الاثنين ٩ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
بقلم سمية البوغافرية

أجنحة صغيرة

(أخيرا، سأنهي الصراع بين جدي وأبي..)
هكذا ردد جواد في داخله وهو يكاد يطير فرحا بفكرة طفت أخيرا على مخيلته.. فانتظر بفارغ الصبر أن ينفض مجمع المصلين ليشرع في تنفيذها..

على بعد خطوات من باب الجامع، التصق بجده وحدثه بهدوء وبكثير من الإغراء عن سحر عوالم اكتشفها مؤخرا مع أبيه .. حدثه عن عذوبة نسيم الأمواج، عن متعة المقاهي وسحر الملاهي، وحدثه عن الموسيقى والمسارح وعن السينما والأفلام الصينية.. كان أمله كبيرا أن يقنع جده باكتشاف هذه العوالم ومصالحته عليها بعدما أغرقها في حوض من النيران.. إلا أنه طيلة حديثه لم يجر على لسان جده غير اللطيف والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم كأن حفيده يدفع به إلى جهنم.. فتجهم جواد، ابن ثماني سنوات، ورجم جده بسؤال محموم استعصى عليه خنقه في داخله:
 هل جهنم بحر والجنة حوض صغير على جانبه؟؟ هل الجنة أعدت فقط للسجد الآكلين النائمين مثلك جدي؟؟..
حوقل جده واسترسل يسبح فأضاف جواد مندفعا كأنه شخص آخر غير ذلك الطفل الهادئ:
 بكم تقدر مساحة الجنة؟؟ كم هي قدرة استيعابها جدي؟؟..
 ــــــــــــــــ
 إذن أنت لا تعرف شيئا.. لذا يغلبك أبي دائما وسيغلبك اليوم أيضا .. سترى حينما نبلغ البيت..

مضى جده مقوسا يزحف على عكازه إلى الصالة حيث تجتمع الأسرة دائما بعد الزوال وأثناء الليل.. ألقى على ابنه، أبو جواد، تحيته الثقيلة التي يرشقه بها كلما تقاطع معه في طريقه: "أصلح الله أمرك ولفك بجناح هدايته ".. ثم تهالك قبالته وأنامل يده اليمنى مسترسلة تقطر حبات سبحته.. وكلما طفا بذهنه كلام حفيده أزاحه بحوقلة مسموعة وهز رأسه راشقا ابنه بنظرة الإلحاد.. وجواد في باب الصالة يترقب بتوجس اندلاع اشتباكهما اليومي الذي ينتهي دائما بغصة في حلق جده.. فبينما يزهد جده في الحياة الدنيا، يتمسك بها أبوه كأن لا حياة بعدها ويرد على إغراءات أبيه الأخروية بفظاظة: "الحياة جديرة بأن نعيشها ولا قانون على وجه الأرض سيردني عن الاستمتاع بها..".. يستأنف جده حديثه بكثير من التشنج بلغ به هذا الصباح حد تكفير ابنه والتبرؤ منه.. يتمسك أبو جواد بموقفه غير مبال بوعيد أبيه .. يستعر الجد غضبا ويغيب في حشرجة فسعال يشطف هواءه.. يهرع جواد فيمده بكوب ماء وقلبه كعادته يتنازعه القطبان..

شريط يتكرر أمام جواد يوميا منذ عودة أبيه من الديار الأروبية.. فينفض المجلس دائما مخلفا لوعة في نفسية جده، وتشويشا رهيبا في ذهن جواد.. ويتمنى أحيانا لو ظل على ملة جده ولم يسمع من أبيه شيئا كما كان قبل عودته.. كل شيء حوله أضحى يسبح في بحر الشك والتأويل.. حتى جده الذي طالما رآه رمزا للثوابت وأقواله مسلمات لم ينج من علامات استفهام كثيرة يلبسها لشخصه وأقواله وأفعاله ومصدرها..

ما يزال الصمت مستتبا في الصالة لا يقطعه غير أوراق الجريدة تقلب وحبات السبحة تتساقط.. وما تزال عيناه الصغيرتان تتنقلان بين جده وأبيه المتقابلين كأنه يبحث له عن موضع ليستقر فيه، رغم أن الصالة الكبيرة لا تملؤها غير مخدات من القطيفة مسطرة على الأرائك الخشبية المنقوشة ومائدة مستديرة في الوسط.. حدق في وجه أبيه الشاب وفي صدره العاري المشعر وسلسلته الفضية المتدلية من عنقه وقوة بنيانه فحز في نفسه حال جده الوهن الذي ينسحب دائما من النقاش وفي قلبه لوعة.. فتمنى لو يبتلع هذا الصمت جده وأباه ولا يخرجان منه إلا وهما متفقان ومنسجمان. فجأة، اتسعت حدقتاه ورفت على شفتيه ابتسامة ظفر مفاجئ وراح في خضم الصمت يحقق أمنيته..

سحب السبحة من يد جده في فترات من النهار وزوده بأقراص مدمجة. حلق لحيته الكثة واستبدل رزته (عمامته) بكاسكيت أبيه (القبعة)، ثم خلع جلبابه وسرواله القصير العريض وألبسه قميصا ضيقا مزركشا وسروالا عريضا من تحت، يجرجر ويكنس الأرض ويستر النصف، وعلق على أذنيه سماعات ليستمع إلى موسيقاه من خلال MP4.. تمعن شكله وراح يسحب يد جده ليضعها في يد أبيه ليرقصان معا.. بدت له مؤخرة جده المترهلة عارية وهو يترنح ويرقص رقصا غريبا كأنه دمية موثوقة بخيوط غير مرئية إلى أصابع بهلواني أبله.. اشمأز من الصورة ليغلبه الضحك حينما سقط سروال جده أرضا وهو منتش بالموسيقى والرقص ولم يبال برفعه...

أغمض جواد عينيه يطرد من شبكتيهما الصورة المتقززة لجده الحديث وقبل جبهته وارتمى في حضنه ينصت إلى دعواته وهمهمات لسانه المسترسلة مع طقطقات حبات سبحته.. تعلقت عيناه بأبيه وحوله غمامة من دخان سجائره.. تذكر حكاية جده بأن المارد يندفع من فورة الدخان وأن كل ما نطلبه منه يستجاب في الحين.. "لو خرج لي المارد لن أطلب منه شيئا غير أن يكون أبي هو جدي الحديث".. ولما تأخر خروج المارد راح يسري على أبيه يد مارد صغير.. أنبت له لحية أنيقة.. أطفأ سيجارته وكسر المنفضة..طعم مكتبته بكتيبات جده ورسم له طريقا إلى المسجد وطريقا دائما إلى العمل وطريقا يرده مبكرا إلى بيته ويجالسه ويداعبه قبل أن ينام، وناوله السبحة في آخر الليل.. استشعر برضا أمه التي تتبرم دائما من سلوك زوجها الذي أخذته ملذات الحياة ونادرا ما يقضي ليله في بيته..

ثقلت جفون جده فسقطت السبحة من يده وأسقط الفرشاة من يد حفيده.. فقبل جواد وودعه ومضى يسند عجزه على عكازه.. تبعه ابنه للتو كما سعى حفيده وراءهما ثم تسمر في الباب مديرا ظهره للصالة ولزفرات أمه.. بينما مضى جده يجر رجليه جهة اليمين إلى غرفة نومه، دلف أبوه بخطوات جبارة جهة اليسار نحو باب البيت خارجا.. ظل جواد على رأس الزاوية المنفرجة أمامه إلى طريقين.. راح يمضي في طريق جده كما كان يفعل قبل عودة أبيه ثم تراجع.. انجذبت نفسيته إلى طريق أبيه أكثر .. وبينما هو يخمن ويفكر في أي طريق سيسلك كانت الزاوية قد اتسعت أمام عينيه وتشعبت منها طرق عدة.. كثيرة، كثيرة جدا هي الطرق التي ارتسمت أمامه.. لم يستوعبها جواد ولم يستطع مقاومة جاذبيتها ورغبته في اكتشافها كلها.. أغمض عينيه وأفرد ذراعيه كطائر عملاق يتأهب للإقلاع.. وحينما ارتفع جسده على الأرض راح يخفق بشدة بذراعيه الممدودين آملا أن يعلو ويعلو أكثر.. ولما وضعت الأم عصفورها في سريره أسقط رأسه على مخدته وصورة "سوبرمان" مستحوذة على كل جوارحه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى