الأحد ١١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم ناصر الريماوي

شـــروط اللعبـــة

  خطانا حثيثة نحو المجهول... أليس كذلك؟؟

قالها ثم توقف عن المسير لبرهة، إلتفت إليها، كأنما يطلب تأييداً، لم تعلق، كانت توفر له المناخ المناسب لطرح الاسئلة فقط.

  لملاقاة حتفنا مثلاً، هذا أمر حتمي... اليس كذلك؟؟

المناخ مواتي الآن للإجابة على سؤاله، لكنه لم يتوقف لسماع الرد، فآثرت المضي في لعبة الإنصات والنظر إلى موطيء قدميها تحسباً لأي مفاجئة على الطريق.

  الوقت يمضي بلا توقف أيضاً... بالمفهومين المطلق والنسبي، هل يمكن للوقت ان يقف ولو للحظة...؟ هل فكرتِ بهذا يوما؟؟

كانت ترغب بمخالفة كل شروط هذه اللعبة والرد بما هو أعمق وأقسى، لكنها تنفست بعمق، وتحاملت على نفسها لمواجهة الخطوات المتبقية لمفترق الطريق.

  لماذا علينا ان نعيش... ما دمنا سنلقى حتفنا في نهاية المطاف، لماذا نلهث وراء السعادة... وليس بمقدور الوقت في لحظة يتوقف فيها الزمن مفسحاً لنا المجال للتمتع بها؟؟؟
  ...
  لنكن اكثر واقعية... لا يوجد سعادة لنهدر ما تبقى من وقت في البحث عنها
  لكن...

للمرة الأولى منذ ساعات تخالف وتنطق بكلمة، ظنته لن يتغاضى، لكنه وعلى مضض كان يخالف الشروط فلم يعلق على حالة التمرد التي إنبثقت على غير العادة، وإنما إكتفى بنظرة حادة أعادت الامور إلى نصابها قبل ان تتفاقم

  أنا على يقين تام اننا لن نغدوا اكثر من مضغة في فم الذكريات... حتى لو تكرر هذا اللقاء... فأين الفسحة للخلاص... حقاً اين تلك الفسحة؟؟
  ...
  نعم يحق لك أن لا تجيبي، فليس هناك ثمة إجابة شافية... اليس هذا صحيحاً؟؟
  ...
  أعلم... أعلم أننا نعشق المراوغة... نتلذذ في خداع الذات... نرغب بالمزيد من هذا السراب لنشبع رغبة مجنونة لا تنتظر هنيهة في فم الوقت حتى يمزقها إلى اشلاء ويلقي بها في جعبة الذكريات لتغدو بقايا رغبة... أليس هذا مستهجناً؟؟

أحسّت بسياط الشمس للمرة الأولى تجلد الطريق والمارة عندما تبدى لها النفق الذي يسبق مفترق الطريق على مقربة من التقاطع التالي، غطت رأسها بالعدد الاخير من المجلة النسائية، وأبقت على مساحة جانبية كافية للطرف الآخر لتكشف ملامح الوجه نيابة عنها في الرد... وفقاً لبعض الشروط

  هذا الصمت مؤسف للغاية في مواجهة الحقيقة الماثلة وكأننا نعلن إستسلاماً فوريا أمامها... أليس هذا واقعاً سلبياً؟؟؟
  لكننا...
  ثم ياتي دور العولمة في تعميق هذه الهوة بين الإنسان والحلم... لتتسع دائرة التهميش... ألا يكفي اننا ولدنا مهمشين؟؟؟

جحظت كل ملامح الوجهه وتبنت قسماته تعبيراً غير مسبوق يوحي بالذهول لما قاله وللمسافة الرابضة على صدر الطريق حتى اول النفق، لكنها أذعنت في انكسار واضح لشروط اللعبة، ولم تعلِّق

  لم نتخلص بعد من تداعيات العقدة الرأسمالية، كما اننا لا نأسف على إنهيار النظرية الإشتراكية ووئدها المبكر في المهد، ولن اناقش الأسباب الكامنة وراء ذلك... هل إتفقنا يا عزيزتي؟؟؟
  على ماذا؟؟؟
  على التقيد بحرْفية الطريق للوصول إلى المفترق التالي، وجدوى المستقيمات التي تختزل المسافة بين نقطتين في أدب الحوار، و... شروط اللعبة... أليس كذلك؟؟؟
  أنا انتظر النفق.. وأتقيد بحرْفيةْ الوصول إليه الآن... هناك يمكننا الوقوف على بعض الشروط... لنقيِّمها.

كان بعض المارة في تشتت إنفرادي واضح و ملفت للنظر على وشك الوصول بحرية تامة ومن غير شروط مسبقة، لبداية النفق في مسير يومي معتاد، وخلافاً لبعض التوقعات فقد إستطرد برفق وهو يجتاز تلك الفوهة إلى جانبها مع بقيةالمارة:

  لسنا على خلاف... أليس كذلك؟؟

تردد السؤال بصدى مسموع على إمتداد النفق المحاصر بجدران الإسمنت الإستناديه وحتى فوهة الخروج التي لم تكن بعيدة على الجانب الآخر... لكن أياً من المارة لم يعلق أو يسمع على الرغم من الإنصات الموحش والصدى المتحفز.

عند بوابة الخروج كان النفق يقذف بالمارين في حرية وتناغم، بعض المارة كان قد أبطأ المسير والبعض الآخر يغذ السير للوصول بأسرع وقت،... بينما هو يعبر النفق إلى الطريق العام في تسارع ثابت و منتظم لخطواته المعتاده... ولكن برفقـة إمـرأة أخــرى، كانت تُمعن في الإصغاء لما يقوله بإهتمام بالغ ومؤثر، لم تكن تنظر لما تبقى من الطريق أمامها، كما انها لم تكن ناصعة، على الرغم من إحترافها كل فنون البياض، بينما هو يستطرد و يتابع في وتيرة لم تتبدل:

  هل نفخر كوننا شهداء هذا الصراع الطبقي؟... بينما نموت مسحوقين تحت رحى أقدامهم العفنة!!!... هل هذه شهادة تستحق الفخر!؟
  ...

طوْق مفروض على تبدل الملامح، ظلت حيادية مفرغة من أي معنى، أعجبه الحصار كثيراً لهذا الوجه المفرط في الإصغاء، توقف عن السير لبرهة، اعترض طريقها في حركة تمثيلية تنم عن الإعجاب الشديد، غمره الوجه في لدونة الشمع، حين علَّق على صمتها:

  لو ان هذا المسير يطول، ويطول...
  ....

عند مفترق الطريق، وتحت اللافته العملاقة التي تشير إلى المتحف المجاور للطريق الفرعي، تسمرت في حياد مؤثر، وقف امامها مودعاً، صافحها بشدة دون ان تمد يديها، أعرب عن سعادته وغبطته بذلك الحوار، وأبدى إعجاباً منقطع النظير بوجهات النظر العميقة التي ابدتها حول كل تلك القضايا التي اثارها، ثم إستاذنها بالتلاشي في الطريق المقابل قبل الزحام، مشروع إبتسامة على شفتيها تعبيراً عن إمتنان ضمني، تلويحة وداع مقتضبة في طريقها لحيز الوجود، لكنها سرعان ما تذكرت اللعبة، والشروط الإضافية الملزمة... فأمتثلت لضغط الملامح المستشرية على صفحة الوجه... ولم تحاول.

بعد قليل كانت وحيدة خارج حالة التلاشي التي تلف المكان، تطلَّعت لا إرادياً نحو اللافته العملاقة، ثم شرعت بالعبور بإتجاه المبنى الذي تشير إليه... لكنها توقفت في ذهول مفاجيء صوبت نحو اللافته مرة اخرى... كان هناك إسماً مضافاً، يلي كلمة (متحف...) تلك الكلمة لم ترها من قبل، كيف لم ترها من قبل؟؟ تهشم جزء كبير من شفتيها حين شهقت في فزع ملحوظ، لم تتألم، لكنها شرعت بالصراخ في وجه بعض المارة بصوت هستيري:

 لم نتفق على هذا... لم يكن هذا ضمن الشروط... لم يكن شرطاً من شروط اللعبة... لم يكن... لم يكن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى