السبت ١٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩

محاكمة أب

بقلم: محمد متبولى

قارب على السبعين، يجلس فى غرفته المغلقة يقرأ الصحف كالمعتاد، تعلو الاصوات فى الخارج، دائما ما كانت تعلو ودائما ما كان كافيا أن تشعر بمقبض باب الغرفة يتحرك أو نظرة عابرة منه حتى تبدأ فى الهدوء الى ان تتلاشى تماما كأنها لم تكن، الا ان ذلك لن يجدى الان فتلك الاصوات هى التى ستحدد مصيره فهو الان يجلس كالمتهم الذى ينتظر أن يفرغ القضاة من المداولة ليصدروا عليه الحكم، تحتد المناقشات بينهم، تترامى الى اسماعه بعض الكلمات (انه لا يمكنه التحكم فى مصائرنا ابد الدهر)، (عليه ان يعلم اننا لم نعد فى حاجة لنصائحه)، (لم يعد قادرا على ادارة شؤونه وعليه ترك الامر لنا).

يناقشون، النقاش تلك الكلمة التى لم يعرفوها من قبل، ينطق بالكلمة فتصبح امرا مطاعا لا يمكن رده، يعلو صوتها (هو السبب عندما اصر على رفضه وابلانى بمن جعل حياتى جحيم)، من منا لا يخطئ ربما اكون اسأت التقدير يوما ما ولكن هل كانوا هم قادرين على اتخاذ القرار، ماذا لو كنت وافقت كما ارادت هل كانت ستضمن السعادة، لا أظن، انهم لم يتذكروا الا الاساءات ولكنهم لم يسألوا لماذا، نعم انه المزيج الملعون الذى سيطر على طيلة تلك السنين، حالة شبه مرضية من حب بلا حدود وخوف مفرط، كنت اتمنى ان يكونوا افضل اناس على وجه الارض، كنت ارى ان ما افعله هو الصواب ولا شئ سواه، يعلو صوته (لن أنسى له ما فعله، كان يضربنى بقسوة كى استرجع دروسى، وعند اللحظة الفاصلة ألقى بأحلامى عرض الحائط و أصر على ان ادرس ما يريد لا ما اريد انا)، يالها من قلوب سوداء لم يعلق فى ذاكرتها سوى المساوئ وماذا عن تلك الليالى الطوال ألم يتذكرها احد منهم، (لقد اصبح اصدقائى اثرياء أما انا فمازلت كما كنت، هو من منعنى من مشاركتهم لأظل بقية عمرى أنتظر ترقية أو علاوة تلك الوظيفة التى اختارها لى).

حولت حياتهم الى جحيم، ولكن لماذا لم يذكروا الجحيم الذى سببوه لى، ايام السهر والأرق مع بكاء اى منهم و هم رضع، لحظات الرعب والقلق عندما ترتفع درجة حرارة احدهم او يمرض، تلك الايام التى يكاد قلبى فيها ينخلع بانتظار النتيجة الدراسية لاحدهم، رؤيتى لزملائى وهم فى قمة وجاهتهم وحرمانى لنفسى حتى من قميص جديد لأتمكن من الايفاء بمتطلباتهم، ربما كنت لهم الجحيم لكنهم كانوا لى المأساة، والان بعد ان انقلبت الاية واصبحت انا من يحتاج اليهم لا هم، يحاكموننى، ليحكموا بما يشاؤون فلم اعد ابالى.

ترتفع الاصوات من جديد، (ربما يكون ضحى من أجلنا لكنها تضحيات لم تكن فى موضعها الصحيح)، (كانت تضحياته علينا لا لنا)، (انه لم يعد قادرا على ادارة شؤونه ولا يمكننا رعايته)، (سنخيره بين ان يوكل الينا ادارة شؤونه و اختيار احد دور المسنين للاقامة بها او نحجر عليه و نتولى نحن الامر بأنفسنا)، ثم تعود الاصوات للهدوء.

ياله من حكم قاس، انه اقسى من كل ما فعلت معهم فاما ان اتنازل طواعية عن ما املك، واقضى باقى حياتى فى منفى اختياريا، أو اجبر على ذلك وفى النهاية المحصلة واحده، ياله من عالم و يالها من حياة.

تقترب خطواتهم من باب الغرفة، ينظر نحو المقبض الذى يتحرك ببطأ، انها لحظة النطق بالحكم، يفتح الباب ويراهم امامه متراصين، تتخبط الكلمات على شفتى كبيرهم، ينطق الكلمة بصعوبة ولا يستطيع ان يكمل الجملة (أبى......) ثم يندفعون جميعا نحوه ويرتمون فى احضانه.

بقلم: محمد متبولى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى