الاثنين ٢٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم عبد الله الحميدي

الكلام والكتابة بين اللغة والثقافة

هذه المقالة أعددتها ونشرتها باللغة الإنجليزية قبل ستة أعوام. بعنوان اللغات والثقافات. مستندا على العديد من المقالات بهذا الخصوص من الموسوعة البريطانية لعام 2003. لا زلت أتذكر سبب كتابتي للمقالة. وجدت مقالة جيدة تربط بين اللغة والثقافة والأنثروبولجيا. فظننت أن المقالة تعبر عن لغة وثقافة الإنسان القديم. لما قرأتها عرفت أنها تعبر عن الإنسان عموما لا القديم ولا الجديد. وعرفت أن فهمي للأنثروبولجيا ناقص. لأنه كان مقصورا على أن هذا العلم يبحث فى أصل الإنسان من خلال رفاته وعظامه. بتعبير آخر ظننته مثل علم الآثار الحديث. لكن عرفت أنه أكبر وأهم من ذلك فهو علم إجتماعي يُعني بالإنسان كعضو فى مجتمع، مدني بطبعه بتعبير أرسطو وإبن خلدون. هذا العلم إجتماعي مثل الإقتصاد والإدارة والقانون وليس علم علمي فقط مثل الكيمياء والفيزياء والمحاسبة. بداخله علمان فرعيان هما الأنثروبولجيا الثقافية المختلف عن الأنثروبولجيا الفيزيائية. وبإختصار، الإثنان يكونان هذا العلم الذى تبلور فى منتصف القرن التاسع عشر. كلمة الثقافة فى هذه المقالة المقصود بها معناها عند الأنثربولوجين. وعلم الأنثروبولوجيا هو علم من العلوم الإجتماعية هدفه ليس فقط دراسة نشأة الإنسان. بل أيضا العلاقات الإجتماعية مثل عادات الإنسان. الأنثروبولجيا الثقافية تشبه الجغرافيا من حيث كون المكان والبيئة عامل من عوامل التأثير فى فعل وسلوك الإنسان. لرسم خط منطقي تحليلي للثقافة الإنسانية عبر الزمن والمكان. وأترجم هنا تلك المقالة بإختصار مع بعض التصرف.

لنبدأ التفكير فى اللغة، أي لغة كانت من لغات البشر. ما علاقتها بالثقافة؟ يفيدنا عالم الأنثروبولوجيا الإنجليزي إدوارد تايلور بأن المساحة الأغلب من حياة الإنسان وسلوكه ثقافية. وربما أكثر ما فى هذه المساحة أهمية هو اللغة. فهي أكثر من كونها فقط تعبيراً برانياً عن مكنونات النفس. مثلا، كون الإنسان يشرب أو يأكل ليس من الثقافة فى شئ بل هو حاجة بيولوجية ضرورية للحياة والعيش. لكن كون الإنسان يأكل أو يمتنع عن أكل أشياء معينة فى أوقات معينة فى أماكن معينة بطريقة معينة هذا من الثقافة. ومن هنا نفهم أننا نتشرب الثقافة مع اللغة منذ الصغر. كما يمتص الرضيع حليب أمه. وأن الأم مدرسة بتعبير أحمد شوقي. وكما نعرف أنه يستحيل الأكل والكلام في نفس الوقت، نعرف ونفهم كم يسئ السفيه ليس لنفسه فقط بل لأمه وأمته! وهذه الإساءة تصل الى مدى ما يصل إليه قوله وكتابته. فينشر بنفسه سقوطه.

الإنسان الطبيعي صاحب حالات. الغضب أحدها. ولأنه حالة شاذة أو وضع غير طبيعي جربناه كلنا، لا يُلام الإنسان عليه من ناحية ما يقول. و يلام على قلة ضبط نفسه. بتعبير آخر يُلام على حمقته مشابها حالة السكران لا يلام فى قوله ولا يعذر لشربه. السفه حالة ثالثة لكنها مستمرة (صفة). فإن كان التلفظ بدون تهذيب وفيه خروج عن الأدب والحشمة والحياء من غير داع مؤقت من مثل سكر مثمل أو غضب معمي، فهذا هو السفه والسفاهة. وبتعبير حميد طولست: (بقدر ما أشدت كغيري، في لحظة عاطفية متشنجة هوجاء، بحادثة حذاء عادي استعمله منتظر الزيدي في رشقة فريدة، كانت اختصاراً مبدعاً اختزل ببراعة كل ما استحقه بوش وإدارته وسياساته. بقدر ما تألمت حسرة على هذه الأمة التي صار فيها الحذاء يرفع فوق الرؤوس، ويتحوّل منتعله إلى مهدي منتظر على الطريقة الشيعية، و‬يكشف عن حالة عصاب جماعي‮ ‬وعن جرح نرجسي‮ ‬مهزوم ومتورم بداخلنا، وما زاد تلك الحسرة ضراوة، تأييد المثقفين ومن يحسبون أنفسهم مثقفين والمبشرين وأصحاب العمائم لهذه العقلية..فلو كانت الأمة التي صدر من أحد صحفييها ذاك التصرف أو غيره مهما كان..أمة منتصرة وذات سيادة وكرامة ولا تشعر بالنقص والغبن والضعف إزاء الآخرين - والغرب على الخصوص- لجاءت ردات الفعل منها ساخرة، وأخذت الحادثة من باب التسالي‮ والتنكيت كما فعل بوش نفسه -‬على الطريقة الغربية والأمريكية- والذي كان متسقاً مع ثقافته ومنطق مجتمعه، حيث صرح اثر الواقعة مباشرة، بأن الذي لفت نظره مقاس الحذاء. ولعلها ’’براغماتية’’ الغرب التي تجعله يصل إلى أهدافه دون الانجرار وراء الانفعالات ومعارك جانبية. والتي تصرف عن الهدف. هذا هو الفرق بيننا وبينهم؛ هم يخططون وينفذون ليضربوننا بألف " حذاء" كل يوم عبر سياسات عملية وخطوات غير معلنة.. بل ويستثمرون كل الأحداث اقتصاديا، كما فعلت العديد من الشركات الإعلامية الأوروبية والأمريكية، التي تسابقت إلى تحويل "مشهد رشقة الحذاء" إلى لعب إلكترونية). إن الضارب بالحذاء أو كلمة السوء أساء لنفسه وأهانها قبل إهانته (كما يظن) للآخر. وهو ليس أحسن حالا مِن مَن يبوس جزمة الطاغية فعلا أو مجازا. وإن دققت تجد أن الإثنين لهما نفس الشخصية و النفسية والعقلية.

الحوار بواسطة اللغة المهذبة هو أسلوب المتحضر. الحوار بلغة أقل تهذيبا هو أسلوب الأقل حضارة. الحوار بلغة غير مهذبة مثل لغة الحذاء هو أسلوب همج. وبين الأول والثاني ملايين من البشر منهم كاتب هذه المقالة. وبين الأول (المتحضر) والثالث (الهمجي) مسافة سنين ضوئية. وكل واحد منا يعرف نفسه أكثر من الآخرين. ومن صفات المتحضر العدل من نفسه وعليها ومن صفات الهمجي الظلم والجهل لنفسه وعليها وعلى الآخرين. لأن كل إناء بما فيه ينضح. لذلك من يفهم هذه المقالة جيدا لن يُخرج الكلمة إلا كما يٌخرج البخيل الدينار. فإذا الكلام من فضة فالسكوت من ذهب. فما الذي تفكر فيه من وصف للسكوت إن الكلام من خردة؟ المتكلم والكاتب لا بد أن يكون فى حالين، يستحيل أن يكون فى غيرهما. أن يرتفع ويرتقي فى عين وفهم المستمع القارئ أو يسقط. ومهما حاول الساقط أن يرتقي بالصدق أو يتشريط بالكذب فهو فى نهاية الأمر يزيد من سقوطه. وخير له أن يصمت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى