الأحد ١ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم غزالة الزهراء

الصراع

غادر المستشفى وصوت الطبيبة الأنثوي المتهدج يسكن أذنيه كالهدير: ألف مبروك، زوجتك أنجبت صبية جميلة مثل القمر.

استند إلى حائط رث تآكلت جوانبه، وبيدين مرتجفتين كأنما الصقيع اللاسع أثلجهما أوقد سيجارة من النوع الرفيع، وأنشأ يمتص دخانها العبق بشراهة منقطعة النظير.

مر بمحاذاته سرب من الفتيات الأنيقات ملفوفات في أردية شفافة من المرح، وتنبعث منهن رائحة عطر مغر اقتحمت خياشيمه، وتسللت كلص بارع إلى قلبه فأسكرته.

قال في سره متوغلا في أحراش كثيفة من التخمين: عجبا حتى الشوارع لم تسلم من بنات حواء!
اكتسحه شعور عميق، محير، رهيب مثلما يكتسح الجراد العابث أرضا خصبة معطاء، كاد يقهقه ويبكي في آن واحد كمعتوه لا دراية له بعالم النفاق، تغلغل بكل حواسه في غابات حيرته حتى العظم، وخزته أشواك الألم المدببة فانبعث أنينه الجارح مسكونا بأشباح الرهبة والوجع. تسع بنات صافيات الطبع، مهذبات المزاج، دافئات الحنايا كلهن بناته، وراح يعد من غير اطمئنان نفسي على رؤوس أصابعه: نغم، إسمهان، آية، رندة، عبير، سهام،. . . . . .

وسرعان ما توقف عن الاستمرار في العد لأن اللحظة الحاسمة طوقته بأذرعها المتشابكة كما يطوق الغريق الذي لا أمل له في نجاته بأذرع من أخطبوط جبار. تأوه مفزوعا وهو شاعر بخنجر السنوات الزاحفة يمزق جل شرايينه، وأن دماءه القانية تغسل أعمق الأعماق، احتضن رأسه الملتهب كالنار بين يديه كأنما يخشى عليه من الانفجار، ثم تمتم كمجنون ضاع منه الاسم واللقب: لا، لا، لا أريد بنتا، لا أريد بنتا، ثم قفل راجعا إلى البيت في حالة نفسية محبطة يرثى لها.

أول مولودة كسرت حاجز الانتظار هي نغم، وكانت سعادته آنذاك لا تعادل كنوز العالم، أسر لزوجته في انبهار: ستكون نغم أحلى نغمة موسيقية تربط أواصر محبتنا ببعض، ستكون فأل خير. وعندما حملت للمرة الثانية لم يكن يأبه بالولد، ولا في المرة الثالثة، ولا في الرابعة، ومن ثم اندثرت معالم فرحته بين طيات أحزانه وقال بصدق مؤكد: أريد الولد الذي يحمل اسمي، ويرثني بعد مماتي.

عاش صراعا عنيفا مع نفسه حيث امتصته دوامة الانفعالات فصار يتذمر من أتفه الأسباب وأحقرها، وقد اكتشفت أم بناته ذلك الانقلاب السري العسير الذي آل إليه، تسأله بكل إخلاص وحب: أهناك ما يوتر أعصابك، ويكدر عليك مباهج الحياة ؟يغوص في برك صمت مخزية، ويبقى سؤالها معلقا، مصلوبا بدون جواب، تقهره صدمات الأيام وتجلده، ينفعل إلى حد الموت والهذيان، وتحت أسئلتها الملحاحة يتضور كغزال مصاب يئن، الآهات تمزقه إلى شطرين، الآلام الدفينة تتناوشه، بناته المحبوبات يحطن به، يعانقنه بود سحري عميق، وإذا به يتفجر حنانا ويقول: أنا راض بحكمك يا رب، أنت الوهاب الرزاق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى