السبت ٧ آذار (مارس) ٢٠٠٩

الذئب الخروف

بقلم: فتحي العابد

في مكان مجهول لا تعرف موقعه بسهولة يعيش راع وأغنامه وكلابه.. لكن الراعي لايشبه الرعاة الآخرين.. فهو لايعرف للرحمة معنى.. ولا يعتقد أن للألم وجودًا.. يحمل بدل المزمار صفارة.. وبيده هراوة، كان ظالما. وكانت النعاج التي يحلبها، ويجزّ صوفها، ويبيع أمعائها، ويأخذ بعرها، ويسلخ جلدها، ويأكل لحمها، ويستفيد من كل مافيها.. لا يكن لها شفقة أو محبة.. يحلب الأغنام يوميا ثلاث مرات حتى يسيل الدم من أثدائها.. وعندما تشكو ذرافة الدموع من عينيها، ينهال عليها ضربا على رؤوسها وظهورها.

لم تحتمل النعاج وحشيته فكانت تتناقص يوما بعد يوم.. لكنه ازداد قسوة.. فقد كان على العدد المتناقص من الأغنام، أن يعوضه، عن كل ماهرب أو مات من القطيع.. وقد فقد الراعي عقله وجن، لأنه كان يحصل على حليب وصوف أقل مما كان يحصل عليه من قبل، وراح يطارد الأغنام المتبقية في الجبال والسهول، حاملا هراوته.. ومطلقا كلابه أمامه...

كان بين الأغنام خروف نحيف يريد الراعي حلبه.. والحصول منه على حليب عشرين بقرة.. وكان غضبه أنه لا يحصل على قطرة حليب منه.. لأنه ببساطة خروف، وليس نعجة..

وفي يوم غضب الراعي منه، وضربه ضربا مبرحا جعله يهرب أمامه.. فقال له الخروف: "ياسيدي الراعي أنا خروف لا يمكن أن تجد في حليب، وقوائمي مخصصة للمشي وليس لكل هذا الركض هربا منك... الأغنام لا تركض! أتوسل إليك أن لا تضربني.. وأن لا تلاحقني بعد اليوم". لكن الراعي لم يستوعب ذلك، ولم يكف عن ضربه.

ومع الأيام بدأ شكل أظلاف الخروف تتغير، لكثرة هروبه إلى الجبال الصخرية، والهضاب الوعرة، للخلاص من قسوة الراعي القاتل.. طالت قوائمه ورفعت إليته.. فازدادت سرعة ركضه هربا، لكن الراعي لم يترك الخروف، فاضطر الخروف للركض أكثر وأسرع، ولكثرة تمرغه فوق الصخور المسننة، انقلعت أظلافه ونبتت مكانها أظافر من نوع آخر.. مذببة الرأس ومعقوفة.. لم تعد أظافر بل أصبحت مخالب.

مرة أخرى لم يرحمه الراعي، فواصل الخروف الركض والهرب، فكان أن شحبت بطنه إلى الداخل.. واستطال جسمه من كثرة القفز.. تساقط صوفه.. ونبت مكان الصوف وبر رمادي قصير وخشن.. وأصبح من الصعب على الراعي أن يلحق به.. لكن ماإن يلحق به حتى يواصل ضربه وإهانته. وهو ماجعل الخروف يرهف السمع، حتى يستعد للهرب كلما سمع صوت قدوم الراعي أو كلابه.. ومع تكرار المحاولة انتصبت أذناه، وأصبحت مذببة، قابلة للحركة في كل اتجاه.. على أن الراعي كان يستطيع الوصول إليه في الليل وضربه براحته، فالخراف تنام بالليل.. وفي ليلة حذر الخروف سيده الراعي بأن كثرة ضربه له يمكن أن تحوله إلى شيء آخر غير الخروف.. ووقتها سيقتص منه.. لكن الراعي زاد جنونه مما سمع.. وزاد في تعنيفه للخروف المسكين. فكان أن بات الخروف يسهر الليل، حراسة لنفسه، ويحدق بعينيه في الظلام.. وكثر تحديقه حتى كبرت عيناه.. واحمرّتا.. وغدت عيناه كجمرة في الليل.. تطلقان شررا.. وتريان في الظلام أيضا.

كانت نقطة ضعف الخروف هي إليته.. فهي ثقيلة تعطله عن الركض. لكن لكثرة الركض والهرب ذابت إليته.. واستطالت.. وفي النهاية أصبحت ذيلا على شكل سوط.. ورغم فشل الراعي في اللحاق به، فإنه كان يلقي عليه الحجارة ويؤلمه.. ورغم ذلك كان الخروف يكرر على مسامع الراعي: "إنني ياسيدي ولدت خروفا وأريد أن أموت كبشا.. فلماذا بإرهابك هذا تضغط علي كي أتحول إلى مخلوق آخر"؟

لم يكن الراعي يفهم، فبدأ الخروف يهاجم الراعي دفاعا عن نفسه، عندما كان يحصره في حفرة، أو زاوية ما لحماية نفسه من الضرب. وغضب الراعي أكثر.. فضاعف من قسوته، وأخذته حالة من الهستيريا والحمى الجنونينة لم يشعر بهما من قبل.. فاضطر الخروف أن يستعمل مخالبه وأسنانه، لكنه لم يستطع عض الراعي لأن أسنانه داخل ذقنه المفلطح.. فصار يتدرب على إطالة أسنانه أكثر فأكثر، وبعد محاولات دامت أياما، بدأت أسنانه تنمو.. وأصبح صوته خشنا وغليظا، وفيما بعد استطال لسانه أكثر.. ورغم كل هذا لم يستوعب الراعي الدرس، وواصل مايفعله بالقسوة نفسها، بل عظمت.!

ذات صباح شتوي استيقظ الراعي مبكرا ليجد المكان مغطى بالجليد، وتناول هراوته التي سيحث بها نعاجه المتبقية على إدرار الحليب. وتوجه نحو الزريبة، لكن ماإن وضع رجليه خارج الباب حتى وجد بقعا من الدم تغطي أجزاءا من الثلج.. ثم رأى أشلاء أغنام متناثرة هنا وهناك.. لقد قتلت كافة النعاج ومزقت، ولم يبق منها ولا واحدة.. وفرك عينيه بيديه ونظر بعيدا فرأى الخروف..

كان الخروف قد مد قائمتيه الأمامتين قدامه، وتمدد بجثته التي صارت ضخمة على الثلج، وهو يلعق بلسانه الطويل الدماء من حول فمه.. ثم رأى كلبا حراسة يتمددان على جانبيه، مطيعين له دون فعل شيء.. ونهض الخروف وسار بهدوء نحو الراعي.. وكان يصدر صوتا مرعبا.

وبينما الراعي يتراجع إلى الخلف مرتجفا قال متمتما: "ياخروفي.. ياخروفي.. ياخروفي الجميل.."

عوى الخروف قائلا: "أنا لم أعد خروفا"!

كرر الراعي ماقاله من قبل، فعوى الخروف مرة أخرى وقال له: "في السابق كنت خروفا، ولكن الآن بفضلك أصبحت ذئبا.." وجرى وراءه........ وأخذ حقوق النعاج كلها.

بقلم: فتحي العابد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى