الجمعة ٦ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
محمود أمين العالم
بقلم صلاح السروي

النضال على كل الجبهات

كان المفكر والمناضل الكبير محمود أمين العالم أكثر منا شبابا، نحن الجيل الذى تتلمذ على يديه فى مدرسة النضال الوطنى والفكر العلمى والنقد الأدبى، وعندما كنا نسأله عن سر حيويته كان يقول مازحا (شاغبوا تصحوا). لقد عاش الرجل مقاتلا شرسا صلبا من أجل ما آمن به، ونذر حياته وعلمه وفكره لقضيته – قضية العدالة للكادحين والعناة، وقضية الاستقلال الوطنى، وقضية الوعى العلمى والاستنارة العقلية، فخاض الراحل العظيم المعركة تلو الأخرى.

فعلى جبهة النقد الأدبى خاض معركته الشهيرة، بالاشتراك مع رفيق دربه الدكتور عبدالعظيم أنيس، ضد جبهة المنادين بعزل الأدب عن واقعه، مناديا – فى المقابل - بأن يكون الأدب متراسا من أجل الدفاع عن حق الانسان فى الحرية والعدل، وسيفا على أعداء الانسانية وحرية الشعوب، وبشيرا بقرب خلاص الانسانية وانعتاقها من ربقة الجور والاستعباد والاستغلال. فأصدر كتابه الشهير المشترك مع عبدالعظيم أنيس (فى الثقافة المصرية) الذى عرضا فيه تصورهما لدور الأدب فى عصر حركات التحرر وانفتاح الوعى الانسانى على آفاق الحرية والعدل، عصر انتصار الاشتراكية واندحار الاستعماروبداية فجر جديد للبشرية، واعد بالآمال الكبار وبقرب تحقق الأحلام العظام، كان الزمان يبتسم ويفتح أحضانه للمستعبدين والمقهورين ويعدهم بقرب الانتصار وحتمية الوصول .

كان زمان اندحار الفاشية، وهزيمة الاستعمار فى كل ربوع الأرض وبزوغ عالم جديد، دستوره العدل وكلمة سره الحرية وطريقه الثورة. لذلك كان انجاز العالم وأنيس انجاز التاريخ ووعده، انجاز التخطى الظافر للرومانتيكية الباكية الذليلة التى وصلت الى حد الابتذال، وصولا الى اكتشاف العلاقة الوثقى بين حركة الوعى الجمالى والوجود الاجتماعى، كانا – معا - يعانقان الشوق الانسانى للانعتاق، وكانا يترجمان التوق البشرى للخلاص.

لكن العالم لم يتوقف عند هذا المنجز ولم يتمسك به على نحو دوجمائى جامد بل سرعان ما تجاوزه، منفردا هذه المرة، مطورا اياه وباعثا فيه روحا عصرية جديدة، ليتفاعل مع أفكار الثلث الأخير من القرن العشرين، ليلتقى مع البنيوية التى كان اول من نقل ترجمة لها الى العربية عام 1963، فأسماها بالهيكلية، ولكنه لم ينحرف عن بوصلته الأثيرة وهدفه الانسانى النبيل، فزاوج بينها وبين المنهج الاجتماعى الذى ظل وفيا على مدار عمره. ف.. (البحث حتى من الناحية المنهجية الاجرائية مشروط بالضرورة تاريخيا واجتماعيا وثقافيا).. فيما يقول فى (ثلاثية الرفض والهزيمة)، أى مشروط بأوضاع وظروف يمليها القانون التاريخى والواقع الاجتماعى والمعطى الثقافى.

ومما قد يدهش البعض أن محمود العالم قد هاجم فى ذات الوقت مقولة الأدب الملتزم أو الهادف، مؤكدا أن كل أشكال الأدب والفن مرتبطة، على نحو ما بالايديولوجيا، سواء أكانت ظاهرة أو خفية. ومن ثم يصبح الحكم ليس على أساس الالتزام من عدمه بل على أساس الالتزام بأى وجهة على وجه التحديد.

وعلى جبهة الفلسفة كان على محمود العالم أن يشتبك مع فلسفات عصره وأفكار زمنه مبشرا بجدارة العقل الجدلى بقيادة المعرفة الانسانية، ومنازلا العقل المثالى والوضعى، الداعى الى الاقتصار على التحليل اللغوى، المتخلى عن التعاطى مع المبادىء العامة والكلية فلاترى الوجود كلا واحدا، بل (آحادا) متفرقة أو (كثرة)، وأن عمل الفيلسوف يقتصر على مجرد.. (تحليل العبارات العلمية)، فيما يقول زكى نجيب محمود فى (المجلة 1957)، ويصبح معها اليقين لامعنى له.. (فهوتحصيل حاصل)، ويصبح الجمال والأخلاق ذاتيين .. (لاصدق فيهما ولاكذب)، هنا يهاجم محمود أمين العالم منتصرا للفكر الذى يعمل على الارتقاء بوعى الانسان بذاته وعالمه، القادر على انجاز التقدم والحرية، للرؤية الموضوعية الجدلية التى تحتوى على..(احترام العقل البشرى واحترام الوعى البشرى، وفيها تفاؤل موضوعى غامر بالمستقبل البشرى). (معارك فكرية ص20).

ومدافعا عن الفلسفة القائمة على الرؤية المعرفية الشاملة، المستمدة من التعميم الموضوعى والنقد الواعى للقوانين العلمية، التى تمثل - فى ذات الوقت - سلاحا للسيطرة على هذه القوانين وتوجيهها لخدمة التقدم الانسانى. ولاينسى العالم أن يهاجم الحتمية الميكانيكية بذات الطريقة التى هاجم بها الاقتصار على مجرد التحليل اللغوى، مبرزا، وهو الباحث القديم فى فلسفة العلم حيث كان موضوع رسالته للماجستير، (أن الهدف الحقيقى للعلم هو محاولة كشف العلاقات الكامنة وراء المدرك الحسى المباشر). وصولا الى القانون الرابط والحاكم للظواهر المدركة، بما يزيد من وعينا بالعالم وبالوجود، وبالتالى من قدرتنا على التعامل معه دون أساطير.

لقد دافع محمود العالم عن العلم وربطه بالحرية، ودافع عن الحرية وربطها بالحق الانسانى فى العدل والعيش الكريم للجميع، مهاجما من اقتصر فهمهم لها على أنها مجرد رد فعل للعبث - وفى ذات الوقت – من اقتصروا بها على حرية رأس المال والاستغلال. حيث ربط الحرية بالدلالة الاجتماعية، وبقدرتها على تحقيق ازدهار المجتمع الانسانى وتفجير طاقاته الابداعية الخلاقة، وتحقيق العدل والخير للجميع.

كما ناقش أفكار معاصريه من فلاسفة العالم واشتبك معها فى دراسات رصينة وعميقة تشى – رغم تواضعه الجم - بقوة رؤيته وجسارة عقله، فناقش أفكار سارتر وجارودى وهربرت ماركيوز..الخ.

كما اشتبك مع قضايا ومفاهيم ثقافية كبرى ك (الأصالة والمعاصرة) و(القومية العربية) و(التطور الحضارى العربى) و(صدمة الحداثة) و(اشكالية النهضة العربية) و(الغزو الثقافى) و(الاسلام والثورة) و(شخصية مصر) و(حركة التحررالعربية) ..... الخ الخ. وفى كل ذلك كان باحثا دؤبا ومخلصا الى أقصى مايمكن من الاخلاص، عن مصلحة الوطن والانسان وحقهما فى التقدم والحرية .

وعلى جبهة السياسة كان محمود أمين العالم الفارس المبرز الذى لايشق له غبار، الذى اشتبك مع كل محاولات افساد الحياة السياسية فى مصر، وبيع الوطن للسماسرة وتجار الشنطة، مدافعا عن ثروة مصروارادتها الحرة واستقلالها السياسى وعدلها الاجتماعى، ومدافعا عن انتماء مصر العربى وعن الثورة الفلسطينية، و الطبع - أولا وأخيرا - عن الاشتراكية والحلم الانسانى البهيج فى الحرية والعدل.

لقد مات المناضل المثال، المفكر الرمز، الصوفى العاشق للحياة، الدمث الخلوق الرحيم الصلب، الراقى الحس والذوق والسلوك.

مات محمود أمين العالم لنبكيه يوم نبكى غزة، ونأمل فى انتصارها بأثر من تفاؤله التاريخى العلمى، مات العالم ليتركنا نبحث من بعده عن كيفية اكمال المشوار الذى أفنى فيه حياته، فتحمل السجون والتعذيب وجرب المنافى وآلام الاغتراب من أجل قضية صنعت اسمه وأعطاها عمره.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى