السبت ٧ آذار (مارس) ٢٠٠٩

الفزّاعة

بقلم: توفيقه خضور

وأخيراً سمع أهل قريتنا بالديمقراطية..! سأل كبارهم الصغار عن مدلولها وفائدتها.. فتوسّع الشبان المُتنوّرون في الشرح والتفصيل..! مؤكّدين للكبار ضرورة التّمسّك بها والدفاع عنها، أعجبتهم الحكاية..! فجمعوا بعضهم واتجهوا إلى بيت حكيمهم حمدان، طلبوا إليه أن يُرشّح نفسه لانتخابات المخترة المقبلة، مقابل مختارهم المزمن.. تمنّع حمدان بحجّة أن المخترة قد فُصّلت خصيصاً على قياس مختارهم القديم..! لكنه لانَ في النهاية، بتأثير نقرات الديمقراطية، التي عزفتها الجوقة المجتمعة عنده على أوتار أعصابه..!

وفور انتهاء الانتخابات وفرز الأصوات، انطلق حمدان الذي فاز بنسبة سبعين في المائة من الأصوات إلى المنطقة التي تـتبع لها قريتنا إدارياً، ليتسلّم مهامه بشكلٍ رسميّ، رمق الموظف بدماثة المسؤولين الجُدد وقال: أنا حمدان يا أستاذ،

رفع الموظف رأسه عن دفتره العتيق، ورماه بنظرة استهانة: نعم.. ماذا تريد ياعم حمدان..؟
ردّ الرجل بقوة الواثق: أنا مختار قرية أم العظام الجديد، جئتُ أتسلم مهامي أصولاً..

هزّ الموظف رأسه استنكاراً وهو يقول: لا ياعم حمدان أنت غلطان.. فمختار أم العظام الذي تعرفه المنطقة كاملةً، لم يتغيّر من سنوات..! ردّ حمدان مُتضاحكاً: يبدو أنك لم تطّلع على التطورات الجديدة يا بنيّ.. فأنا هو المختار الجديد الذي انتخبته القرية ديمقراطياً، واسمي حمدان سلامة.

حمدان سلامة.. حمدان سلامة.. ردّد الشاب الاسم مرّتين، وشرد قليلاً، ثم فتح سجلاً ضخماً، قلّب فيه، دقّق النّظر في إحدى أوراقه، ثم رفع رأسه وسأله: حمدان سلامة والدته فضة..؟

ــ نعم أنا هو يا أستاذ..

ــ ألك قريبٌ يحمل نفس اسمك واسم والدتك..؟

ــ لا.. لا.. أجاب حمدان مستغرباً..!

زمجر الموظف غضباً: أتراك ظننتَ أني فارغ الأشغال فجئتَ تـتسلّى معي..؟! اذهب إلى قريتك فمجالات التّسلية فيها أوسع..! لعن حمدان في سرّه الساعة التي رشّح نفسه فيها، والساعة التي انتُخب فيها مختاراً..! ثم خاطب الشاب بودّ مخنوق: اسمعني

يا بني: أنا لا أحبّ التسلية، ولا إلهاء الآخرين عن أعمالهم، كل ما في الأمر أن أهل قريتي انتخبوني مختاراً، وقد جئت أتسلم مهامي، فما الذي يُزعجك في الموضوع..؟

قال الموظف بنفاذ صبرٍ:

لا.. لا.. لاشيء أبداً سوى أن حمدان سلامة قد توفي من شهر،

وهذه شهادته وفاته، وعليها توقيع مختار أم العظام..!

صُعق الرجل..! وراح يتلمّس جسدهُ وكأنه يتأكّد من وجوده.. ويُبربر غاضباً: أنا ميت..؟ كيف.. وأنا أمامك حيّ أرزق..؟!

أجاب الموظف بتأفّف: يا عم.. ياعم.. أنا لا أفهم إلا بالمستندات
الرسمية، أنت ميت.. أقصد حمدان مات وشبع موتاً..!

فلا تـُعذبني أنا مشغول..

حمل حمدان شهادة وفاته، وعاد يجرّ جثـّته إلى تلّ العظام.. دخل داره، وجد الناس ينتظرونه للاحتفاء به، وبعهدٍ جديد صنعوه بأيديهم.. رفع شهادة وفاته لافتةً فوق رأسه، وراح يدور بينهم ويرقص بجنون، حتى سقط مُضرّجاً بموته..!

وشيّع أهل قريتي مختارهم الجديد..! صنعوا من الأوراق الانتخابية التي حملت اسمه وسادةً يرتاح عليها رأسه المكدود، وغطاءً يستر جسده المقرور..! أما شهادة وفاته التي أحضرها بيديه، فقد نصبوها شاهدةً لقبره..!

في صباح اليوم التالي فوجئ الناس الذين حضروا لزيارة القبر باختفاء الشّاهدة..! بحثوا عنها دون جدوى.. صاح أحدهم بصوتٍ مقلوب: انظروا هناك.. التفت الجميع إلى المكان الذي أشار إليه الرجل، نبقتْ أعينهم.. اصطكّت أرواحهم.. عندما رأوا فزّاعةً عملاقةً تـتوسّط الحقول، ترتدي مئات النسخ من تلك الشهادة..

بقلم: توفيقه خضور

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى