الأربعاء ٢٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم أحمد الخميسي

الحذاء العراقي الطائر

تضم مراكز الأبحاث السياسية والتحليل الاستراتيجي في أمريكا أفضل الخبراء العسكريين والاقتصاديين وأساتذة العلوم السياسية، بعض تلك المراكز مثل مؤسسة (راند) تعد (عقل البنتاجون)، ومع وجود نحو ألفي مؤسسة أمريكية في مجال التحليل السياسي، فإن قصة الحذاء العراقي الطائر لا يمكن، ولا بأية حال أن تكون قد خطرت على عقل واحد من الأساتذة العظام عند جلوسهم في قاعات مكيفة يحللون وضع العراق في ظل الاحتلال!

فالحذاء لايندرج ضمن الأبحاث السياسية، ولا الاقتصادية، ولا العسكرية، وليس لدي أي من تلك المؤسسات خبير واحد في الأحذية! ذلك أن المتعارف عليه تاريخيا أن الأحذية لم تكن أبدا عاملا سياسيا مؤثرا، قد يؤدي في لحظة لتوحيد مشاعر شعب كامل، أو نقل رسالة سياسية شعبية واضحة إلي رئيس أكبر دولة في العالم. لم ترد قصة الحذاء الطائر على عقل أي من العاملين في تلك المؤسسات التي ظهرت في أمريكا منذ مائة عام، وعرفت بمؤسسات الرأي والفكر، وتبلغ ميزانية بعضها مثل (راند) مئة مليون دولار في العام.

لابد أن أولئك المحللين الاستراتيجيين كانوا يناقشون كل شيء بإسهاب: أهداف الوجود الأمريكي، نهب النفط، قدرة قوات الاحتلال على البقاء، آفاق استمرار المقاومة الشعبية، خريطة الحلفاء الدوليين، لكن قصة الحذاء لم تكن على بال. في العام الماضي صدر عن (راند) تقرير استغرق إعداده ثلاث سنوات رسمت فيه للإدارة الأمريكية الخطة السياسية للتعامل مع أحداث العالم أجمع وخاصة الشرق الأوسط. لكن التقرير لم يتضمن شيئا عن خطورة الأحذية. لم يحلق خيال علماء السياسة إلي طيران الحذاء.

فمن الممكن لأولئك المحللين أن يحسبوا عدد الدبابات في مواجهة البنادق، وتكاليف الحرب التي ستتحملها أغنى دولة في العالم وهي تواجه شعبا فقيرا، وإمكانيات تحييد الصين وروسيا وأوروبا، وكيفية تأجيج الصراع الطائفي في العراق، لكن ليس لدي تلك المؤسسات خبير واحد في حساب الانفعال، أو مختص واحد حاصل على شهادة علمية في شئون الكرامة. ورغم كل حسابات الاحتلال الأمريكي الطويلة الدقيقة فإن حادثة صغيرة غير متوقعة أفسدت كل شيء. فجأة يطير حذاء لم يكن أحد يتوقعه، فيصبح حديث العالم، ويصبح صاحبه في غمضة عين محاطا بأكبر قدر من التعاطف العربي والدولي، وفجأة تنهار العظمة الكاذبة وتتكشف عن شخص جبان يتفادى كلاعبي الأكروبات فردتي حذاء طائر.

في كل كتب العلوم السياسية، ستجد الأحاديث المطولة عن صراع الطبقات، وتأسيس الأحزاب، وخوض نضال طويل برلماني واقتصادي، وحشد الجماهير، لكن مفكرا واحدا لم يشر إلي دور الحذاء في التاريخ! وكيف يمكن للحذاء أن يصبح في لحظة موضوعا للأهازيج الشعبية والقصائد والأغنيات والنكات والتأييد ومشاعر التعاطف الحارة؟!.

أتذكر بهذا الصدد قصة قصيرة لهانز كريستيان أندرسن عن أميرة اشترطت على من يريد الاقتران بها أن يأتيها بأعجوبة، فتجمع المحبون من كل أنحاء العالم، وتقدم إليها أحدهم بمرآة سحرية ترى فيها المستقبل، ودنا منها الثاني ببساط سحري يحملها حيثما شاءت، ووضع الثالث بين يديها نايا سحريا إذا نفخت فيه تحقق لها كل ما في خيالها، لكنها أعرضت عن أولئك كلهم حتى تقدم منها الرابع، فرفعها بين ذراعيه وحملها وانصرف.

أراد الكاتب الدانماركي الكبير أن يقول لقرائه إن الشجاعة هي الأعجوبة الوحيدة الحقيقية! وأعجوبة الشجاعة هي التي شقت السماء الملبدة بخيط من نور وحد فجأة – ولو لفترة – مشاعر العرب جميعا، فإذا بالنكات والتعليقات ورسائل البهجة ودموع الفرح تتدفق بلا توقف، وإذا بشاب كان من الممكن أن يحيا طيلة عمره مجهولا يصبح في لحظة كالومض (أميرا متوجا) لملايين البشر الذي عانوا طويلا من مجرمي الحروب مخترعي ديمقراطية معتقل أبوغريب وجوانتنامو وغيرها مع بعض الصحف المستقلة!. كان هناك حذاء سندريلا، وحذاء نيكيتا خروتشوف في الأمم المتحدة عام 1960، فأضاف التاريخ إليهما حذاء آخر جميلا سيصبح جزءا من نسيج الأساطير الشعبية في العالم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى