السبت ٢٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم حميد طولست

الدروس الخصوصية

تقليد أم خلل في النظام التعليمي!

التعليم عصب الحياة وهو أساس التنمية والعمود الفقري لرقي ونهوض أي بلد، وهوضرورة وليس ترفا من رفاهيات الحياة. والتقدم يعتمد على عدد المتعلمين، وفيهم تكمن قوة أي شعب بغض النظر عما تختزنه صناديقه من ذهب وفضة.

تعليمنا يعاني من عدة ظواهر تؤثر على مسيرته ورسالته ، ومع ذلك نحاول الجميع الهرب من القضاياه الكبرى التي تلقى بظلالها على كل شيء، و تعكر صفو حياتنا وتجعل الجميع مفكرين وكتاباً وسياسيين وحتى الطلبة والموظفين منشغلين بالتنظير والتحليل والإدانة والاستنكار والتأييد حتى تحول المسرح التعليمي إلى حلبة للمصارعة الحرة، معظم ما يجري على سطحها هو تمثيل مسرحي متقن الإخراج لا يملك جمهور الآباء والأولياء سوى الصياح والصراخ ولا ينالهم سوى ارتفاع ضغط الدم وتصلب الشرايين والنوبات القلبية..

ولكن على الرغم من هذا المناخ المشحون فإنه يجب علينا أن نلتفت بين الفينة والأخرى للقضايا الوطنية الأخرى التي يمكن لنا أن نؤثر فيها ونناقشها بهدوء ونسعى إلى معالجتها في سبيل رقي الوطن ومستقبل أبنائه، لأن علو الوطن وتطوره لا يكون إلا بمعالجة قضاياه الصغرى التي تكون دائما باعثاً لمعالجة القضايا الكبرى.. فكيف نواجه المعضلات العظمى التي تهدد مصيرنا، إذا تعثرت أقدامنا في قضايا صغيرة. فمن بين هده القضايا الصغرى، أو التي تبدو كذلك رغم خطورتها، ظاهرة الدروس الخصوصية التي يستنكرها المجتمع برمته، لكنه يلجأ إليها مضطرا بكل شرائحه، رغم أنها تؤرق جل الأسر وتنهك جيوبها الخاوية أساسا.

فهل عجزت وزارة التعليم عن مواجهة أو تنظيم أو الحد من هذه الدروس الخصوصية، التي تنامت في السنوات الأخيرة بصفة مهولة فاضحة؟ حتى أصبح لها سوقها الرائجة، واتسعت رقعة المدرسين المواظبين على تقديمها كلما نزل الظلام وكأنهم يخشون الشفافية والنور، يتسابقون إليها وعليها بكل الوسائل وأكثر الطرق إلتواء ومخاتلة، لما تمثله من دخل مهم يحقق توازنا ماليا لا يمكن للكثير من رجال التعليم الاستغناء عنه، حيث يفوق مردودها في كثيرمن الأحيان ما يتقاضاه أرقى رجال التعليم وأعلاهم درجة، و ذلك حسب نوعية المادة المدرسة وطبيعة المستفيدين ومستواهم الدراسي والذي شمل حتى الأقسام الابتدائية الأولى و المستويات الجامعية العليا.

لم تكن الدروس الخصوصية لتشغل بالي وأنا رجل التربية الذي لم تخرج خبرتي المتواضعة عن نطاق مؤسسات التربية والتعليم، لولا تفاعلي كصحفي مع هموم الناس ومشاكلهم، و شكاوى الكثير من الآباء من إلحاح أبنائهم على تلقي الدروس الخصوصية على يد أساتذتهم، وتحول العديد من رياض الأطفال بمدينتي فاس- كما في كل المدن المغربية الأخرى- إلى مدارس متخصصة في الدعم والتقوية في جميع المواد والموضوعات لجميع التلاميذ الذين يواجهون، والذين لايواجهون صعوبات في الاتستعداد للاختبارات والامتحانات.. من خلال هذا الإلحاح وهذه الشكاوى توقفت قليلاً لأتنبه لظاهرة الدروس الخصوصية التي تفشت بصفة جطيرة بين تلامذة كل مراحل التعليم، الإبتدائي و الإعدادي وحتى الجامعي، لأسباب متعددة ومختلفة سأحاول تلمس بعضها، آملا أن يتمكن المتخصصون والمسؤولون عن ميدان التعليم والتربية والتوجيه والاجتماع تشخيص الظاهرة بأسلوب موضوعي وعلمي وبناء واقتراح حلول ومبادرات غير تقليدية، والحرص على تطبيق تلك الحلول.

الدروس الخصوصية ظاهرة تتنامى سنوياً وأصبح لها سوق رائجة ووجد فيها بعض المشتغلين بالتعليم والذين يدعون المهنية والضمير وهم ليسوا من أهل التعليم مجردون مما يسمى الضمير..وجدوا فيها الدخلً الجيدا طيلة السنة، فتسابقون بكل الوسائل لفرض خدماتهم بأكثر من وسيلة وأكثر من طريقة.

ظاهرة جديدة لها أبعاد خطيرة بعضها مرتبط بالقضايا التربوية والتعليمية والبعض الآخر مرتبط بالمجتمع بشكل عام، من حيث نشوء تقليد جديد وسوق جديدة وطبقة جديدة من المنتفعين منها والتي تطورت إلى مؤسسات تعليمية خاصة، تنظم العملية وتستفيد هي الأخرى من دخلها المربح. ولعلنا نعرف أن نظامنا التعليمي والاجتماعي يعاني اليوم أكثر مما مضى من هذه ظاهرة، حيث أصبحت تمثل دخلاً أساسياً لأساتذة الجامعات ومعلمي مراحل التعليم الإبتدائي والثانوي، لا يمكنهم الاستغناء عنه، حيث يفوق ما يتقاضاه رجل التعليم كأجر رسمي، فأصبحت المؤسسات التعليمية والهيئات الحكومية عاجزة عن مواجهة سلبياتها والحد منها، أو إستصدار بعض التشريعات التنظيمية، والإقرار بوجودها رسميا وقانونيا.

إن انتشار هذه الظاهرة له أسباب كثيرة بعضها مرتبط بقضايا اجتماعية مثل انشغال الآباء والأمهات عن أبنائهم أو عدم قدرتهم على مساعدتهم علمياً، وبعضها ناتج عن التقليد والمباهاة سواء من قبل أولياء الأمور أو من قبل الطلاب والطالبات أنفسهم.. أما أسبابها التربوية فكثيرة من أهمها أن هناك فجوة بين مستوى الطلاب في مختلف المراحل وبين العملية التعليمية والتربوية فمستوى بعض رجال التعليم متواضع وأساليبهم في التدريس تقليدية وتعاملهم مع الطلاب يشوبه التكبر واللامبالاة والتهرب من المسؤولية والبحث عن الأعذار أمام الإدارة والمشرفين.. وقلما يجد المتمدرس عندهم الدعم الكافي في حالة وجود صعوبات في بعض المواد. فلا حلقات للتوعية، ولا دروس حقيقة للتقوية، ولا برامج للتعلم الذاتي.. وبالتالي يتسرب اليأس إلى نفوس الطلاب والطالبات فيتسابقون وأولياء أمورهم للرضوخ لإبتزازات معلمهم طلبا للمساعدة والدعم في الوقت الحرج، ولا أحد يسأل حينها هل هذا المعلم أو تلك المعلمة هو ممن يمتلك الخبرة والمعرفة والشهادة – ولو كان كذلك لأبلى البلاء الحسن من خلال الدروس الرسمية- أم أنه استغلال للناس وركوب موجة الدروس الخصوصية لزيادة الدخل.

إن انتشار الظاهرة وتعود الناس على وجودها، يساهم في تعميق المشكلة الأساسية ويؤدي إلى استمرار التهاون من قبل المتدرسين، فطالما أن المتعلم سيجد من يساعده في النهاية ويمنح نقط الامتياز بقدر الدفع، فلن يُعرف المقصر من المجد ولن يتنبه المشرفون والموجهون إلى مواطن الخلل.. كما أن الدروس الخصوصية لها جوانب سلبية أخرى أخطر، حينما يتحول المعلمون والمعلمات إلى آلات تعمل نهاراً في المدارس والجامعات وليلاً في البيوت المدارس الخصاصة والحلاقات التدريبية، فلا يجدون وقتاً للراحة والمطالعة والتحضير، فتنعكس جميع هذه الآثار على حياتهم العملية ويصبح همهم الأكبر تحقيق مزيد من الأموال على حساب العملية التعليمية والتربوية. هذه الحكم ولله الحمد لا ينطبق على كل رجال التعليم، فهناك المواطنون منهم أصحاب الضمائر الحية. لكن عدم نقد الظاهرة قد يؤدي إلى تسرب القبول الضمني داخل لذى الكثيرين، ومن ثم يعتبرها بعض المعلمين أمر عادي مقبول خاصة أنها الحل لزيادة دخلهم المادي.

الكل يعرف أن وزارة التربية والتعليم لا تقر بالدروس الخصوصية وربما حاولت إيجاد بعض دروس التقوية لتعويض الطلاب الذين يواجهون صعوبة في بعض المواد عن البحث عن مدرس خصوصي.. ولكن الظاهرة في ازدياد مما يعني أن تلك الجهود لم تصل إلى نتيجة حاسمة في القضاء عليها أو على أقل تقليل من انتشارها.. فلماذا فشلت الوزارة في محاربة ظاهرة الدروس الخصوصية؟ هل المشكلة في الإرادة والعزيمة للتصدي للمشكلات التربوية، أم المشكلة في الوسائل التي ربما لا تتجاوز تعميم خطابات إدارية يتبخر أثرها بمجرد أن يجف حبرها، فتساهم بشكل غير مباشر في ازدياد الإقبال والاستفادة من هذه الدروس، وتكون هي السبب الرئيسي لما تعرفه من فوضى عارمة في كل شيء، في أسعارها، وتوقيتها، وأماكن إعطائها، وحتى على مستوى تسمياتها والمصطلحات التي تميزها عن الدروس الرسمية الواجبة، فالبعض يسميها (الساعات الإضافية) والبعض الآخر يطلق عليها "الدعم المدرسي"، وآخرون يحلو لهم أن يسموها (الدروس الخصوصية) ...إلا أنها ورغم الفوضى التي تعم سوقها فإنه من المؤكد أن اللجوء إليها كان ولاشك نتيجة حتمية لما يعرفه التعليم الحكومي من إختلالات في برامجه ومقرراته وعدم تشبع بعض أساتذته بطرق تلقينها، و ما تعرفه مدارسها من إكتظاظ، وغياب الأنشطة الموازية الجيدة والتكفل الاجتاعي، إلى جانب جو الخواء العاطفي والإنساني بين المدرسين والتلميذ وإدارة المؤسسة. فلمثل هذه الأسباب وغيرها كثير تضطر بعض الأسر رغم ضعف مستواها المعيشي و ضآلة دخلها للجوء لمثل هذه الدروس المهربو الخصوصية ، في الوقت الذي تتخدها الأسر التي وسع الله من رزقها بروتوكولا يتفاخرون به بين الأهل والأقرباء

تقليد أم خلل في النظام التعليمي!

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى