الخميس ٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم أكرم سلمان حسن

الوهم

كان للخبر وقع الصاعقة.. فقد رحل مثله الأعلى.. المعلم الأول.. حبل السرة بينه وبين المعرفة .. من رصف له الحجرة الأولى في درب الحضارة.. درب الثقافة.

لكن حزنه البالغ ذاك.. خالطه فرح مكبوت.. مما أزعجه بل أرقه.. وشعر بالصغر نتيجة هذا الإحساس.. وظل أسير عقدة الذنب تلك.. إلى أن توصل معرفة السر.. الأمر ببساطة شديدة.. يتعلق بحلم نائم تحت ظل شجيرة من غابات الخلايا التي منذ أن تكونت.. كانت بلا عمل.. إلا الانتظار!! هذا الحلم الذي طالما عمل الراحل على تغذيته وتقويته.. ولربما كان حلم الراحل أيضاً.

منذ أن تفتحت براعم وعيه.. ماانفك يسأل نفسه.. لم أنا موجود؟.. بل لم وجدت أصلاً!!ما الذي أضافه وجودي.. وإذا رحلت..كيف تصبح الدنيا بدوني !!هل تتغير؟!! ثم.. هل يفتقدني أحد؟!!

وينتهي من حساباته بنتيجة واحدة.. ليس هناك أدنى فرق.. سواء كان أم لم يكن.. بقي أم رحل.. نابضاً بالحياة.. أم كومة من العظام المتفحمة في أديم الأرض.

لذا .. عليه وبسرعة العمل على تغيير هذه الحقيقة.. يجب أن يقوم بشيء ما يبعده عن أن يكون صفراً على الشمال.. وعند رحيله.. يجب أن لا يعود العالم كما كان.

منذ سنين والحلم المكنون يهجع في لا وعيه.. دون أن ينتبه له.. الآن فقط .. وبعد أن ورث المال الذي يغنيه عن إهدار الوقت في أعمال العبودية.. التي تلهيه وتمنعه من تحقيق الحلم.. وبعد أن ملك حلمه أطرافاً تمكنه من الحبو.. استيقظ... وبدأ بالرفس.. ملك نفسه وبدا له واضحاً .. جلياً.. أخيراً.. عرف ما يريد.. سيكتب كتاباً.. إذ أنه منذ فترة طويلة علم أن الثقب الأسود المشهور في الفضاء الخارجي، ليس له وجود في الواقع.. وإنما خلفه آلاف المجرات الغير مرئية، وما صنع هذا الوهم.. قصور العين عن الرؤية من مسافة معينة، وبظروف ثابتة، مدعماً بأقوال الأولين!!.

كذا الأمر بالنسبة إلى وعي البشر لما حولهم ولدواخلهم، اكتشف أن الأمر برمته، وهم صنعه السابقون وتبعه اللاحقون.. وتأتى عنه ثقب أسود في فضاء المخ.. يمنع اكتمال الرؤية وضوح الصورة.. بسبب من عدم استعمال مليارات الخلايا الدماغية غير المستعملة.

لذا سيكتب كتابه.. يحكي فيا كل مالم يحك من قبل.. يفضح المستور.. ويرفع البرقع عن وجه الحقيقة.. فيحررها ويطلقها طيراً.. يطوف فوق الرؤوس.. يرسم أفقاً جديداً.. أعلى وأكثر رحابة مما هو معروف وملموس. أو قد يجعلها سحابة بلا لون.. ولكن برائحة زكية.. يستنشقها أولئك الغافلون.. فتأخذ طريقها إلى الأدمغة.. وتشغل الخلايا النائمة.. ويكتشفون أن لهم حواساً قديمة ورثوها من الأجداد.. دون أن يعلموا أنهم يملكونها.. لأن الأجداد نفسهم لم يعلموا بها، لذا هي غير مستعملة.. غفلوا عنها منذ بدء التكوين.. وما زالوا!!

قرر بسرعة وبدا له كأنما عاش عمره يخطط... سينتقل للسكن في ذاك البيت في أعلى الجبل.. المنزوي كمعبد هندوسي.. المطل على البحر.. لا شيء غير البحر!! ينزع منه كل ما يربطه إلى هذا العالم بصلة.. لا تلفون ولا تلفزيون أو راديو ولا جريدة.. المفتاح يجعله بيد أخيه الأصغر.. الذي اختاره من بين أفراد أسرته الكبيرة، ليكون مسؤولاً عن تأمين مايلزم للاستمرار في الحياة.. لن يقابل أحداً.. وقبل أن يكتب كتابه الذي لم يكتبه أحداً من قبل.. لابد له من إعادة قراءة كل ما قرأ سابقاً.. كي لايفوته شيئاً من حكمة الكتاب.. من المقاصد والمعاني المختبئة خلف الألفاظ والمباني.. وسيقرأ كل مالم يستطع في السابق قراءته..

نفذ قراره.. ومرت السنون وهو في تلك الصومعة.. كان أخوه الصغير.. يتكفل بما أوكل إليه.. يملأ الثلاجة بالأطعمة والشراب ويرحل.. بالتزام تام وحرفي بكل التعليمات التي تلقاها من (الحكيم) كما طاب له أن يدعوه.

كان كل شيء يسير كما هو مخطط له .. لكن صعوبة برزت لم يكن قد حسب لها حساب.. ولم يعرها الاهتمام اللازم ولم يضع لها الحلول مسبقاً.. نداء الغريزة .. أو صراعه مع الآخر..!! الساكن فيه.. الذي لم يرتق إلى مستوى القضية!! وقادته غريزة حيوانية!!.

كان ذاك الصراع يؤرقه أحياناً.. ويمنعه عن متابعة رحلته الاستكشافية في مجاهل العقل. فعندما يتحرك الآخر.. قاطعاً عليه تأملاته.. جاعلاً إياه دائم الحركة.. بلا قدرة على الثبات. ويدخل معه في حوار.. يتحول أحياناً إلى صراخ وتبادل السباب.. كان الآخر يرفض الاقتناع بوجهة النظر القائلة أن عليه الاستكانة والصبر إلى أن تنتهي هذه المرحلة.. ويرد بوقاحة.. طز عليك وعلى أحلامك الدون كيشوتيه تلك.. لي حياتي ولك حياتك.. لكنك أناني .. تريد أن تحقق حلمك على أنقاضي.. لاشأن لي بما يشغلك ويؤرقك.. فأنا أيضاً لدي ما يشغلني ويؤرقني.. وصدقني.. هو مختلف تماماً عما تبحث عنه!. فأنت تشكو الفراغ وأنا أشكو الامتلاء.. أنت تريد لذة الأخذ وأنا أروم لذة العطاء!! لذا وكما وجدت الحل لبطنك الجشع.. الذي تملأه يومياً بالطيبات.. فيردها لك نتنة مقرفة!! جد حلاً لي!! .

كان أمام معضلة حقيقية، فهو لم يستبعد من حياته المرأة فقط، بل كل ما يتعلق بها، لكنه وهو الأريب.. مالبث أن وجد الحل.. فحين يحتدم النقاش ويصل مع الآخر إلى نقطة اللاعودة.. كان يقوم بخداعه.. فيخرج إلى الشرفة، قبل الغروب بقليل.. يجلس على الأريكة.. واضعاً كلتا يديه بين فخذيه.. ناظراً لقرص الشمس وهو يغازل صفحة المياه.. مقترباً منها رويداً رويداً.. وهي المقتولة بالرغبة.. يتلون خداها بلون وردي فاتح.. يميل إلى الاحمرار، كلما اقتربت لحظة العناق.. فتموج وتنفرج.. إلى أن يدخل قرص الشمس رحم المياه.. فتضم ساقيها وتبتلعه حتى ترتوي.. وتهدأ!! وخداها يتوهجان حمرة وينتهي المشهد الذي يراقبه.. بل يشترك به!! بإحساس عارم باللذة.. مستشعراً لزوجة الأسماك بين يديه!!!

بعد انتهاء تلك الطقوس التي كانت تتكرر كل مدة.. يهدأ الآخر.. ويكف عن إزعاجه لفترة.. لكن الحكيم يجلس منهكاً خائر القوى.. ويأخذ منه هذا الطقس، وقتاً، حتى تعود الأعصاب المشدودة إلى الارتخاء شيئاً فشيئاً.. ويعود قلبه إلى الخفقان بشكل طبيعي، وتسري في جسده برودة سحرية..

لكن هذه اللذة التي يحصل عليها كانت تنغص عليه عيشه.. فهو يعلم أنه وإن كان قد صور الأمر لنفسه أنه قد قام بخداع الآخر.. . إلا أنه في الحقيقة هزم أمامه.. رضخ له.. فغدا تابعاً بدل أن يكون متبوعاً، مما يشعره بالدونية والمهانة.. وبعقدة الذنب.
لكن الحكيم اكتشف أمرأ مهماً.. إذ أنه بعد ذلك بنحو ساعة.. يشعر بصفاء عقلي غير عادي، ويعود إلى إكمال عمله بهمة ونشاط كبيرين.. واكتشف بمرور السنين، أن أفضل إنجازاته وفتوحاته العقلية كانت تأتي بعد تلك الهزائم!!

عندما أنهى الحكيم كتابة، وضع الأوراق في حقيبته وقرر الخروج من صومعته، فقد حان وقت النشر، وتخيل كتابه في واجهات المكتبات الخاصة وعلى رفوف المكتبات العامة، في جميع أنحاء الوطن العربي..لا أحد يستطيع الاستغناء عنه، رآه محمولاً بأيدي أساتذة وطلبة الجامعات.. والجنود والنساء والمتسوقين والمرضى والمساجين والمسافرين، يتحينون لحظة فراغ لقراءته أو إعادة القراءة كلما واجهتهم مشكلة أو خطر لهم مسألة عويصة لم يجدوا لها حلاً.

حضر أخوه لاصطحابه في سيارته الخاصة.. وأول ما لفت انتباهه في الطريق وتعجب منه.. وجود صور زعماء يعدون لقمة عربية.. نفس الزعماء الذين كانوا منذ عشرات السنين.. ثم وقع بصره على مخيم اللاجئين الفلسطينيين، وشاهد شرطي السير يضع في جيبه ما امتدت به يد سائق سيارة!!.. عدا ذلك لم ير في الطريق شيئاً مألوفاً.. كل ما حوله بدا غريباً، كأنه ما كان هنا يوماً ما.. وصل إلى منزل العائلة.. أو حيث يفترض أن يكون.. شاهد البناء الكبير قد زال وحلت محله عمارة كبيرة.. كان لكل من أخوته وأخواته شقته الخاصة، وعجب حين علم أن بعضهم لم يلتق الآخر منذ أشهر..!! دخل شقة أخيه الصغير.. واطلع هناك على ثورة المعلوماتية وأهمها.. القنوات الفضائية العربية.. ذهل وتملكه غضب عارم لما شاهده وسمعه!!

قبل سنوات الصومعة تلك.. كان ترد بعض الأخبار عن لقاءات سرية واتصالات مشبوهة، فتهب الجماهير العربية للتظاهر والتنديد، لكن الشخص المقصود بالخبر حينها، كان ينفي ويكذّب الأخبار. فما الذي حدث حتى أصبح المخزي والسري بالأمس، علنياً اليوم، وأصبحت الخيانة والتأمر، وجهة نظر.

شاهد طائرة فخمة تهبط على قطعة من جسده.. ويخرج منها الذئب.. فيستقبلوه بالعناق، وشاهد رقصاً بالسيوف في مكان، وذهل حينما رأى "ليلى" وشقيقاتها وفي أيديهن الورود يتلقون قبلة الذئب!! الذي ما زال يمضغ لحم جدتهن.. وفي اليوم الثاني كانت الطائرات التي تحمل نفس العلم، تمزق أجساد أطفال ونساء "غزة" الرافضة للاغتصاب، ولم يصدق أذنيه عندما سمع الشقيق وابن العم (بشماتة) يحمل المسؤولية.. للضحية!! وبدا واضحاً أن المؤامرة لها أطراف إخطبوط ضخم، وفرك عينيه مصدوماً ،عندما شاهد في بعض أطراف الإخطبوط، قرآناً، مطبوعاً بماء الذهب.

كل شيء يوحي بأن كربلاء جديدة تتكرر في غزة، غزاه إحساس عارم بالغضب.. شعر أنه خدع وغدر به، بل وبجيله بالكامل.. أحس بالغثيان.. قام إلى أوراقه، ممزقاً إياها نتفاً.

سأله أخوه: ما الأمر ألم تجد ما تكتب عنه أيها الحكيم؟!!

أجابه .. بلى.. لكن لم أجد من كتبت لهم !!!!!!!!!

لذا قررت أن أكتب كتاباً آخر.. لكن .. للأطفال فقط.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى