الاثنين ٢٦ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩

فى قلب المدعكة

بقلم: محمد مصطفى درويش

أريد فقط أن أٌمسك بطرف ثوب حقيقة صغيرة تختفى بين الأشياء.أرى الكون كبير، أكبر من عقلى وهذا يقلقنى قليلاً. أنظر من خلال نظارتى إلى ثقب فى الحائط. ثقب غريب يمتص أفكارى المتطايرة ذراتها داخل جمجمتى.

سيدتى الجميلة! أين أنت؟ أأنت حقاً موجودة؟ أسأل عنك الأن وإن لم أجدك أذهب ولا أعود أبداً. لا أدرى إن كان ذلك يهمك فى شىء؟ أعرف أنك لا تبالين وتعرفين أنى كذلك لا أبالى بك لدرجة ال "لامبالاة". أأنت موجودة حقاً؟ أتريدين أن تلعبى معى لعبة فأر وأسد فى غابة هندية؟ أتريدين منى أن أتعلم شىء فى هذه الدنيا يدلنى عليك؟ أأنت موجودة؟ لماذا لا تجيبين؟ أترسلين الإشارات؟ وتحبين الخطابات؟ سأكتب لك واحد، أحكى فيه عن أشيائى لعلك ترضين فألمس شعرك وأحل بيدى ضفائرك ثم تأتى الحقيقة البسيطة الجميلة عديمة الوجود.

أكتب إنتظاراً للموت فى أيام الشتاء ولكنى وحيداً ولا أرى لى وجة أوجسد. تعبت وضلت روحى وأصبحت أطلال أهرام تنتظر خروج الكوكب عن مداره. الدنيا، العالم، الوجود، الأشياء. الحلم والعلم. الهاندى وريحة البصارة فى الحارة المحروسة والحواديت. أريد أن أكتب لأنى أريد أن أعرف مدى جودة خطى بعد أن تجاوزت الثلاثين عاماً على هذا الكوكب الصغير. أنتظر على محطة الأوتوبيس أول سيدة هبطت على سطح القمر لأسألها عن الطقس هناك. أيبدوذلك غريباً؟ إنتظر! لا تنهى قرائتك لكلماتى! أشعر أنى أفقدك. ما زال لدى كلام كثير لكنى لا أعرف بالتحديد من أين أبدأ؟ البداية دائماً صعبة، بل تبدوأحياناً مستحيلة. حسناً، سأبدأ الأن. سأقول مثلاً أنى قد أضعت اليوم فى فعل أشياء سخيفة بلا أهمية. أشياء أفعلها كل يوم ومع ذلك أعتقد أنى فى يوم من الأيام سأبدأ حياة جديدة أكون فيها إنسان آخر يعرف ما يريد ويفعل كل ما يستطيعه. لا أدرى لماذا تنتابنى حالات من عدم المبالاة بالحياة وأرى الموت آت لا محالة. فلماذا التعب والهم والجرى وراء اللقمة فى هذه "المدعكة".

أفعل كل يوم أفعال كل يوم. الماء ينساب على جسدى كل صباح. إمتلئت معدتى عدة مرات وأردد نفس العبارات. أنظر إلى الآخرين ولا أعرف شىء على وجه التحديد. أتريدنى أن أزيد فى الكلام؟ عليك أن ترجع إلى الأشياء التى تعودت أن تفعلها ولا يعلمها غيرك! أتريد أن تعرف عما أتحدث؟ أنظر إلى نفسك فى المرآة وإنطق بكل أسرارك مرة واحدة وبصوت لا يسمعه أحد إلا الجيران! إفضح نفسك! وإن خفت فاغلق عينيك وركز فى بقعة الضوء الوحيدة وسط الظلام. تمسك بها وعلق عليها آمالك. أنظر جيداً ترى أشكالاً تنقلب وتعتدل وتتراقص حول مركز كفعل نجوم المجرة حول ثقب أسود. هى أشكالٌ لا تنتمى إلى عالم الخارج. هى أشيائى، أراها حتى وأنا مغلق العينين. كم هوجميل أن يعيش بداخلى عالماً لا يتصل بأحد غيرى. ومن أدعوه "غيرى" يعيش هوالآخر بدرجة أوبأخرى فى عالمه الخاص. عالم له وحده. عالم لا يتصل بأحد إلا صاحبه. عالمى أنا: الإنسان، على الكوكب الجميل الأزرق الذى يوماً ما سيفنى وأهله يعلمون ذلك جيداً ومن مصادر موثوق بها لدرجة الغرابة.

الموت. الموت. لن أسأل عنه! لا يحب أن يتحدث عنه أحد. يبدولى ذلك. أعتقد أن الموت لونه برتقالى غامق ويرتدى حذاء أسود لامع لا يتسخ أبداً. أتحدث إلى إمرأة ولا أعرف لماذا يعود بى الزمن إلى عصر "ما قبل التاريخ". أرتدى ثياباً لكنى عارى. أقترب من لحظة الإنفجار الأول للكون عندما كان "الشيء" متحداً مع "الاشىء". لقد عشت هذه اللحظة. أعلم أن ذراتى كانت هناك. أعلم أنى كنت هناك، حيث لقنت كل الأسرار. أسرار الوجود التى أبحث عنها. لقد كنت هناك. تحايل على لص وسرق منى ساعتى وأنا طفل صغير. باع لى الوهم وعلًمى أن الأشياء تتساوى إذا ما آمنت بالقدر.

أتريد أن تفهمنى؟ حسنا. أنظر إلى صورتك فى المرآة ولكن هذه المرة بعينين مفتوحتين على الحقيقة. إخلع ملابسك وضع حلةً على رأسك وخشبة فى يدك وتخيل نفسك فى الغابة مع أبيك فى زمن "ما بعد الديناصورات". إذهب وساعد أباك ولا تنسى الخشبة، فالغابة ليست آمنة. وإن روحت فى المساء بصيد أوفاكهة ستفرح أمك ويفتخر إخوتك ويشبعون. ولا تٌعر إنتباه إلى "بوجوبوجو" إبن الجيران. إنه يحسدك لتهافت إخوته البنات عليك بعد أن إخترعت لعبة "الأحجار الخمسة". إنه لم ينس بعد أن أجزاء منك قد تكاملت مع أجزاء أٌخته الوسطى. أما زلت تتذكر أحاسيس تلك اللحظة؟ عندما تنغمس أجزاءك فى أجزاء الآخرين الدافئة. رغبة دائمة لا تنتهى إلا بالموت. أخ! آسف للإزعاج! لقد عدت إلى المركز ثانية. المركز ذوالثقب الأسود فى الحائط.

تستطيع الآن أن تغلق عينك لترى بقعة الضوء فى الظلام. لترى ما لا يراه غيرك. سأتركك الآن! يجب على أن أذهب لأتم إحدى دورات الحياة على الكوكب الصغير الوحيد الكامن فى ركن آمن من المجرة وينتظر مصيره بعد ملايين السنين عندما تحتضن المجرة أخت لها بعد فراق. ولا عيب فى تجمع الأخوات إلا فناء كوكبى الأزرق الجميل الوادع الحاضن للرؤوس الإنسانية والحيوانية والنووية.

أنظر حولى ولا أرى سوى بشر حائر بين حقيقة وخيال. تضيق الدنيا وتتسع. تنشرح الصدور وتنقبض بفعل أقدار وإحتمالات لا تنتهى. أنتظر قدوم شىء ما، حدث ما، كيان ما، إنسان ما. أنا فقط أنتظر ولدرء الملل إشتريت لنفسى ألعاب صغيرة تلهوبها حتى ينقضى الوقت الذى يجب عليها أن تقضيه مستيقظة فى عالم الإحتمالات اللانهائية. أتريد أن ألخص لك الحدوتة؟ أنظر إلى الصفحات البيضاء داخل الكتاب! إحرص عليها بيضاء وسمها "لاشىء" أما السوداء فهى "الشىء" كله. أوالعكس بالعكس فما هى إلا رموز وأسماء. أتريد المزيد؟ أرسلونى أشترى خبزاً وكان "الفرن" مزدحماً. الوقت مساء والصيف –سيد الموقف- يلهب الأجساد حتى من دون تلامس. "الفرن" مزدحم وكتلة البشر تتركز على منصة البيع الخشبية. أسلمت نفسى لقوانين الكتلة البشرية الفوضوية المنتظمة غايتها الأسمى هى الإقتراب من مجال رؤية بائع الخبز ومد اليد إليه بالنقود علًّه يأخذها فيقترب الرحيل وتأتى اللحظة عندما تدفعنى فيها هذه "المدعكة" إلى الخارج دفعة والدة لوليد. إحساس بالراحة ينتاب جسدى ونفسى فى تلك اللحظة التى تلفظنى فيها الكتلة البشرية المكونة "للمدعكة" وهوما يعتبر فى غاية السهولة حيث أن هذه "المدعكة البشرية" تضغط دائماً وبقوة فى إتجاه الداخل حيث "بائع العيش" فهوغايتها والخارج منها دائماً محسود خاصاً ممن قد قرر لتوه الإندماج فى "المدعكة".

أعرف أن "قلب المدعكة" ملتهب. لم أستغرق وقتاً طويلاً حتى وصلت إلى حافته المتوهجة. هناك يتمتع الكبار بميزة الثبات وكنا نحن الصغار نستعيض عن ذلك بقدرتنا على المناورة والتى كانت كثيراً ما تنتهى بزغدة من هنا أودفعة من هناك. كنت فى ذلك الوقت صغيراً لكنى لم أكن طفلاً فقد ودعت الطفولة لتوى وبدأت عامى الأول الذى فيه كانت تبتل ملابسى بقطرات سائل لزج تخرج من ثقب فى جسدى على دفعات سريعة متتابعة فى ليل مظلم وحرارة ساخنة مكتومة. ثم يأتى الصباح وقد إلتصقت ملابسى–بفعل السائل اللزج– فى عين الكائن الذى ينتمى إليًّ والذى إكتشفته مجدداً وبقدرات أكبر. لأول مرة أدرك أن الأشياء قد تتحول فجأة وتؤدى وظائف أخرى جديدة مسببةً أحاسيس مرغوبة ولذة. لم أكن إذن طفل صغير. الحرارة تزداد وأنا فى طريقى إلى قلب "قلب المدعكة". الأجساد ملتهبة وتصدر منها أصوات هوخليط من "بخمسين قرش"، "والنبى مشينا"، إوعى يالاا"، "حاسب رجلى"، "يا عم فتّح"، "دا دورى"، "أنا مستنى بقية العيش"، "أنا واقف بقالى ساعة". ومن وقت إلى آخر يصرخ البائع صرخةً معلناً نفاذ صبره. عندها تتجمد كتل اللحم البشرى المكونة "للمدعكة" ساكنة. ثانية، إثنتان أوحتى خمسة. بعدها تبدأ العود إلى سيرتها الأولى ببطءٍ سريعٍ صامت.

وبينما أنا مستغرق فى البحث عن ثغرة مناسبة أبدأ من عندها السباحة فى بحر عظام ولحم وجلد وعرق إحتككت بجسد يقف ساكناً فى مكان مضطرب لا يناسبه سكون. كان ملمسها لذيذ! كانت ترتدى جلباب صنعت من قماش خفيف يناسب صيف مدينةٍ حارةٍ قاهرةٍ وملتهبة. توقفتٌ لحظة، فقط لحظة قررت بعدها أن ألهوقليلاً فى "المدعكة" التى أعرف قوانينها معرفة "أينشتين" لقوانين "المدعكة الكونية" وأخضعت جسدى لقوى الجاذبية. فى البداية سكنت فى مكانى وعدت إلى لحظة الإحتكاك الأولى ببطءٍ وحذر ثم تأخرت قليلاً وإتخذت لى مكاناً خلف المجرة. ألصقت صدرى بظهرها كبداية. أشعر بالراحة والأجساد من حولى تغطينى وتخفينى عن عيون المارة فى الطريق، أسمع ضجيجهم إذا ما أدرت رأسى ومددتها إلي الخلف مشرئباً متصنتاً. لعبة كنت ألهوبها إذا ما أحل بى الملل وداهمتى اللاجدوى المصاحبة لليأس وطول الإنتظار فى "المدعكة". كانت تنتابنى هذه الأحاسيس كثيراً وأنا ما زلت صغير وحيداً بلا خبرة فى "قلب المدعكة" أما الآن فقد وجدت لعبة أكثر إمتاع وحرمة. علمونى ذلك. تعلمت ذلك.

أشم رائحة شعرها فى لحظة الصراخ التى تتبع قدوم دفعة العيش الساخن من داخل الفرن إلى منصة البيع. لحظة مهمة ينهى فيها البعض المهمة والأكثرية يترقبون. تراخى جسدى وإستسلم لقوانين جذب مصدرها ثقب أسود فى جسد أبيض. تراخى لأن الدم فيه قد تكدس فى عضومنه جديد هومزيج من دم ولحم طرى ولزوجة وليل صيف خانق فى مدينة شرقية. لمستها لمسة! أشعرتها بما أنا فيه. ساد هدوء وسلام. لم تضطرب أوتعترض. لم تخلع "شبشباً" بل لم تلتفت. إطمأنت نفسى وقررت الإستمرار فى اللعب فأدرت رأسى يميناً وشمالاً محدداً مكانى فى "المدعكة" وموجهاً كتلة الجسد منى بإتجاه "قلب المدعكة" المزدحم الآمن دافعاً أمامى كتلتها وعدت بالزمن إلى ما قبل الإنفجار الأعظم بعد أن هزمته فى سباق كنت فيه أسرع من الضوء بعشر ثانية.

الآن أدرك أنها قد أصبحت لى. لن أضيع الفرصة. إنها تستمتع بى وباللعب معى. وعندما تأكدت من ذلك إلتهبت قطعة اللحم منى بعد إندفاع الدم الساخن فيها بشدة وزادت حرارتها ومعها حرارة جسدى حتى أن إلكتروناته أخذت تتدافع مفارقة مجاله متساقطة على الأرض. إنى ألتصق بها. كم هى دافئة! ودفئها مختلف. وكم هوجميل الإقتراب من مصدر الدفىء الأول. إننا ملتصقان. أشعر بها وأعلم أنها تشعر بى. أدفع جسدى ببطء ورقة إلى الأمام ورأسى مرفوعة ونظرى على البائع المقدس ماداً يدى عالياً عن آخرها بوريقات النقود فى إتجاهه وفى "قلب مدعكة الأجساد ". وعلى الرغم من الإزدحام وتلاصق اللحم باللحم حافظت على هدوء جسدى وجعلته فى حالة إرخاء تتيح له التحرك بإنسيابية داخل تلك الدفعات الأشبه بالأمواج والتى تأتى من "قلب المدعكة" صاهرة الأجساد وأنا خلف المجرة أداعب ثقبها الأسود. كنت أترقب حدوث هذه الأمواج من وقت إلى الآخر. وكنت أركز بصرى على "قلب المدعكة" حتى إذا ما إستشعرت قدوم أحدها، والتى غالباً ما تحدث بعدما يحصل البعض على الخبز فيبدأون السعى للخروج من المعمعة محدثين نوعاً من الإرتخاء البسيط فى المدعكة حيث تفقد بعضاً من أجزائها كفقدان النار للحرارة. لكنها ما تكاد أن تعود وتنغلق على نفسها. وبسرعة تعود أجزائها للإلتحام ببعضها البعض بعد أن إحتلت أجساد جديدة مكان الصدارة أمام بائع الخبز. تآتى الموجة من الداخل متجهة إلى جسدينا الملتصقين فتزيدنا إلتصاقاً. كنت أستمتع بهذه الموجة لأنها كانت تحركها أمامى فأزداد ألتصاقاً وإشتعالاً بقلب الحقيقة.

وفكرت من أنا؟ وماذا أريد؟ لم أعرف الأولى والثانية غريزة تمارس بلا تبرير. وظللنا نلعب وقت طويل. أدركت ذلك عندما إنتشر الفراغ بين كتل اللحم المكونة "للمدعكة" وصار الإحتكاك فعل مفضوح خطر. كنا سعداء بلعبتنا ونريد الأستمرار. لكنا لم نعرف كيف وأين؟ أتى دورها وبعدها بالطبع كنت أنا. ومشت بخطاً هادئة متأنية وأنا خلفها ممسكاً شنطة العيش بيد والأخرى فى جيبى قابضة على سيخ لحم مشوى ساخن. لم نتبادل كلمة ولكنا متواصلان. تتبعت خطاها وكانت تعرف ذلك وتريده. تأكدت من ذلك عندما إنعطفت فجأة ودخلت حارة مظلمة وهى شاخصة إليًَ. فى هذه اللحظة سمعت صوت يشبه الصرخة لإمرأة آتية من الإتجاه المقابل. صرخت فى صغيرتها التى تأخرت فى إحضار "العيش". وبلا تردد إستمررت فى السير إلى داخل الحارة وأسمع من ورائى أنين الصغيرة تحت وطأة قبضة أمها والتى إنهالت عليها بالأسئلة فاقدة الردود. أكملت الطريق فى "الحارة السد" إلى آخره حيث بيت صغير نصف مظلم و"بير سلم". هل كانت تقصد هذا المكان؟ هل أرادتنى لهذه الدرجة؟

بقلم: محمد مصطفى درويش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى