الاثنين ٢ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
بقلم زياد يوسف صيدم

المهرطقة في زمن اليأس

منذ أن تفتحت مداركها على الحياة وهى تتطلع بشغف بالغ لمن يكبرها سنا، عادة قد درجت عليها ولازمتها لاحقا في حياتها.. لم تجد تفسيرا غير أنها حُرمت من والدها مبكرا، ولم تكن والدتها على قدر من ضبط انفلات لجام تفكيرها في سن مراهقتها الأولى.. فكانت تشاكس صاحب الدكان وبائع الحلوى المتجول بين أزقة الحارات، وهذا بائع الفلافل والفول لم يسلم من نظراتها وكلماتها المازحة بشكل يثير الاستهجان من هول اندفاعها وجرأتها، كانت مولعة بتقصير شعرها بشكل ملحوظ تحاول التشبه بأقرانها من الصبية الذكور، لكي تلعب معهم ألعابهم بحرية تامة، تاركة العاب البنات المتميزة، هكذا أخبرت أختها الأصغر منها سنا، عندما جمعتني بها الصدف لاحقا عن طريق أحد الأصدقاء ..

مضت سنوات حتى تعدت الأربعين من عمرها وهى لا تزال على عاداتها الأولى ..حيث ركزت من جنونها المضطرب نحو كبار السن خاصة تلك عقدتها منذ الصغر، تلهو وتعبث بأفكارهم وجلهم قد تخطى الخامسة والستين، تمارس عليهم هوايتها سالفة العهد، تستجمع قواها وتنشط ذاكرتها، لاهية مستخفة بعقولهم وقلوبهم الضعيفة المتلهفة لماض قد مضى، فهي مراهقتهم المتقدمة في سن الشيخوخة، ومحاولات يائسة لاسترجاع سنين وعقود ولت بلا رجعة ...

حاول صديقها جاهدا وفى كثير من المواقف، تارة بإسدال النصح لها بطريق غير مباشر بداية فلم يشأ أن يجرح شعورها، لكنه انعطف معها إلى طرق أكثر مباشرة ووضوح، فاشتكت من قسوته مرارا وتكرارا غير آبهة إلى أن الصديق الصدوق هو من لا يصفق نفاقا، أو يدارى على عيوب صديقه مجاملة له، لكن نوال أبت أن تبدل أو تغير ما في عقلها من تشويش يزداد معها كلما تقدم بها العمر، دون أن تفسح لعقلها مجالا ليأخذ حقه، رأفة بها وبمن حولها من كهول مراهقين، وصديق يريد لها الخير...

في وقت متأخر من صداقتهما، تبين له بان صبره عليها نابع من شفقة لما آلت إليه حالها، ومحاولاته المستمرة في إصلاحها وإعادتها إلى رشدها دون فائدة، فقد تحولت أفكارها إلى ما يشبه الببغاوات في معظم الأحيان، انه المرض المعاصر الذي يكتنف كثيرا ممن امتهنوا حرفة الكتابة المأجورة كنوع من الكسب السريع، ولو أدى ذلك إلى تحولهم إلى صنف كاذب ومخادع تنعكس على مجريات حياتهم اليومية.. فيعانى منهم الأقربون: أسرهم وزوجاتهم وأصدقائهم.. كان مازن كلما سمع صديقه يتلو عليه من نبىء أولئك المهرطقين، تلك الثلة التي التفت حول صديقته فأصبحت مثلهم، تقتبس منهم أراجيفهم التهريجية دون تفكير أو تمعن بما يكتبونه، أو بما تشيعه عنهم من تزوير للحقائق والأراجيف، بل ويزداد مرضها اتساعا وانتشارا عبر بثها ونشرها لمزيد من عبث وخرافات كبار السن، من اللذين ارتضوا على أنفسهم الكسب السريع بالكذب والنفاق وتلفيق الحقائق وبالشتم والسب واللعن لمن هم أكبر منهم شأنا واعتبارا ورمزية.. مرض من أخطر ما يكون على الإنسان في نهايات عمره، سينعكس حتما وبشكل سلبي على من حولهم من المقربون، فتكون الخطيئة الكبرى المرتكبة في حياتهم دون وازع ضمير لعواقب تفاهتهم على أعز الناس، وما يمتلكون دون اكتراث أو حسبان، وهنا الطامة الكبرى لهم في دنياهم وآخرتهم أن يعدوا من المنافقين..

كانت تعلو وتزداد وتيرة ابتسامته، حتى تتحول إلى ضحكات شبه مرتفعة.. لم يستطع لجمها مهما حاول حتى لا يستفز صديقه المتحدث، فما زالت إحدى صديقات صديقه من عالم حواء.. يخشى عليها عواقب أفعالها، بأن يصيبها مس من فراغ الذهن، وعدم القدرة على التمييز لاحقا، جراء تناقضات الأفكار المتداولة في أزمنة متقاربة.. وسوء انحطاطها وتفاعلاتها المعكوسة تماما في أفكار تتبدل حسب الظروف السائدة .. التي لا يحكمها مبدأ ولا أخلاق..، كان يخشى عليها من نوبات متقلبة في مزاجها، كأن تفقد مصداقيتها أمام نفسها والآخرين، فتبدوا سخافاتهم وتتجلى مصائبهم فتنعكس عليها بأكثر حدة، وهنا ستكون العواقب غير محمودة على أسرتها وأعصابها ونفسها في ما تبقى من سنوات عمرها القادمة، كيف لا وهى صديقته المميزة..

في يوم كان متوقعا، أرسل صديقه في طلبه حالا يريده في أمر عاجل، لملم أغراضه على عجالة، ورتب أوراقه المبعثرة على مكتبه وانطلق قاصدا صديقه، كان ينتظره أسفل بوابة حديقة المنزل، وبسرعة تكتنفها اللهفة اقتاده إلى غرفة الجلوس المطلة مباشرة على أشجار الزيتون والحمضيات التي تملأ الحديقة، فور جلوسهما بدأ صديقه بتحضير غلاية القهوة على موقد (السبيرتو)، الذي أهداه له أحد زملاء الدراسة من وقت ليس بالبعيد، تحديدا عندما اشتدت أزمة الحصار وفقد غاز الطبخ .. وقد زادها ملعقة من الهيل لتفوح منها روائح قهوة مشهية، سال لعاب مازن على اثر ذلك، فأشعل على الفور سيجارته ..وهم بتناول فنجان القهوة فقد استسلم لرائحتها النفاذة التي لا تقاوم، ارتشف منها رشفته الأولى، وشهق سيجارته، فتوهجت بحدة كقطعة من الجمر، كان الصديق يرمقه بعناية قبل أن يبدأ في حديثه، ثم انهال عليه بسؤال مفاجئ: هل تعتقد يا صديقي باني قد أصبحت مريضا بالهرطقة؟، ضحك مازن بمجرد سماع تلك الكلمة فهي تتردد كثيرا هذه الأيام بالذات، نتيجة إلى كثير من التقلبات السياسية التي تغزو الأقلام المأجورة، و تنتشر كالنار في الهشيم في كافة وسائل الإعلام المضللة في المنطقة...

نفخ مازن دخان سيجارته في الهواء، وارتشف رشفته الثانية من فنجان القهوة الرائعة.. وبدأ يستمع إلى صديقه الذي أرسل في طلبه بشكل عاجل وفوري، وكأن الأمر لا يحتمل تأخيرا أو إرجاء مقابلة عادية تحدث بينهما، وبعينين محدقتين قد برز بياضهما، وبحركات عصبية من أصابع يديه، وتقاسيم جادة ارتسمت على وجهه، أعاد على صديقه السؤال: هل أنا مهرطق؟؟ أجابه مازن: بلا، أصر صديقه على قوله، فأردف ضاحكا مقهقها يا صديقي أتعلم بان هذا لفظ ينحدر من العصور الوسطى في أوروبا حيث كانوا يتعرضون للحرق لأنهم شاذون عن تعاليم الكنيسة ورهبانها ، فيكفرونهم باتهامهم بالهرطقة، ونحن هنا لسنا بصدد استعارة هذا اللفظ الشنيع وإلصاقه بك عنوه فلا تبدوا كذلك، أجابه بإصرار وعند كأنه مقتنع تماما لا، بل أنا كذلك !! ...

مشكله صديقه هي عدم فصل صفة صديقته المتفاقمة وما تلبسها من حالة الهرطقة وبين حالته الشخصية وخوفه من عدوى قد أصابته، فهذا الهاجس الرهيب بدأ يتغلغل في تفكيره، حيث ظهر واضحا من إجابته على صديقه مازن بقو: طالما صديقتي على هذا النحو وأنا على صداقتها منذ أكثر من عام ونصف، ونقضى ساعات في الحديث معا، ومراسلات يومية جلها مؤخرا تطرزها الهرطقة بكل حوافها وحيثياتها؟، وأنا لا أزال أتحملها على سوءتها وتشويش عقلها!!، فلا بد وأنى مثلها أليس كذلك يا صديقي ؟؟، قهقه مازن من طريقة ربطه للحالات بتلك الطريقة التي تبعث على الخوف وتثير الهواجس، لم يخف مازن شعوره، فساور مازنَ وسواسٌ ولكنه استبعده من فوره، ولم يتماك نفسه من الضحك قائلا: انتظر لحظة لأنهى فنجان قهوتي وأطفئ سيجارتي، لا بل سأشعل أخرى لكي أقول لك وجهة نظري وننهى هذه الجلسة، وإلا فلن تنتهي أبدا ، حيث أنى على موعدٍ مع ضيوف هذا المساء، هز صديقه برأسه معتذرا على الإزعاج وقال: كلى أذان صاغية إلى حديثك...

كان مازن يعلم بان هناك حملة مسعورة للتشهير في الصحف والمواقع والإعلام الموجه، ضد كل التيارات الوطنية بجميع مصنفاتها من قبل جماعات من المزاودين الجدد، وبان صديقة صاحبه قد وقعت ضحية صداقاتها المتشعبة، هكذا فهم من حديثه السابق، فمنذ طفولتها وحتى سن يأسها كانت ضحية لظروف قاهرة، وها هي الآن مع أناس يمتهنون الزور والبهتان طريقا لكسبهم ونهج حياتهم، فارتهنوا لتلك الجماعات المتسلقة في زمن التيه المفقود من صفحات كتب التاريخ الذي لن يرى النور على صفحاته المشرفة!، وهنا اعتدل مازن وقد شعر بامتعاض شديد، موجها حديثه بالقول: أنت غير هذا يا صديقي، ولن تكون، لأنك أنت نفسك من اختار هذه الكلمة لصديقتك أليس كذلك؟؟ وأنت نفسك من يعلم بأنها تنساق وراء تلك الثلة من العجائز الخرقة التي تحاول تسويق الأوهام!! وأنت نفسك تعلم بأنها مغيبة عن الإدراك بخفايا الأمور، جراء نقص شديد لديها في التحليل الواقعي والمنطقي والعملي لطبيعة الواقع ..واستقائها لمعرفتها من تلك الثلة.. وأنت نفسك من يقول دوما لا تستطيع إغضاب النساء أو التهجم عليهن مباشرة لعهد قديم قطعته على نفسك! ،فلماذا تقارن نفسك بحالتها وتربط مرضها بك؟، ولِمَ لا يكون بقاؤك في حلقة مفرغة هو حبك لها؟، أو شفقة عليها، أو نوع من راحة في الحديث معها وانسجام معين، وأضاف وقد استشر غضبا تجاه صديقه فقد طفح الكيل مع مازن: أنت يا صديقي وكما أعلمك لن تكون بهذه السفاهة بعد هذا العمر الطويل، على الثبات والالتزام بقيم الحب والخير والجمال، فلن تنحرف بوصلتك عنها أو تحيد قيد أنملة، فأتمنى فورا أن تترك ما يجوب في رأسك من هواجس مرضية ..قد تؤذيك لاحقا فيما لو استمر خوفك عليها، سارع صديقه بالقول: وما العمل يا مازن؟، أجابه: نصحي إليك بان تكف نهائيا عن تلك الجوقة وتتركها إلى سبيلها، فتستريح وتريح نفسك مشقات وعناء في غنى عنهما، فلن تستطيع إنقاذها من اللحاق بركب الواهمين، لأنها قد التصقت بهم واستسلمت، وسلمت بقدرها وطبيعتها وفطرتها، فهي في تكوينها السيكولوجي الضعيف والخائف نتيجة لأحداث ومتغيرات سياسية عصفت بالمجتمع، فتخشى أن يلحقها أذىً نتيجة هواجس معينة أو أعمال مغايرة قامت بها ولا تتماشى مع التقلبات الحالية فيما لو استقرت في المجتمع.. أو أن لها مصالح شخصية معينه في ذلك الاندفاع؟، ولكنه الوهم قد عشش واستفحل في عقلها، من المستحيل أن تشفى منه، لكن صديقتك للأسف لا تستوعب عواقب ما تصنع بنفسها وأسرتها من ضرر ولو معنوي في أقل الاحتمالات، واستطرد قائلا: فعلا لقد أصبحت صديقتك مضللة، وسولت لها نفسها بأن تسوق افتراءاتها وتتساوق معها في زمن الردة والنفاق والعبث العظيم، فاستكانت إلى طباعها وتقلباتها النفسية، فترى ثلة المصفقين والعازفين خلفها فتشعر كأنها ملكة بينهم، فلا أمل فيها يا صديقي، فقد نشأت منذ الصغر على تلك العادات.. حتى اكتسبت صفة الطباع التي ستصاحبها حتى مماتها..هذا نصحي إليك يا عزيزي ولا أجد غير الإقلاع عنهم جميعا، أجابه صديقه: نعم ولكن ....؟

ما لبث أن غادر مازن بيت صديقه.. وفى الطريق انتابه شعور فيما لو لم يقتنع صديقه بنصيحته، بترك تلك الثلة التي تتخذ الهرطقة تسلية لها، بل وتمارسها كطقوس عيش وكسب وحياة، فهي بالنسبة لهم كل ما يمتلكونه فيما تبقى لهم من باقي أجل، وبان صديقه لن يفلح في ثنى صديقته عما اكتنفها وتلبسها، وهنا قهقه مازن ومضى يكتب قصته التي تجمعت خيوطها في ذهنه، بينما كان لا يزال يضحك بصوت مسموع لفت انتباه المارة في الشارع، وما يزال يتمتم: صديقة صاحبي مهرطقة ولا مجال لشفائها، وفجأة انتابه هاجس بتذكر صديقه فيما لو.... وهنا امتنع فجأة عن الضحك واكفهر وجهه وأصابه نوع من توتر!!.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى