الأحد ٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩

حلمٌ ضائع في خريف العمر

بقلم: د.هاشم عبود الموسوي

في شقتي المتواضعة التي استأجرتها بعد أن وصلتُ إلى هذه المدينة الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، كأنّ عليَّ أن أتأقلم مع حجمها وتجهيزاتها البسيطة، بعد أن تركتُ بيتي في وطني بتأثيثه الفاخر، الذي جهّزته لي شركة يابانية... كنتُ أحياناً أعود بذاكرتي إلى أيام شبابي، وأنا طالب في ألمانيا، فأتسائل كم كان أثاث غُرفتي وثيراً، وكم احتضن من دفء، ومشاعر وذكريات، طبعت تلك الأيام بمذاق عذب... كل ذلك كنتُ أستحضره، عندما أُفيقُ من نومي متثائباً، كسولاً، ممدداً في السرير. وقد اعتدتُ في الأيام الأخيرة، أن أقرأ بكتابٍ غير متخصص بمهنتي للأب مرمرجي الدومنيكي، عن اللغة وتطورها، وعندما يُفاجئني النُعاس، أوجّه إنارة المصباح المنضدي إلى السقف، وأغرق في نومٍ عميق.

هذه المرّة، نهضتُ مُسرعاً، لأستحمّ بدوشٍ حار، وخلافاً لكل أيام غُربتي السابقة، كنتُ أُغنّي وأشعر بنشوة الماء الحار، وهو يُلامس جسدي، أُدندن وأعود مرّةً أخرى للغناء، وفي أثناء ذلك، سمعتُ جرس الباب... ناديتُ بصوتٍ عالي... نعم! نعم!.. أنا قادمٌ إليك، خرجتُ من الحمّام، وأنا مستمرٌ في الغناء، وعلى رأسي منشفةٌ تتدلّى على جانبي وجهي، وتُغطّي كتفيَّ، وعلى نصفي الأسفل منشفةٌ أخرى تصل إلى ركبتي.. كنتُ أُهرول بطريقة كوميدية إلى الباب الجانبي، وأفتح الباب، وأرجع مسرعاً إلى الحمّام، دون أن أنتظر لأحيي الطارق، وأنا أُردّد تفضّل يا دكتور وحيد واسترح في الغرفة.. أنا قادمٌ إليك حالاً.. ولكني كنتُ مستمراً في الغناء بنفس الانشراح. خرجتُ من الحمّام مرتدياً فانيليا داخلية وشورت يصل إلى منتصف ساقي.. كنتُ حافي القدمين، وأقوم بتنشيف شعري... رميتُ المنشفةَ. لا أدري أين.. وقفتُ أمام المرآة، أتأمل وجهي وجسمي، وأحرّك حاجبيّ وفمي وأسناني، مُنتشياً، أُفكّر بداخلي، بأنَّ وجهي وجسمي وشكلي لم تؤثر عليها عجاف السنين. حتى أنَّني استسلمتُ لأحلام يقظتي مبتسماً ومردّداً في داخلي: "لا زلتَ يا نزار تمتلك الجاذبية".. لكنّي أتساءل لماذا (النيزك)، هي وحدها التي استطاعت أن توقظني من سُباتي، وتُشعل بي رغباتي النائمة.. التفتُّ إلى صاحبي الذي لم أستطع لحد الآن أن أرى وجهه، لأنَّ أشعة المصباح المنضدي كانت لا تزال موجّهةٌ إلى السقف.. سألتهُ إن كان يُريد أن أحضّر له كوباً من الشاي... وبدون أن أسمع جوابهُ استرسلتُ قائلاً: "لا أدري يا عزيزي، كيف يستطيع المرء بعد ثلاثين عاماً أن يعود إلى أيام صِباه؟ وكيف تنبعث لديه مرةً أخرى تلك المشاعر المجنونة؟ كنتُ آنذاك في السنين الخوالي بجامعتي في برلين، أقطفُ أينعَ وأبهى الزهور لأعطّر بها أيام شبابي... كيف تعود بي الأيام إلى أجمل الأشعار التي كتبتها؟ أهو الهروب من العُزلة والوحدة والضجر؟ على كلٍ أنا أطلتُ عليك الحديث، دون أنْ أحضّر لك كوباً من الشاي أو القهوة. أراكَ يا وحيد مُتعباً وأنتَ تسمع، ولا تُريدُ أن تعلّق بأي شيءٍ على ما أقوله لك.. ولكنّي لابد أن أصفَ لكَ مشاعري لأنّي لا أثقُ ببقية الأخوان، وأنتَ تدري بأنَّهم لا يُحافظون على أصغر سِر.. يا سيّدي أنا على موعد ليُدغدغ سمعي أحلى رنين لجهاز الهاتف. تحدّثتُ لك يوم أمس عن تلك الفتاة التي اسمها "نازك"، والتي أصبح الطلبة والمنتسبون يُسمّونها "نيزك"... نعم أنا تيقّنتُ بأنَّ هذا الاسم هو أكثر انطباقاً عليها من اسمها الصحيح... لا أدري إلى أين وصلنا بالحديث يوم أمس. ولكنّي سأختصر لك الموضوع:

في يوم الثلاثاء، عندما خرجتُ من مكتبي في الكلّية، متوجهاً إلى مكتبة الجامعة، ماراً بجموع الطلبة، مُخترقاً أحد المماشي الضيّقة المعبّدة ببلاطات ملوّنة، وعلى جانبيها جلسن فتيات على المصطبتين المتقابلتين، وهن مُنشغلات بأحاديث مُتشعّبة... أجبرني الممر الضيّق إلى الإبطاء في المشي وأداء التحيّة، على المصطبة الواقعة على جهة اليمين، كُنَّ ثلاث طالبات مُبتسمات ينظرن إلىَّ بتشوّق ظاهر على وجوههن للحديث معي، كانت أوسطهنّ، تمتلك وجهاً ملائكياً بعينين كبيرتين ورموشٍ طويلة مرفوعة للسماء، كأنها في صلاةٍ دائمة... أحلى من الجيوكاندا بألف مرّة. تجرأت أن أنظر إليها بتمعّن.. قلتُ بداخلي يا إلهي.. هاتان عينان تبدوان كبحريتين جميليتين، تحلمان بزورقٍ مُبحر من الجنّة.. لم أستطع أن أُقاوم أمام هذا الجمال المتناسق: ابتدأتُ بالسلام بشكلٍ عفويّ: كيف حالكنّ يا بنات؟

شكراً يا دكتور نزار... لقد كانت الأمسية التي ألقيتَ بها شعركَ رائعة، إلى حد أنّنا عُدنا إلى القسم الداخلي، ونحن نتغنّى ببعض ما حفظناه منها.

سألتُ أوسطهنّ ما اسمكِ يا أحلى الطالبات؟. قالت: نازك يا دكتور. طأطأت برأسها، وجاهدت مرّةً أخرى بصوتٍ آتٍ من السماء، لتقول لي.. أُريدُ نسخةً من ديوانكَ يا دكتور.. لا أدري كيف انفلتَ لساني ونطقتُ بشكلٍ تلقائي بالكلمات، لأقول لها بدون حياء: لا يعزّ عليكِ ديوان.. يا أحلى قصيدة سأكتبها في يومٍ ما... لم أُلاحظ عليها أي علامة من علامات التذمّر، على العكس لاحظتها كانت منسجمة تماماً، وتُنصت إلى كل كلمة تفوّهتُ بها.. لا أدري إن كانت هي راغبة بذلك... شاهدتُ فجأة مجموعة من الطالبات يقفن خلفي من المصطبة المقابلة وغيرهنّ يستمعن إلى الحديث الذي دار بيني وبينها.

لستُ رجلاً شهوانياً كما تظنّ.. إنّني مُحمّل بالأخطاء كباقي الرجال والنساء... لستُ أدري كيف حدث ذلك، ولكنّه حدث فعلاً... على كلّ حال أعطيتها رقم هاتفي، وقلتُ لها اتّصلي بي يوم الخميس عند الخامسة بعد الظهر... واليوم هو خميس... ولكن كم الساعة الآن؟ السادسة!! ليس معقولاً ذلك.. اللعنة عليها.. لماذا لم تتّصل لحد الآن.. آواه إنّا نسيتُ يا ألف لعنةٍ عليّ. أنا لم يعد عندي هاتف، فقد بعتهُ يوم أمس، على أمل أن أشتري هذا اليوم، جهازاً أحدث منه، ولكني مع انشغالي، نسيتُ كلّ شيء... عليَّ اللعنة، وعلى نسياني مليون لعنة.

قمتُ من مقعدي وأعدتُ اتجاه إنارة المصباح المنضدي إلى الأسفل، ليُنيرَ الجدران وأرضية الغرفة، فلم أجد أحداً جالساً في الغرفة.. كانت في أعلى الكرسي الذي أمامي قُبّعتي (البيريه)، التي اشتريتها من شارع سقف السيل في عمان قبل قدومي إلى هنا، وعلى جانبي الكرسي ذراعي جاكيتي.. يا للوهم اللعين.. لم يكن الدكتور وحيد موجوداً.

لم يكن هنالك سوى الدولاب والكُتب وبعض ملابسي المُبعثرة بإهمال وأحذيتي تحت وجنب السرير، وطاولة المرآة وما عليها من لوازم الحلاقة وصُحف اليوم.
كنتُ طوال الوقت أهذي... لم يكن سوى صدى صوتي يُجيبُ على حيرتي... إنَّه الحُلم الجميل، الذي عِشتُهُ على مدى يومين من خريف عمري.

بقلم: د.هاشم عبود الموسوي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى