الجمعة ٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم وفاء الحمري

هي وهو

رمته بنظرات شزر....حطت القهوة على المائدة الصغيرة قبالة زوجها....تعمدت عدم إحضار السكرية.... "أريده أن يتجرعها مرة كما المرار الذي سقانيه ذاك القاعد هناك" رددت بينها وبين نفسها....

رفع هو فنجان القهوة إلى فيه وعيناه مصوبتان إلى جهاز التلفاز.... "كأني أرتدي طاقية الإخفاء " تمتمت بتعجب....

لم يكلف نفسه حتى التفاتة بسيطة ليحسسها أنها موجودة.... حاضرة....واقفة منتصبة أمامه بطلعتها البهية وقامتها الجميلة...

سمع صفير شربه لذاك السائل الأسود الذي أدمن عليه....تمنت هي لو تحولت إلى قهوة فيرشفها بلذة كما يفعل مع الأخرى....لكنها سرعان ما غيرت وجهة أمنيتها.... هو من أرادته سائلا أحمر قان فترتشفه هي بمتعة حتى آخر قطرة.... فتراه مترديا كالثور الإسباني على حلبة المصارعة.... خالت نفسها البطل الذي يحمل الراية الحمراء ويهش بها على ذاك الثور القوي العنيد.... تلاعبه....تداعبه....تعانده....تصارعه فتصرعه..... كم هامت على أجنحة الخيال بعيدا....

تمنت مرة أن تكون من برج العقرب.... بل تمنت نفسها عقربا حقيقيا اسودا مريعا ينفث سمه في ذا الممدد ببلاهة على الأريكة الشاخص العينين أمام صندوق الفرجة....
" آآآآآآه لو تحول إلى هاته القناة الحقيقية التي يحياها.....آآآآآه لو أمعن النظر وشخص البصر لرأى.... ورأى.... ولما تحول عنها أبدا.....

صيحات مزعجة صدرت منه -عند الإعلان عن اتمام بناء الجدار الفاصل في الأراضي الفليسطينية – أعادتها من برج الخيال إلى أرض الواقع.... لم تجد لحظتها نفسها إلا طائرا مقصوص الجناحين....لا يملك الا زقزقات مبحوحة لا لحن فيها ولا شجن....نغمات حزينة وخيالات جامحة....

اين الرجال ؟؟؟ اين العرب ؟؟؟ أين.... ؟؟؟أرض الاقصى سيجت وأحيط بها " صاح بحماس منقطع النظير " وعيناه مصوبتان إلى الشاشة لا تكادان تبرحانها إلا للترميش ثم تعودان إليها مرة غخرى أكثر انتباها وتدقيقا....

عطرها الفواح لا يصله " ربما حاسة الشم عنده ضعيفة " هكذا ظنت في البدء....تقصد في بداية حياتها الزوجية...

كانت المسكينة تغير كل مرة نوعية عطرها ظانة منها أن تلك التي تضعها لاتعجبه...لكن مع مرور الزمن تأكدت أنه فاقد الحس وليس الحاسة....

تصوروا أنها طالبته يوما بزيارة طبيب طبيب عيون....إنه لا ينتبه إليها....
لا يكاد يلحظ وجودها الا لطلب ما....لا يميز بين الطفرات التجميلية والتغييرات الشكلية التي تأتي بها المسكينة بين الفينة والأخرى لتظهر جلية بهية... تذهب بلبه فيأتيها هاشا باشا راغبا معجبا....

تيقنت أنه ضعيف البصر....فوضت أمرها لله وجهزت نفسها لتتحمل منظره وهو يحمل نظارات مثل قاعدة الكؤوس الزجاجية..." المهم أن يراني... يستمتع بطلعتي ويهش لرؤيتي " قالتها لحظتها في حوار مع النفس لامتصاص الصدمة
عاد اليها بنتيجة الفحص دون أدنى اهتمام...

إنه متأكد من قوة إبصاره.....دلل على ذلك بملاحظة خال صغيرة على الخد الأيمن لمذيعة قناته المفضلة ذات الثقافة العالية والصوت المذهل كما يحلو له أن يصفها كل مرة....

تصوروا أيضا أنها ظنته يوما ضعيف الذاكرة ( مجنون يعني – وقاكم الله )....
عندما جهزت كعكة رائعة في الذكرى الأولى لزواجها وكتبت عليها ( ياسين وبشرى سنة مضت وتأتي بالمسرات الأخرى) سألها ببلاهة لا يحسد عليها: من بشرى هذه ؟يومها ضربت صدرها ولطمت وجهها ونفشت شعرها ولخبطت كحلها....فبدت كالحمقاء ورددت بهياج شديد " مجنون وليلى....مجنون وبشرى..... لا....بل مجنن بشرى....لا...لا...بل مجنون ومجنونة.... وظلت تهدي وهو لا يبالي كأنه غير معني بما حدث أو قل ليس السبب فيما حدث )

في نهاية العرض المسرحي الحي جمعت هي أنفاسها وأحضرت ما تبقى من عقلها وقالت بلهجة المتأسي الفاقد الحيلة: "مجنون واحد أفضل من مجنونين " ومن يومه فوضت أمرها لله....

انحنت ورفعت القهوة محدثة جعجعة بالفنجان عله يلمحها.... يحس بها.... ينظر اليها....لا أمل....

رفعت المائدة الصغيرة بحنق ووضعتها بقوة على أصبع رجله ظانة انها لن تعدم النظرة هذه المرة ( نظرة غضب....لا يهم...الاهم أن تفوز بأي نظرة ) قالتها وهي متأكدة أنها ستربح التفاتة صوبها.....

تكاد المسكينة تفقد احساسها بها....بذاتها.....بجسدها..... قام هو من مكانه مذعورا صوب الاتجاه المعاكس وعانق مخدة من فوق الأريكة ينفث فيها ألمه وهو يصرخ " لقد فعلها الجبان....وأكمل بناء الجدار الفاصل حول الأراضي الفلسطي...... "
ضربت هي كفا بكف وصرخت هي الأخرى بألم عميق وحسرة قاتلة " لقد فعلها الجبان....فعلها الجامد وأتم بناء جدار الصمت"

وقامت تجر أذيال الخيبة والمرارة صوب المطبخ تحضر له ما سيتعشى وهي تتحسر على عمر يضيع مع فاقد الحس ضعيف الحواس....مهندس نظرية الصمت ثم الصمت ثم الصمت....ولا شي يعلو على الصمت والفرجة.....فمن صمت نجا وهو ملحن الاغنية العربية الشهيرة " الصمت غلة....والكلام ذلة....سامحيني يا قدس يا فلة....آه لو كنت نحلة لجئتك بألف برميل عسل ومليون نخلة....لكن يا قدسي سامحيني....لست بنحلة....ولست جملا ولا بغلا...أنا جسد له خوار....يدخله الريح من الجانب الايمن ويخرج من اليسار...لا يثبت على ارض ولا مدار....
الصمت عنده اصل الحوار....وجداره جدار صمت لا يهده حكم ولا قرار...."
هذه رائعته التي يدنددنها ويحياها

أيقنت المسكينة ألا أمل ولا رجاء في تحطيم الجدار وأن عليها أن تتعايش مع الوضع المرضي المزمن عسى الله يمن عليها وعلى أمثالها بالفرج القريب....


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى