الأربعاء ١٨ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
تجارب نقدية: محمد بوعزة، بوشعيب الساوري
بقلم شعيب حليفي

الدنو من الرؤية

يسير النقد الأدبي بالمغرب في اتجاهات متعددة تقود نحو القضايا الفنية والدلالية للنص الأدبي، وذلك من خلال مرحلتين متكاملتين، في الأعم، مرحلة البحوث الأكاديمية التي تصوغ للناقد رؤيته وتصقل أدواته ؛ثم مرحلة البحوث النقدية التي تجئ في شكل دراسات متكاملة عن موضوع بعينه أو تجميعا لمقالات تُقارب نصوصا متعددة. وهذا العبور المتفاعل هو ما يعطي للنقد استمراريته وقدرته على التواصل والتجدد، مع تجارب تختلف رؤاها ولغاتها واختياراتها.

المحكي والدلالة

في كتابه (هيرمينوطيقا المحكي: النسق والكاوس في الرواية العربية) (1) يكشف محمد بوعزة عن صفة أساسية فيه باعتباره مؤلفا، وهي الرصانة العلمية والطموح إلى التجديد وهو يخوض في بناء الدلالات انطلاقا من حرصه على صوغ أسئلة تأطيرية، من قبيل الكيفية التي يدل بها النص الروائي وعلام يدل ؟وكيف يمكن البحث في الدلالة وطبيعتها ثم علاقتها بالأنساق الدلالية الأخرى، وأخيرا كيفية مساهمة القارئ في إنتاجها؟

اختار الباحث محمد بوعزة بناء الأطر النظرية لمؤلفه اعتماد مرجعيات تستند على المنظور المعرفي في القراءة والكشف عن الدور التشييدي للسردية في صياغة أنساق الفهم وإنتاج المعرفة بالذات ومحيطها.

إن رغبة الباحث في الإضافة وتوسيع مجال البحث في السردية، جاء عبر إثارة اشكال الدلالة في النص الروائي وهو ما جعل مؤلفه يحقق رِهانين استراتيجيين ؛الأول علمي تمثل في تطوير وجهة البحث في الدلالة بتجاوز الدرس النقدي المرتكن إلى التماثل والانعكاس والإسقاط، ومن خلال مضمون النص من منظورات إيديولوجية خارجية "تُـقْصي" أدبية النص وبـََوْحِهِ الجمالي.

أما الرهان الثاني المعرفي فعبره يقترح الباحث محمد بوعزة الدنو من نموذج النقد المعرفي كما شيده محمد مفتاح، ذلك أن (دراسة الدلالة في إطار هذا المقترح المعرفي)... (تستدعي مفاهيم متعددة، المعنى والتأويل والفهم وطرق اكتساب المعنى واواليات اشتغال الذهن ؛ مما يجعلها تنفتح على اتجاهات مختلفة، سواء داخل العلم الواحد مثل اللسانيات والسرديات، وتخترق الحدود بين الاتجاهات والنظريات، ويوضح هذا التشعب والامتداد الوضع المتداخل للدلالة بين الاختصاصات المتعددة) (ص22).

ويُبرز الباحث تمسكه المنهجي بحاجة النقد إلى كشف الأنساق المعرفية والدلالية للرواية العربية بحيث يتحول إلى نمط للمعرفة، يشارك في التشييد الاجتماعي من منظور معرفي وعلمي إلى جانب الأنساق المجتمعية الأخرى.

ولكي يختبر الباحث منطق اشتغال الدلالة وأنساقها التخييلية والمعرفية اختار المتن الروائي لسليم بركات، من خلال ثلاثة نصوص، هي: (فقهاء الظلام، الريش، معسكرات الأبد)، حيث قارب هذا المتن الثري في بابين اثنين، الأول للبناء النظري وهو من فصلين حول الدلالة في السرديات وفي الرواية. أما الباب الثاني وهو من أربعة فصول تحليلية، اتجهت نحو البحث، أولا، في بنية المحكي وطابع الدينامية الذي يجعل من متن سليم بركات منفتحا على آليات التوالد الذاتي والتحول والامتداد. وثانيا البحث في دلالة المحكي بالكشف عن أنساق المحكي المشكلة لمعمارية البنية السردية عبر ثلاث مقولات هي الفعل والعيش والكينونة. أما البحث الثالث فكان حول هيرمينوطيقا المحكي وفيها يستوضح الباحث كيفية تَمَكُّن سردية الذات من إعادة صياغة فهمها لذاتها ومشروعها وهويتها. وأخيرا يقارب الباحث ابستيمي المحكي والذي يشيد نسقا معرفيا ينبني على جدل العماء والانتظام يقوم على التفاعل والغوص في الظواهر المعقدة ضمن استراتيجية نقدية تسخر من المعرفة اليقينية.

وأعتقد أن محمد بوعزة، في مؤلفه هذا، وإنْ ظل ـ في جزء كبير منه ـ أسيرَ مفاهيم إجرائية أثناء مغامرة التحليل، فإنه بالتأكيد يُعَبر عن أفق واعد في النقد وهو يدنو من النص ويخفي أدواته خلف أسلوب اشتغاله.

النسق والسياق

أصدر الباحث بوشعيب الساوري، حتى الآن، ثلاثة مؤلفات نقدية، تنظر إلى النص السردي القديم والحديث، وكأنما يريد بذلك اختبار هذه المبادئ على نصوص مختلفة فنيا وزمانيا.

في مؤلفه الأول(الرحلة والنسق: دراسة في إنتاج النص الرحلي من خلال نموذج رحلة ابن فضلان) (2) يعيد بناء رؤية جديدة إلى نص سردي /رحلي ظهر في القرن العاشر الميلادي وخلق، بعد ذلك، جدلا واسعا لأهميته التاريخية والثقافية

رؤية ثلاثية تقرأ الرحلة عبر ثلاثة أبواب تضم تسعة فصول، بدءا بعملية الإنتاج والأنساق الثلاثة الفاعلة في المرحلة المدروسة بالإضافة إلى أنواع المتلقين، وصولا إلى رحلة ابن فضلان وخصوصياتها..

في الباب الثاني والثالث يشرع الباحث في تفكيك النص ومحاورة ابن فضلان انطلاقا من ثلاثة مكونات تؤطر شعرية الرحلة، وهي البعد التعليمي والمعرفي، ثم الحكائي المتمثل في بنية المغامرة وسرديتها والمرجعيات المتحققة، وأخيرا (الآخر) وحضوره في صور مختلفة. أما اشتغال صيغ الخطاب في نص ابن فضلان فقد حصرها الباحث في التقرير والسرد والوصف انطلاقا من تحليلات وتوصيفات راهنت على فهم وتأويل الرحلة باعتبارها إنتاجا ثقافيا في لحظة تاريخية وحضارية.

وبنفس الرؤية، يكتب بوشعيب الساوري مؤلفه الثاني (النص والسياق) (3)وهو دراسة في رسالة التوابع والزوابع لابن شُهيد، والذي عاش أيضا في نهاية القرن العاشر الميلادي، ومن العصر ينطلق الباحث للبحث في مسألة ربط النص بسياقه وسبل انبنائه وذلك في قسمين يحققان استكمال البحث في شعرية هذا النص، من خلال رغبة الكاتب في الكتابة والتدوين، وبين إكراهات السياق الثقافي بشكل عام وسياقات أخرى متداخلة، بحيث ارتكز سعي المؤلف على إيضاح كيفية تفاعل وتشاكل الجوانب النفسية والاجتماعية والتاريخية والسياسية على المستوى النصي والجمالي، وهو ما خلصت إليه الدراسة بالإضافة إلى أن كل عمل أدبي، وضمنه رسالة ابن شهيد، يوسم بسمات عصره الثقافية، لذلك جاءت رسالة التوابع والزوابع ذات منحى دفاعي ونموذج كتابي يعكس أشكال الوعي في تلك المرحلة.

ولعل ما يجمع ما بين الكتابين: الرحلة والنسق والنص والسياق، أشياء كثيرة أهمها هو أن مفهوم الأدب في القرن العاشر والحادي عشر قد عرف نضجا كبيرا أتاح توسعا في خلق أشكال فنية (الرحلة والسيرة )من جهة، كما خلق مساحة من البوح عند ابن فضلان وابن شهيد للتعبير عن رؤيتهما من جهة ثانية، مثلما كانت لحظة تَـشَكُّـل نماذج أخرى مجاورة : السير الشعبية والحكاية والتراجم والمقامة...

وفي تجربة نقدية جديدة يستكمل بوشعيب الساوري خطواته النقدية في كتابين جديدين حول الرواية.

يخص في كتابه (رهانات روائية:قراءات في الرواية المغربية)(4) النص الروائي المغربي من خلال سعيه للإمساك ببعض القضايا الفنية والدلالية خلال السنوات الست الأولى من الألفية الثالثة، وفي ثلاثة عشر نصا روائيا تعكس مختلف الأصوات التي تكتب الرواية بالمغرب. حيث يقدم الباحث مقاربات توصيفية مفتوحة على ما تلتقطه من مهيمنات يقرأها ويؤول دلالاتها.

ومن خلاصات هذا الكتاب التي استنتجها الباحث من النصوص موضوع البحث، حضور سؤال كتابة الرواية مقترنا بخصوصية لغة الكتابة وما تحققه من متعة فنية رغم إصراره على استحضار الإيقاع الاجتماعي والسياسي.

وسيخصص بوشعيب الساوري مؤلفه الرابع للمنجز الروائي للميلودي شغموم في كتاب نقدي بعنوان: (من الحكاية إلى الرواي) (5) قرأ خلاله تسع روايات لشغموم معتمدا على تقسيمه إلى مرحلتين: الأولى يشدها الانشغال بالحكاية وعوالمها العجائبية، فيما الثانية تعمل على اليومي الإشكالي بمفارقاته مع تسخير الحكاية والأسئلة الفلسفية.

عَمِل الباحث في هذا الكتاب على البحث عن الرؤية الناظمة للكتابة الروائية عند الميلودي شغموم في كل مرحلة، بإبراز الكيفية التي يتفاعل بها النسق الذهني مع النسق التجريبي من خلال رصده لخصوصيات التجربة في المراهنة على التجديد والإبداع والخصوصية. وهي نفس المراهنة التي يبحث عنها الساوري في قراءاته للنص السردي المغربي والعربي القديم والحديث في شكل مقترحات نسبية وإجرائية للفهم والتأويل ضمن عنصرين أساسيين هما النسق والسياق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى