الأربعاء ١١ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم حسن خاطر

هات إيدك يا أبي

آه آه آه... هذا كل ما كان يتلفظ به حمد دوما عندما كان يقوم أبوه بعقابه نتيجة خطأ ما كان يصدر منه أو عندما كان الأب يريد تهذيب سلوكا معينا لدى إبنه يرى من وجهة نظره أنه يحتاج إلى إصلاح.. حمد إبن التسعة أعوام كان طفل هادئ الطباع نحيف الجسم مرهف الحس وكل مشاكله في الحياة ذلك الأب الذي كان يحمل بين جنباته قلبا قاسيا ووجها دائما عابسا ويدين غليظتين يبطش بهما ويضرب بهما بقسوة شديدة وبكل ما أوتى من قوة.. وكان حمد يخشى والده هذا وترتعد فرائصه كلما رآه أو كلما سمع صوته.. حيث كان الأب يكيل لحمد إبن التسعة أعوام ضربا لا يتحمله ولا يطيقه شاب في العشرين من عمره مفتول العضلات قوي البنية.. وكان أبوه يتلذذ عندما يزيد من قسوته لإبنه حمد فتارة كان يطلق العنان ليديه كي تلقي بالصفعات على خدي حمد وقفاه في صورة ضربات متتالية وقاسية، وأحيانا كان يجعله ينام أرضا ويقوم بضربه بعصاة على قدميه من أسفل إلى أن تتورمان، وفي أغلب الأحيان كان يقوم ذلك الأب القاسي بضرب إبنه حمد بسن المسطرة على أصابعه من الخلف ضربات متتالية وعنيفة وشديدة.. وما كان لحمد من حول ولا قوة سوى البكاء وترديد آه آه آه.. وكان الأب لا يسمح لأم حمد أن تقوم بإنقاذه من بين يديه فكان الأب يخصص حجرة للعقاب بعيدا عن سمع ونظر كل من في البيت.. حجرة كان يطلق عليها (حجرة التهذيب والإصلاح) في حين أن ما كان يحدث بها كانت قسوة وجبروت وكان من الأجدر أن يطلق عليها غرفة (التعذيب والإذلال).. أو غرفة (الفزع والمهانة).. (الرعب والخوف).. وما إلى ذلك.

وكالعادة.. ذات يوم أراد ذلك الأب الخالي قلبه من الرحمة والشفقة أن يقوم بتعذيب إبنه حمد لمجرد خطأ بسيط يعتبر بمثابة زلة أو هفوة.. فأدخله عنوة إلى غرفة التعذيب والإذلال والمهانة وسط صراخ وبكاء وتوسلات حمد بأن يتركه ويعفو عنه.. إلا أن الأب القاسي لم يرحمه واخذ يكيل له الضربات العشوائية على ظهر يده اليمنى تارة وظهر يده اليسرى تارة أخرى.. وعلى كفي يديه تارة ثالثة وذلك بظهر المسطرة الحديدية.. وبعد فترة مرت على على حمد كالدهر.. إنتهت وصلة التعذيب والعقاب وذهب حمد حاملا الآهات والدموع إلى حضن أمه التي شاركته البكاء وأرادت تخفيف الآلام عنه ولكنها لم تفلح.. وأراد حمد النوم في ليلته تلك إلا أنه فشل في هذا.. فكيف له أن ينام ويديه تصارعان الآلام بل وجسده كله يؤلمه.. وعيناه لا تكفان عن البكاء.. والظلام من حوله لا مثيل له.. ولكن الشيء الوحيد الذي يعشقه حمد في هذا الظلام هو أن والده ينام فيه ويخلد في سبات عميق ويخلد معه قسوته وجبروته وغطرسته وغلظته..

وسط الآلام والأحزان والدموع قضى حمد ليلته.. وفي صبيحة اليوم التالي لاحظت أم حمد أن يد إبنها الأيمن تزداد ورما ويميل لونها إلى اللون الأزرق.. والآلام لا تبارحه.. أسرعت به إلى الطبيب في المستشفى وهاله ما رأى.. حيث كانت اليد اليمنى لحمد مدهشة لكل من يراها أو يسمع تأوهات حمد نتيجة للآلام التي يعانيها في يده.. وبعد أن تفحصها الطبيب وبعد أن شاهد صور الأشعة التي قام بإجرائها على يده.. صاح الطبيب قائلا إن الشريان الرئيسي لليد مقطوعا ويجب إجراء عملية بتر لكف اليد بالكامل لإنقاذ الشريان والذراع والجسد كله.. وتوسلت الأم للطبيب وسقطت على قدميه تقبلهما راجية إياه ألا يقوم بهذا العمل خوفا على نجلها ومستقبله إلا أن الطبيب قال - وقد ظهر عليه التأثر والحزن - أن هذا هو الحل الوحيد في مثل هذه الحالة ولا حل آخر لها، فلكي يعالج ما أصاب الكف ولكي يحافظ على باقي الذراع وعلى الجسد كله لابد وأن يقوم بهذه الخطوة.. سقطت الأم مغشيا عليها من هول الصدمة وأخذ حمد يصرخ ويبكي ويقول للطبيب (أيدي لا يا دكتور.. لا تقطعها.. ماذا عساي أن أفعل بدونها؟.. كيف ألعب؟.. لن أستطيع أن ألعب البلايستيشن.. ولن أستطيع أن ألعب على الكمبيوتر.. كيف سأصافح أصحابي؟ واخذ يصيح.. سامحك الله يا أبي ألهذا الحد بلغت قسوتك؟).. وصاح الطبيب فيهم.. لا وقت للإنتظار وإلا حدثت مضاعفات عديدة.. ويصبح الأمر أكثر فداحة وقسوة على حمد.. أرسلت الأم أحد معارفها إلى الأب ليحضر للمستشفى كي يساعدها في إتخاذ قرار غاية في الصعوبة مثل هذا.. جاء الأب وقابل الطبيب وعرف ان كف يد إبنه سوف يتم بتره بالكامل.. لم يندم أو يحزن الأب ولم يسقط دمعة واحدة من عينيه بل صاح في وجه زوجته وقال لها شقاوة إبنك واخطاؤه الكثيرة هي التي أوصلته لحاله هذا.. إنه يستحق هذا وأكثر.. والتفت الأب للطبيب قائلا له.. أفعل فيه ما بدا لك يا دكتور، طلب الدكتور من والد حمد التوقع على إقرار بالموافقة على بتر كف يد حمد اليمنى بالكامل.. قام الأب بالتوقيع على الإقرار بكل أعصاب باردة وبلا مبالاه.. ذهب الطبيب بحمد إلى غرفة العمليات وانتظر الأب والأم خارج الغرفة.. وما هي إلى ساعة زمنية إلا وخرج حمد من غرفة العمليات تاركا كف يده اليمنى داخلها وقد لفها الطبيب بقطع من القطن والشاش تمهيدا لإرسالها إلى حيث مصيرها.. الدفن في المقابر.

تخلص جسد حمد من المخدر الذي أعطوه له قبيل إجراء العملية وبدأ يشعر بآلام البتر في ذراعه ونظر حمد حوله فوجد أمه تحتضنه.. إنها ملاذه الوحيد والقلب الحنون بالنسبة له.. أما الأب سبب هذا البلاء وكل بلاء فقد كان يقف بعيدا عن حمد وأول ما شاهده صاح في وجهه قائلا له.. (شفت آخر شقاوتك وعدم سماعك الكلام وأخطاءك الكثيرة أوصلتك إلى إيه؟.. لقد بتر كف يدك وهذا اكبر عقاب لك).. يا لها من قسوة بالفعل.. أتعنف إبنك أيها الأب القاسي وهو خارج لتوه من غرفة العمليات بعد أن بتر الطبيب كف يده؟.. هكذا صاحت أم حمد في زوجها.. لم اراك تبد ندما على ما فعلت بإبنك ولم أراك تسقط دمعة واحدة حزنا عليه.

صاح الزوج في وجه زوجته وردد ما قاله من قبل (يستاهل.. هو اللي جابه لنفسه).. وترك المستشفى ورحل إلى المقهى حيث إعتاد أن يجلس يتسامر مع أصحاب له وقضى ليلته وكأن شيئا لم يحدث.

وما هي إلا أيام وغادر حمد المستشفى والحزن يملأ جسده وكيانه على فقده لكف يده اليمنى.. وأصيب بإحباط شديد وأصبح مكسور النفس مطأطئ الرأس.. وكان كلما ذهب إلى المدرسة أو سار في الشارع وشاهد أقرانه كان يقول في نفسه (يا جميل حظكم.. لديكم آباء ولكنهم ليسوا مثل أبي.. حاد الطبع.. خالي قلبه من الشفقة والرحمة.. غليظ المشاعر بل متبلد المشاعر.. عديم الإحساس).. وظل لفترة طويلة لا يستطيع التأقلم مع وضعه الجديد.. باتت دراجته التي يلعب بها مهملة.. بات البلايستيشن - الذي كان يلعبه مع أصدقائه - بالنسبة له أمر في غاية الصعوبة لا يستطيع أن يمارس ألعابه لأنها تحتاج اللعب بيدين لا بيد واحدة فهجر أصدقائه الذين كان يذهب معهم للعب البلايستيشن عن جارهم سعيد.. عندما كان يصلي حمد لله تعالي كان لا يقوى على رفع يديه للدعاء أو التشهد كما علمته مدرستة في المدرسة وكما علمته والدته في البيت.. أصبح بالفعل عاجزا عن كل شيء..

لملم حمد جراحه وإنطوى على نفسه وظل يعيش كما هو.. كما قدر الله له أن يكون.. عرفت الأحزان الطريق إلى قلبه رغم صغر سنه ورغم طفولته.. ماتت طفولته مبكرا وأصبح لا حول له ولا قوة وجلس في البيت والتزم حضن أمه وأصبح لا يغادر البيت لأنه كان يتضايق من أستفسار الأطفال خاصة عندما يسألونه.. (ايدك فين يا حمد؟).. وكان البعض يستهزأ به والبعض الآخر يواسيه وكان يقول في نفسه (هذا ما جناه أبي عليّ وكثيرا ما قال في نفسه مخاطبا والده (ليتك ما كنت أبي)..

ومرت الأيام بحمد وكانت قسوة والده مستمرة معه ولم تفارقه وإن كانت الأساليب قد إختلفت بعض الشيء فبعد أن كان يدخله والده غرفة (التعذيب والإذلال) أصبح يعذبه نفسيا حيث أنه كان دائما يهدده ويقول له.. (وبعدين معاك.. عاوز تفقد إيدك التانية كمان والا إيه؟) وهنا كانت ترتعد فرائص حمد خوفا وهلعا.. فالأب يتلذذ بتعذيبه ولا تهمه النتيجة.. ولم يعبأ أبدا بما حدث لإبنه من بتر لكف يده بسببه بل عاش حياته كأن لم يحدث شيء على الإطلاق.

وما هي سوى سنوات عدة وأصبح حمد شابا يافعا وإزداد طولا وعرضا وزادت معه مشاكله بسبب فقدانه لكف يده.. وساءت حالته النفسية سوءً وأصبح شابا معقدا كارها لوالده ولكنه كان لا يزال يرتعد فرائصه منه لأنه أب قوي البنيان شديد البأس لا يتورع من أن يكيل لإبنه القسوة والعنف على الرغم مما يعانيه..

وذات صباح قريب توفى الأب فجأة وأصبح جثة بلا حراك.. ودخل عليه حمد وهو يبكي وقد شاهده لأول مرة رجلا هادئا لا جبروت ولا غلظة.. ولا شخط ولا صياح بقسوة.. رجلا ساكنا رغم أنفه.. رجلا هزمه الموت.. نظر إليه حمد وصرخ في وجهه وقال له.. (إلى أين أنت ذاهب أيها الأب.. كيف تتركني هكذا.. معوقا وقد بتر كف يدي بسببك.. هات يدك يا أبي.. أنا أولى بها منك.. لقد بطشت بها طوال حياتك وفعلت فيّ الأفاعيل بواسطتها.. هات ايدك أضعها بدلا من يدي.. هات يدك كي أستطيع أن ألعب بها مع رفاقي.. كي أستطيع أن أقود بها دراجتي.. كي أستطيع أن أرفعها مع يدي الأخرى لله تبارك وتعالي أدعوه بهما.. هات يدك كي أرفع أصبعي أثناء الصلاة وأشهد بها أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.. هات ايدك كي أستذكر بها دروسي وأعود بها إلى مدرستي.. هات ايدك التي ضربتني بها لسنوات عديدة كي أستطيع أن أتزوج وأنجب بها طفلا أحنو وأعطف عليه وأعامله بمودة وشفقة ورحمة لا كما كنت تعاملني أنت.. اليوم فقط يا أبي أراك وديعا.. مستسلما.. لا غلظة ولا قسوة.. لا ضرب ولا تعذيب.. إنها دقائق معدودة وتلقى فيها الله عز وجل وسوف يسألك عما فعلته فىّ فماذا ستقول له؟).

وأمسك حمد بواسطة يده اليسرى بملابس والده وهو مسجى على سريره في إنتظار تشييع جثمانه إلى مثواه الأخير وأخذ يصرخ بصوت عال (آه آه أه يا أبي.. ليتك ما كنت قد فعلت ما فعلت).. وأمسك بيده اليسرى يد أبيه اليمنى وأخذ يقبلها ويقول.. (سامحني يا أبي.. سامحني يا أبي فلأول مرة أستطيع أن أرفع صوتي عليك وأكون قاسيا عليك في كلامي.. ولك أن تعذرني في هذا.. فأنت تركتني وقلبي ملئ بالهموم ومستقبلي مليء بالغموض.. تركتني والقهر يملأ كياني والخوف على الآتي من حياتي يملأ فؤادي).. وانحنى حمد على خد والده يقبله قبلة الوداع قبيل أن يوارى جثمانه الثرى.

وهكذا رحل الأب ورحلت القسوة والجبروت من البيت وأصبح البيت بلا رعب أو خوف ولكن لا يزال قلب حمد ملئ بالهموم والخوف على مستقبله وكلما كبر عمره كبرت معه همومه وإزدادت نفسيته سوءً ولكنه قرر أن يواجه المجتمع ويتحدى إعاقته فبدأ في تعلم الكتابة بيده اليسرى وبدأ يدرب نفسه على التعامل مع جهاز الكمبيوتر بيد واحدة وأصبح يرتاد المساجد ملبيا ومصليا لله تبارك وتعالى وإن كان أصبح يدعو بلا يدين مرفوعتين ويتشهد باللفظ والقلب فقط.. وهكذا بدأت تسير بحمد الأيام والليالي ولكنه لا يزال معتزلا أصحابه هروبا من أسئلتهم الدائمة له.. (أين أيدك يا حمد؟).. (كيف تستطيع إرتداء ملابسك؟).. (هل تؤلمك يا حمد؟).. (من فعل بك هذا؟).. (كيف تأكل؟).. (كيف تشرب).. فكان أشد ما يؤلمه تلك الأسئلة التي كان يطرحها عليه البعض.. فقرر إعتزال الجميع فكان يقضي كل أوقاته في البيت يرعى أمه التي يعشقها كل العشق خاصة بعد وفاة والده لأنها أول شيء قامت بعمله بعد وفاة زوجها هي غلق غرفة (التعذيب والإذلال) إلى الأبد فكان حمد لا يحب أن يدخلها أبدا منذ وفاة والده لأنها بالنسبة له تمثل الغرفة الكئيبة التي كان يقضي فيها أسود لحظات عمره منذ صغره إلى أن شهدت آخر جرعة تعذيب له والتي بتر بسببها كف يده.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى