الأربعاء ١٨ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم مجدي علي السماك

ذكريات في ركام

إحساس مقيت بالوحدة هو ما كان يهري روح ماجد وينهشها بحدة حين انتقى أثخن إصبعين من كفه المصلّطحة، وبرم بهما طرف شاربه المتناثرة شعراته على خديه وحول أنفه بعشوائية كبرى، ولم تتركه أصابعه وظل يفتله حتى أيقن أنه صار رفيعا مثل الخيط، كأنه ينوي لضمه في إبرة. وعلى ما يبدو نسي الطرف الآخر غير مبروم.

ثم في حرص كبير ارتدى ماجد معطفه الوحيد القديم الذي تختخته الأيام، والذي يصل ذيله الممزع إلى الركبتين، وبتأن أغلق ما استطاع أن يعثر عليه من أزرار نحاسية مدورة، ملصوق عليها غبار ناشف عتيق.

وفي تلك اللحظة كان ماجد مسهدا، تبلبله روحه الحائرة، يفكر في طريقة يزيح فيها عن كاهله وحشة الوحدة القاحلة. وفي رغبة جامحة تمنى لو أن معه قرشين، ليذهب مثلما كان يذهب في أيام ما قبل الحرب إلى مقهى أبي خليل السنكري في وسط البلد، ويجلس واضعا رجلا فوق رجل، ويمّيل الطاقية على رأسه مثلما يمّيلها أبو خليل صاحب المقهى، ويسهر مع أصحابه الذين من المؤكد أنهم ما زالوا سهرانين يشربون الشاي، ويلعبون الورق والنرد. وأخذت منه الحيرة مأخذها وهو يحسب ويعمق التفكير، ويضرب أخماس في أسداس أين يسهر.. آه صحيح والله.. أين يسهر؟

ثم في خدر لا لذة فيه ساقته ساقاه المرخيتان إلى باب خيمته الزرقاء، التي وهبتها له وكالة غوث اللاجئين ليسكن فيها ويعيش.. كانوا قد سلموها له بعد أن نسف الصهاينة بيته المكون من طابقين، خلال الحرب الجريمة على غزة.
وعند باب الخيمة على وجه التحديد وقف ماجد، وكان في وقفته اضطراب لا يخلو من ضجر، وترك جسده العريض يرتخي ويسدّ فضاء الباب، ويملؤه كله حتى لم يبق منه ولا نتفة فراغ. وأكثر ما كان يزعج ماجد في الخيمة ويجعل روحه تطق منها، ليس فقط برودتها.. ولكن أيضا قدماه اللذان يخرجان من بابها في الليل حين ينام.. بسبب طوله الزائد عن المألوف. فيضطر إلى النوم مع قطرها، ورغم القتال المرير الذي يخوضه ليحشر جسده فيها، سوى أن رأسه وقدماه المثنيتان تلمس أطرافها من الحواف إلى الحواف.. ثم ينام في معطفه فاتحا عينيه مثل السمكة، تاركا البرد يسلّخ بدنه إلى أن يطلع الصبح.

وبعد انتهائه من إغلاق آخر زر، أوكل ماجد لأصابعه مهمة أخرى، وبحذر تلّمس بها شحمة أذنه التي حسها جامدة وبالكاد مشبوكة في رأسه ويخشى أن تهوي منه في أي وقت، وقد تسلطت عليها الأربعينية بكل ما فيها من برودة قارصة، فحمّرتها وجمّدتها، وجعلتها كأنها خارجة لتوها من ثلاجة. كل هذا لأن طاقيته الصوف الضيقة على رأسه المضلّعة، والمضغوطة فيها ضغطا، لم تفلح رغم القوة التي جذبها بها إلى تحت في تغطية أكثر من نصف أذنيه، وبالكاد وصلت حوافها بعد طول شد وجذب إلى الثقبين.. وكثيرا ما كان ماجد يتفاخر أمام أصحابه حين يسهرون، بأنه اشتراها بخمسة شواقل دفعها عدا ونقدا من سوق السبت، الله وحده يعلم متى اشتراها، ربما منذ سنتين، لأن فيها ثقبين واسعين مدوّرين، ومن كل ثقب تطل خصلة من شعره الخشن الأسود. ثم انتبه ماجد فجأة إلى نفسه، وصحصح دون أن ينبهه احد على موجة ذكريات ندية هبت في خاطره وفارت، وبتوتر راح يعلي حواجبه ويهز رأسه، وبراعم تكشيرة نبتت على أطراف خديه وامتدت جذورها إلى بقية وجهه، كمن تذكر شيئا على غاية الأهمية كان قد نسيه منذ زمن، وعلى الفور بدأ بلهفة وعناية خبير يبرم الطرف الثاني من شاربه. فصارت نهايتي شاربه الطويل كما كانت تحب المرحومة زوجته أن تراها مرفوعة إلى أعلى في موازاة عينيه، صانعا حدوة حصان. وبشاربه العظيم هذا كانت تتباهي المرحومة أمام جاراتها، وترفع رأسها مزهوة به أمام معظم نساء الحارة.. وكانت السعادة تعصر قلب ماجد كلما أكثرت زوجته الحديث والتباهي.

وكثيرا ما كانت زوجته رحمها الله تقرب وجهها الغض في فرح وافر من وجهه الأسمر المبذور بالنمش، والذي كل نمشة فيه تهتف بحبها وغرامها، وتمد في بهجة عظمى ودلال ناعم انفها الصغير وتدنيه من شاربه المعطّر لتشمه بإسهاب، بعد أن يفرغ من حلاقة ذقنه.. وفي أحيان ليست نادرة كانت المرحومة تستغفله وتنقض عليه بشفتيها الرقيقتين وتباغته وتخطف منه قبلة أو قبلتين، ومرات أكثر.. بعدها يذوبان في ضحك خصب مجلجل فيه نشوة وحياة.. ثم يتبعه ماجد بهجوم مضاد محبب إلى قلبها، بفمه الواسع الذي يكفي لابتلاع دجاجة حية بأكملها دون أن يبين لها ريش.

زادت البرودة انكماش ماجد داخل معطفه غير المكوي، ولشدة البرد شعر كأنه شلّح كل ملابسه. وشيئا فشيئا عادت إليه حيرته التي دوخته واستحكمت في روحه.. أين وكيف يسهر هذه الليلة؟. آه لو معه عشرة شواقل، أو حتى ثمانية.. ستكون سهرة معتبرة!.

ومن أسفل شاربه المرفوع انسلخت عن شفتيه الباردتين كلمات جافة فيها قسوة، راحت تسبح حوله وتطوف وهي تلاحق صداها العائد ثانية إلى أذنيه..

 الله يرحمهم.. معقول يكونوا ماتوا؟ ولم يبق لي في الدنيا بعدهم سوى خيمة!
وتذكر ماجد زوجته التي ماتت رغما عنها، قتلتها الحرب، ولاح في ذهنه وجهها الأكثر بياضا من معجون الأسنان وهو يطل باسما من وسط الظلمة، ورائقا تراءى له كأنه مغسول بماء زمزم. ورغم طول وقت التذكر لم يستطع ماجد أن يشبع تماما من وجه زوجته، ولا شبع حتى من جماله الخلاب على ما فيه من روعة وبهاء، فهو يحبها ويموت فيها ويذوب كلما تذكرها كقطعة سكر، وقد اشتاق لرؤيتها إلى حد يصعب وصفه بكل لغات بني البشر، العامي منها والفصيح.. فراح بكل جوارحه وباندماج بالغ يستدعي إلى ذهنه وجه طفلته الرضيعة، التي كان لها وجه مرمري وضاء ابيض، كثيرة الشبه بأمها، سبحان الله كأنما حبة فول وانقسمت إلى نصفين.. مبتسمة خالها ومستكنة في كافولة مثل البفتة بيضاء.

أصل بالعربي الفصيح لمّا نزل أول صاروخ على بيتهم وانهار جزء منه.. خرجوا جميعا وابتعدوا مشدوهين إلى الحارة المجاورة، وبسرعة وقتها تناولت زوجته بلا وعي طفلتها الرضيعة الملفوفة في الكافولة، وزيادة في الحرص العفوي الذي منبعه غريزة الأمومة الخالدة، لّفت بسرعة ملاءة فوق الكافولة، اتقاء للبرد الذي كانت شدته ترجف الأجساد وتنفضها.. ولمّا وصلوا جميعهم يلهثون إلى مكان أكثر أمنا.. أزاحت زوجته الكافولة لترضع طفلتها، فسبق صراخها المدوي يديها ورمت الكافولة بما فيها على الأرض، لأنها اكتشفت أنها لفّت وسادة بيضاء صغيرة بدل طفلتها الرضيعة.. ولم يكن بإمكانها تصديق أو تخيل أنها أخطأت.. ولو جاءت كل الدنيا لحظتها لفشلت لا محالة في إقناعها أنها استبدلت الرضيعة بالوسادة.. ثم جرت المسكينة مشتعلة هائجة إلى الحائط لتضرب به رأسها عله ينكسر، لوما زوجها الذي لحقها على الفور وامسكها وهدأها، أو بالأحرى والحق يجب أن يقال هو حاول تهدئتها، وصار يحضنها، ويطبطب عليها. لكن أعصابها المشتعلة لم تستجب لما حولها وظلت متوحدة في ذاتها المفجعة.. والفعل الوحيد الذي كانت تصدره هو الصراخ المجروح. وفي الحال خرجت مسرعة مثل المجنونة عائدة إلى البيت لتجلب الرضيعة، رغم خطر الطريق الذي ينذر بالموت الأكيد، وكانت الدنيا ليلتها عتمة مثل الكحل. ولمّا وصلت وجدت زوجته يا ويلي عليها بيتهم مهدما بالتمام ولا يوجد فيه حجر على أخيه.. ولمّا صارت تبحث عن جثة الرضيعة في العتمة وسط الركام سقط عليها صاروخا آخر وقصف عمرها في المكان.

ابتعد ماجد عدة خطوات عن باب خيمته ومحيطها.. وراح ينظر إلى بيوت حارته التي تحولت كلها في ليلة واحدة إلى ركام.. ركام على مرمى حجر. وحدثته نفسه بقضاء سهرته وسط ركام بيته.. الذي استطاع معرفته بعد يوم كامل من البحث والتنقيب.. حيث اختلط الركام بالركام، وتداخلت مع الجدران جدران.. والدماء في الدماء امتزجت.

صحيح والله! لماذا لا يسهر وحده وسط ركامه؟

وما هي سوى خطوات قليلة مشاها لا يأس فيها ولا مضض.. حتى صار ماجد متربعا على عرش حطامه.. لوحده قد يظل سهرانا.. ناظرا إلى خيمته القريبة.. التي على مرمى حجر.

أول ما وصل ماجد جلس فوق ركام المطبخ، الركام المفضل لديه.. حيث كانت زوجته تعد أشهى الطعام وأرخصه، قبل الحرب وقبل الموت.. وكانت رائحة طهوها اللذيذ تفوح وتنتشر متسربة إلى أنوف الجيران وكل أنوف الحارة.. وكان الجيران يودون لو باستطاعتهم أن يحركوا سبابتهم في فتحات أنوفهم يوسعونها فيشمون أكثر. وانتبه ماجد وقد لقي نفسه يحرك إصبعه بلا وعي منه صوب أنفه، لكنه لحق حاله ونزل يده ودسها بسرعة في جيبه.. لكن لسانه ظل يلف ويدور في أرجاء فمه يتذوق طعامها.. ويستطعمه.

ثم قام ماجد.. وجلس فوق ركام غرفة النوم، ومن وسط الركام أشرق وجه زوجته ونوّر.. وتذكر ليلة الدخلة بكل تفاصيلها. وراح ينبش في ذاكرته ويعود بها إلى وراء، ويبتعد أكثر إلى ما وراء الوراء.. إلى أيام الخطوبة الحلوة. وخاصة الأيام التي كان يعزم فيها خطيبته إلى الكافتيريا.. ويشتري لها ليطعمها من توفيره ساندويتشات، ويسقيها العصير حتى ترتوي.. ومرات كان يشرّبها كوبا من الخروب إذا كان مفلسا.

ورغم كل التفاصيل التي تراءت له إلا أنه لم يشبع ولم يرتو. فظل يتذكر ويوغل في التذكر.. حتى أحال كل ماضيه إلى ذكريات تعيش في حاضره، وحوّل حاضره أيضا إلى أقوال تذوب في ماضيه الساكن في داخله. حتى ما يظنه أنه مستقبله، سحبه أيضا وأذابه في كوكتيل ماضيه وحاضره معا.
تقدم الليل وتحولت عتمته إلى أشلاء مكان، ونثار زمان تستبد في قلب ماجد الذي اختلطت فيه زوجته بالركام ورضيعته بالحطام.. وعاد ثانية إلى خيمته التي على مرمى حجر.

ما إن دخل إلى الخيمة حتى هيئ له رؤية وجه زوجته وهو يبتسم.. ورضيعته التي راحت تخرج له يدها من الكافولة.. وترسم له بأصابعها الرفيعة إشارة النصر.. إشارة جعلته يفكر إن كانت قادمة إليه من الماضي أم الحاضر أم الآتي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى