون. فإذا بالآخرين يعتبرون جهودك حمقا وجهلا بقوانين النباهة و" العياقة "، وأنه ""ماكيدمرو غير لحمير " ويقولون مع الفيتوري " ما فاز إلا النوم ".

ـ تحلم أن تكون إبنا بارا لوطنك، وتحاول أن تكون مواطنا صالحا لنفسك وأهلك، وفيا لبلدك، تحميه بدمك، وتفديه بروحك. فيحول دون حلمك الآخرون الذين يريدونك مواطنا على طريقتهم، وحسب قواليبهم وقياساتهم. مواطن لا علاقة له بالمواطنة الحقة، متقاعس يأخد ولا يعطي، كسول يستفيد ولا يفيد، طماع ينهب ويختلس، حالم رمانسي لا قدرة له على خلق أو إبداع.

الخلاصة أننا أمة تقدمت شكلا، وتأخرت سلوكا، وانحطت خلقا.. لقد صدق من قال "أن العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة "، رغم أنها مقولة قديمة قدم العملات وتاريخ تداولها بين الناس؛ إلا أن مدة صلاحيتها لازالت ممتدة إلى أيامنا الكالحة هته؟ وتنطبق على حالنا واحوالنا في كل الميادين، السياسة والاقتصادية والاجتماعية. التي ليس من قبيل التشاؤم أن نقول عنها إنها تؤكد عكس تلك المقولة، حيث فرضت العملة الرديئة وجودها بقوة، وصنعت لها مكانا خاصا، وسوقا مزدهرة قائمة على التلاعب بالعواطف والضحك على الذقون، بما يباع من أوهام، ويقدم من وعود. فالرداءة في كل شيء، هي العملة الرائدة التي أصبحت تحدد نظم المجتمع، وتقرر حجم تحضره، وتختار طرق ودرجة نمائه، وهي التي تتحكم في مصيره ومستقبله، فتمارس عليه نرجيسيتها وعشق ذاتها من خلال ما تتبناه وتفرضه من نماذج رخيصة من السياسيين بلا مخطط ولا برامج، تستقطبها وتفتح لها السوق السياسية لتستفرد بخيرات البلاد وترواتها كغنائم.

أعتقد أن القارئ يدرك تماما أن هذا ليس هو التأثير الوحيد لسيادة وسيطرة العملة الرديئة في كل ميدان، ومجال السياسة بالخصوص، بل وصل تأثيرها إلى ما هو أبعد وأخطر من ذلك، حيث أقصت كل ما هو جيدة وطاردته بعيدا، ليحتل محله ما خبث وفسد من الكائنات الانتخابوية التي زاغت بالسياسة عن الجادة وأفقدت الميدان كل عدريته وصدقه، فغلفته بأنواع كثيرة من النفاق، حتى أصبح الزيف والخداع والتضليل وادعاء المثل الكاذبة هو مقياس النجاح، وغدا الفرد السوي منا، غير قادر على تفسير الأمور أو إدراك ما يحدث حوله، فشك في نفسه ومبادئه وقيمه إلى حد أن ارتاب في ما هو صواب وفي ما هو خطأ. خاصة وأنه تعرض من قبل لجرائم النصب والاغتصاب!! وليس النصب هنا موضوعه المال، لكنه أهم من المال، وليس الاغتصاب كذلك هنا جسدي، لكنه اغتصاب للمشاعر وعبث بالأحاسيس باسم الغيرة على الوطن والوطنية؟؟ فما أخطر أن يوهمك احدهم أنه أحبك وأحب هذا الوطن وتطوع لخدمتكما، ثم تكتشف انك ضحية لإنسان بلا ضمير ولا وطنية؟؟ إنسان كذب عليك وسرق صوتك، ثم تركك فجأة ومضى لإشباع نزواته، بلا أي شعور بالذنب، أو أي تأنيب للضمير، ودون أن يجافيه النوم، أو يؤرقه ما فعل. فماذا سيكون شعورك حين تعلم أن كل القوانين الوضعية تعاقب جرائم النصب والاغتصاب؟؟ النصب على المال واغتصاب الجسد فقط، لكنها لا تجرم سرقة الآمال ومصادرة الأحلام والتلاعب بالمشاعر، ولا تعاقب من يوهمك ويكذب عليك ويعدك بأن يكون وطنيا صادقا ونائبا محترما يقدر ناخبيه ويبر بوعوده.

ومما لاشك فيه أن استمرارية وضع مثل هذا سمته الأساسية الكذب والتضليل وطمس الحقائق والادعاءات المغلوطة، سيزيد من تراجع كل العملات الجيدة، ويبعد كل النزهاء الذين يخشون على كرامتهم من الخدش والتشويش، وإنه إن لم يدرك القائمون على الشأن السياسي ببلادنا حجم الخطأ الذي يرتكبونه في حق نزهاء هذا البلد، بتبنيهم مثل ذاك العهر السياسي، فالعزوف سيكون كارثيا في الاستحقاقات القادمة إذا لم تُتدارك المواقف.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى