الثلاثاء ١٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم أحمد الخميسي

المصريون وغـــــزة

بلور المصريون موقفهم مما يحدث في غزة بعشرات المظاهرات التي اخترقت الشوارع في القاهرة وكافة المحافظات بالرغم من تصدي النظام المصري البوليسي البشع لتلك المظاهرات بكل أدوات القمع من العصي وسيارات جنود الأمن إلي السجن، وبلورت النخب المصرية موقفها أيضا في اجتماعات حاشدة داخل نقاباتها. وقد جاء موقف المصريين ردا على تخاذل النظام المصري، وتواطوءه، وتكريسه للاحتلال الإسرائيلي حين اعترف بأن معبر رفح المصري يقع تحت سلطة الاحتلال وللاحتلال وحده حق التصرف فيه! أما وزير خارجيتنا أحمد أبو الغيط فقد صرح بأنه"حذر من الأخطار، فلم يستمع إليه أحد، ولا يلومن أحد إلا نفسه"!

وبذلك قصر أبو الغيط دور مصر إلي حدود"زرقاء اليمامة"التي يقتصر دورها على رؤية المخاطر بعيدا والتحذير منها! كأن الفلسطينيين مصابون بعمى ألوان – لا يرون المخاطر - ولا يلزمهم سوى من يحذرهم منها! ولذلك لم يكن مستغربا أن يصرح قادة إسرائيل بأن تصفية حماس ( اقرأها تصفية المقاومة ) مصلحة عربية! لأن المقاومة تحرج الأنظمة العربية، وتعمق الفجوة بينها وبين الجماهير بقدر ما تعرقل المقاومة مشروع التسوية السياسي المذل الذي يقوم على منح الفلسطينيين دولة كاريكاتورية ملحقة بإسرائيل ليس لها من علامات الاستقلال سوى العلم وتشريفة الحرس!

للأنظمة العربية مصلحة في إبادة المقاومة لأن إبادتها توفر لتلك الأنظمة إمكانية الاستمرار في خنوعها السياسي والاقتصادي بمعاهدات سلام مهينة أو من دون معاهدات. ثم ألقى النظام المصري الذنب على حماس فيما يجري، لأنها شقت الصف الفلسطيني، وكأن القصف الإسرائيلي البري والجوي والبحري لغزة كان بدافع الحرص على وحدة الصف الفلسطيني! ولكن لجلجة النظام المصري وتعثره وغمغماته لم تنطلي على المصريين الذين لمسوا من قبل كيف أرغمهم"السلام"على بيع البترول والغاز لإسرائيل بأسعار أرخص مما يباع به للمواطن المصري وكيف أرغمهم ذلك"السلام"

على إغلاق معبر رفح – المنفذ الوحيد – أمام أشلاء الأطفال والنساء والجرحى خوفا من تل أبيب. ولهذا تدفقت المظاهرات الشعبية في كل ناحية، ردا على المهانة، وبلورت مطالبها في أهمية التأييد السياسي للشعب الفلسطيني في غزة، أي تأييد حقه المشروع في مقاومة الاحتلال أولا وقبل كل شيء. وبلور المصريون مطالبهم في ضرورة وقف كل أشكال التطبيع الاقتصادي والسياسي مع إسرائيل، وطرد السفيرين من القاهرة وعمان، ووقف تصدير الغاز لإسرائيل وسحب مبادرة السلام العربية التي تكرس الاعتراف بالعدو الصهيوني وتتنازل عن حقوق الشعب الفلسطيني كاملة، وفتح معبر رفح بصورة دائم. ثم بلور المصريون مطالبهم بالإصرار على تقديم الدعم بكل أشكاله للمقاومة في غزة.

إن حجم الغضب الذي يشعر به الشارع المصري يفوق كل تصور، وينسف وهم السلام الذي يتم الترويج له، إذ تثبت الوقائع للشارع المصري كل يوم أن إسرائيل كيان عدواني يمد ذراعه ليضرب القاهرة ودمشق ولبنان وفلسطين والأردن ويتدخل في جنوب السودان وإيران ويمد خدماته كقاعدة عسكرية حتى أوسيتيا الجنوبية! وتثبت محصلة"سلام"الثلاثين عاما الماضية أن أحوال المصريين قد تدهورت على كل الأصعدة بسبب الخضوع لملحقات معاهدة السلام الاقتصادية وما تتضمنه من انصياع لشروط صندوق النقد والبنك الدولي التي دمرت الاقتصاد المصري ووضعت المواطن المصري في قبضة الجوع والفقر. كما يدرك الشارع المصري تلك الصلة الوثيقة بين وجود الكيان الصهيوني في فلسطين مدججا حتى بالأسلحة النووية وبين تعطيل أي تقدم اجتماعي واقتصادي وسياسي في المنطقة وخاصة في مصر.

عشرة أيام كاملة حتى الآن، قامت إسرائيل خلالها بقصف غزة جوا وبرا وبحرا بكل أنواع السلاح، وعشرة أيام كاملة وغزة تقف وحدها عارية في الجحيم، تستمطر النجدة، فلا يصلها سوى هرولة دبلوماسية وضوضاء ودعوات ومشروعات مؤجلة ولقاءات متباعدة وإدانة لفظية ومزايدات لغوية، تمهل إسرائيل المزيد من الوقت لتنجز المجزرة وتصل بمهمتها إلي نهايتها. ومع ذلك فإن الأيام العشرة التي هزت العالم قد غسلت ضمائر الملايين في كل أنحاء الأرض، ورفعت عاليا كشمعة على سطح الظلمة معنى الدفاع المستميت عن الوطن بالأظافر والقبضات، وأكدت أن التاريخ لا يبيح للشعوب أحيانا سوى بطولة واحدة، هي الموت دفاعا عن بلادها.

وكما حدث خلال الحرب الاسرائيلية على جنوب لبنان عام 2006 وثبت أقلام كثيرة كأنما بدافع الحرص على الشعب الفلسطيني تطعن نضاله، وتشكك في أهميته، وجدواه. ولا شك أن"الانتصار"، و"الهزيمة"أمر نسبي. لقد صمدت غزة وحدها عشرة أيام كاملة دون أن تحقق إسرائيل أهدافها من المجزرة. عشرة أيام كاملة، بينما لم تكن إسرائيل بحاجة إلا لستة أيام لتلحق الهزيمة بجيوش ثلاث دول عربية مجتمعة! وصمدت غزة فاستثارت وحشدت النفوس في كل رقعة في العالم بحقيقة أن إسرائيل – القاعدة العسكرية للاستعمار الأمريكي - هي المعتدي وليست الضحية. وصمدت غزة فرسخت في الوعي حقيقة أن الكفاح الشعبي المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير الوطن في فلسطين ولبنان والعراق وغيرها. وصمدت فكسبت الجماهير العربية وألبتها على الأنظمة العربية الرسمية الشريكة في المشروع الاستعماري بدورها كوكيل يقنع بفتات الثروة والاحترام.

الانتصار أمر نسبي، والهزيمة أيضا، ولا يتصور أحد أن الشعب الفلسطيني سيخرج من هذه المجزرة النازية وقد حطم الجيش الإسرائيلي، لكن انتصار غزة سيتمثل في صمودها في رفض شروط التسوية واستمرار تشبثها بعد ذلك الجحيم متشبثة بحقها في مقاومة الاحتلال.

هل كان أمام الفلسطينيين بديل آخر؟ سوى الموت بصمت تحت سماء"التهدئة"؟ والموت في صمت بالحصار والتجويع وإغلاق المعابر وقطع الكهرباء وانعدام كل وسائل الحياة؟ هل قدم أحد للفلسطينيين بديلا آخر للموت غير الموت؟

إن الأقلام التي تدافعت للطعن في المقاومة تقول باللغة العربية ما قالته إسرائيل بالعبرية، وهو أن الصراع بين إسرائيل وحماس، وأن حماس هي المسئولة، فهل كانت مذابح جنين وصابرا وشاتيلا ودير ياسين وغيرها تستهدف"حماس"أيضا؟.
وهل أن ما يجري هو حقا حملة لتصفية حماس أم خطوة في المخطط الصهيوني الأمريكي لتصفية مبدأ مقاومة الاحتلال؟ وترسيخ واقع الاستسلام الذي بادرت إليه مصر والأردن؟. وفي ذلك المخطط سيان لدي إسرائيل من الذي يعبر عن المقاومة: حماس أم الجبهة الشعبية، اليساريون أم الاسلاميون. وفي ذلك السياق يعلن البعض مخاوفه من"الإمارة الدينية"التي تعتزم حماس إقامتها على حدود مصر، والأولى بمن يتخوف من"إمارة إسلامية"أن يتخوف من جيرة دولة دينية عنصرية مدججة بالأسلحة النووية! ثم يخلط البعض الأوراق متحدثا عن أن حماس شقت الصف الفلسطيني، لكن ألم تتسلم حماس الحكم بعد انتخابات ديمقراطية شهد الجميع بنزاهتها؟ فإن كان هناك خلاف فلسطيني – فلسطيني، فتلك مهمة داخلية تنهض بحلها القوى الفلسطينية، ولايشكل ذلك الخلاف ذريعة للتقاعس عن تقديم الدعم أبدا.

وأخيرا يلجأ البعض للكلام عن"الطابع الديني"لحماس، وكأنه من الممنوع على قوى دينية أن تكافح الاستعمار، أو أن على تلك القوى أن تنتظر ولا تبادر إلي المقاومة حتى تنضج القوى الوطنية الأخرى وتحمل السلاح؟! يستكثر البعض على تنظيم ديني مثل حماس أن يكافح من أجل حرية بلاده، ويتناسون التاريخ الطويل للمقاومة المصرية التي خرجت مرارا من الأزهر الشريف لتتصدى للاستعمار.

لقد صمدت المقاومة في غزة وحدها تماما، كما صمدت المقاومة في لبنان، والمقاومة في العراق، وهذا الصمود هو انتصار للشعب الفلسطيني بأكمله، ولقضية التحرر من الاستعمار التي تشكل إسرائيل قاعدته العسكرية المتقدمة في المنطقة. لقد شاهد الشعب المصري الحقيقة من جديد، على ضوء الجحيم المشتعل في غزة، وشاهدتها معه ملايين الضمائر في العالم. وسوف يتوقف التاريخ طويلا عند مغزى ذلك الصمود وأثره المادي والاقتصادي والاجتماعي والفكري.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى