الثلاثاء ٢٤ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم حميد طولست

السلطــة

كل نفوس بني البشر للنفوذ تواقة، وللمناصب المخزنية ميالة، وبالعزة والجاه مغرمة، ونحو النخوة منجذبة، وفي الأبهة والبريستيج راغبة. خلاصة القول: السلطة سلوك لا يعترف بحدود، ولا يقر بقيم، ولا يخضع لانتماء؛ وسحر لا يقاوم، وإغراء لا يواجه. نفوذها وامتيازاتها، مغريات توقع بالصغير قبل الكبير في حبائل التلذذ بوجاهتها، والتمتع بهيبتها وانحناءات عبيدها الموظفين، قبل الشواش والسائقين وكافة المواطنين الخانعين.

ورغم أنه لا دوام لبريق السلطة، ولا خلود لأحد فيها. لكنها حينما تتمكن من النفوس الضعيفة، ُتفقد القيم خصائصها، والمبادئ دلالاتها، وتأجج حمأة التسابق الانتهازي المرير على مواقعها. فكلما عنت الفرصة، دارت على الأمة المقهورة بكل عهر مقيت، وتهتك عارم، ووقاحة فادحة، مسرحية بائسة، يتبادل أدوارها مخلوقات جعلت من السلطة ديدنها، وتخصصا لأبنائها، ومهنة لأحفادها، وامتيازا اجتماعيا متوارثا بين أقربائها، يحكمها -أو تحكمه- قانون المنفعة، ثم المنفعة، ولا شيء غير المنفعة. المنفعة التي تُذهب البصر والبصيرة، وتُبقي المجتمعات على الحصيرة؟؟؟؟؟؟، وتُشيع اليأس والإحباط في الناس، وتنشر بينهم الفقر والأمية والعطالة والتهميش، وتزيد الفوارق الطبقية والجهوية، وُتفقد الثقة في المؤسسات العامة والخصوصية.

فلا غروة أن يكون الخوف من فقدان السلطة ووجاهتها إحساس غريزي كالأمومة..لكنه يتسبب في كثير من الثوتر والقلق للكثير الكثير ممن استمرؤوا ريع امتيازاتها، وعلى رأسهم بعض منتخبينا المحترمين الذين أكلوها"باردة"في الإنتخابات السابقة، والتي كانت"ساهلة ماهلة"أمنت لهم فوزا مريحا في جو من الإسترخاء والطمأنينة.

إنها حقيقة من ألف النعاس فوق المقاعد البرلمانية المخملية، وأرائك المجالس البلدية، الذين يهزم الخوف والرعب قلوبهم كلما تخيلوا أنفسهم ينزلون من على الكراسي المريحة ليتحولوا بعدها إلى مواطنين عادين كباقي البشر الآخرين.

لقد أصابهم ذعر شديد، وارتعدت أوصالهم حين رأوا ملامح تغيير ظاهرة العلامات، جلية الدوافع، لم يتوقعوا مؤشراتها البينة، رغم ضآلتها وهم الذين لم يتعودوا على المنافسة الشريفة في حياتهم"اللاسياسية"المبنية على شعار"المقاعد لنا لا لغيرنا". فنزل عليهم ظهورالوجوه الجديدة كالصاعقة، خاصة تلك التي نالت من الإلتفاف الجماهيري ما لم يحظو به هم قط، فأرعب الكثير منهم، لما تصوروا شديد المنافسة وخطورة المزاحمة التي يمكن أن تبعدهم عن تلك الأبهة الزائفة والوجاهة الخادعة، والجاه المبني على سطوة البرلمان وحصانته، وكل ما يتبعها من مغانم ولذائذ المجالس الجماعية التي غرقوا في عسلها حتى الثمالة.

لكن بريق الكراسي عندنا يخطف الأنظار ويعمي الأبصار، ويدفع إلى حروب تباح فيها كل الأسلحة حتى غير المشروعة منها، والتي نحمد الله أن العيون لم تُغمض علنها في انتخابات تجديد الثلث السابقة، حيث قُدم بعض المزورين للعدالة التي قالت كلمتها فيهم(على علاتها) ليكونوا عبرة أثناء الإنتخابات القادمة.

وحتى تكون الانتخابات نزيهة كما يرغب فيها المغاربة ويريدها ملكهم الذي يؤكد دوما على التخليق والنزاهة. لا كما يريدها الذين أرعبهم التغيير، وأفزعتهم فكرة زوال السلطة وما إستمرؤوه من إمتيازات بلا جهد ولا كفاءة. فجاهدوا للحفاظ عليها بالعنف والإكراه وكل الوسائل المخالفة للشرع والقانون، وكابروا وعاندوا وتصدوا التغيير كسنة للحياة وقانونها الأزلي الذي لا يقبل المتخلفين عن مسايرة تواتر التحولات، وتوالي انقلابات الجدة والتجديد، التي تؤثر في الإنسان ومحيطه الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والسياسي؛ والتي أكدت الشواهد التاريخية أن الكل في تجدد مستمر، وأن الجديد لا يلغي القديم إلغاءا تاما إلا إذا تقوقع ذاك القديم على ذاته وتقاعس عن التعايش مع المتغير ورفضه، عندها ينهار ويتفسخ ويندثر. كما جاء في مقدمة إبن خلدون حيث قال ((إن الأمم وعوائدها لا تدوم على وتيرة واحدة، ومنهج مستقر، وإنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنة الله خلت))..

فالتغيير إذا فرصة نستطيع من خلاله الإحتكام إلى كل ما هو جديد ومقارنته بكل قديم من أفكار ونظريات وسلوكات.. بدلا من إجترار نفس التجارب المملة لمدد طويلة نكتشف بعد فوات الأوان عقمها وإفلاسها. لقد أثبتت التجارب أنه من دون المقارنة بين الأضداد لا يمكن التعرف على الفروق بين الرجال والأشياء والأعمال والسياسات والنتائج والألوان، كما أنه من دونه لن نتمكن من اكتشاف الكفاءات والقدرات التي تحبل بها البلاد، وبدونه كذلك لا يمكن أن نحكم ونقيم التجارب والرجال الأفضل من الأسوأ.

فلماذا يخشى هؤلاء ركوب موجة التغيير؟؟ وكأنهم بُرمجوا على نسق معين، وعلى نحو معين، حتى باتوا كالإنسان الآلي في كل أمور حياتهم، وماتت في نفوسهم روح المغامرة، وحب التجديد، وأغلقوا نوافذهم في وجه رياح التغيير.. بل خاصموا حتى نسائمه التي تمكن من استنشاق روائح الجدة، وتجريب السياسات والتكتيكات والممارسات والوجوه الجديدة في كل المجالات، وعلى رأسها العمل والتمثيل الجماعي.

و مع دنو الاستقاقات الجماعية، واقتراب انتهاء فترة مجالسها، التي حددت في ست سنوات، والتي كانت بدون شك كافية ليثبت فيها المنتخب لناخبيه أنه كان على قدر من الكفاءة والثقة وأنه أدى المطلوب منه غير منقوص..نجد الهم والغم والحزن أفسد على بعضهم ما كانوا فيه ينعمون من غبطة وفرح، خاصة عندما أحسوا برغبة وجدية تفكير المغاربة في تغيير الوجوه. بصرف النظر عما يمكن أن يأتي به من نتائج وبصرف النظر كذلك عن طبيعة تلك النتائج، فهي في النهاية ستكون نتائج مقبولة حتى ولو لم تختلف كثيرا عن الحالية، فهي ولا شك فرصة لإنتاج مجالس جماعية بوجوه جديدة.و يمكن أن يقول قائل: إنه لا يمكن أن نتعرف على كفاءات وقدرات هؤلاء الجديد. فنقول أنه رغم تعذر التعرف على كفاءات الوجوه الجديدة قبل تجريبها، فإننا على الأقل عرفنا قصور الكثير من السابقين عن القيام بما أنيط بهم من مهام ومسؤوليات، وبشهادة بعضهم(وشهد شاهد من أهلها) أن معظمهم لم يكونوا عند حسن الظن والثقة الموضوعة فيهم، لأن أكثريتهم كانوا"مستشاري صدفة"فقط، وما كان العمل الجماعي البلدية، قط ميدانا من ميادينهم ولا بحرا من بحارهم، فهم دخلاء على السياسة والعمل التمثيلي، تعودوا على السباحة في برك الانتهازية وما صادفهم فيها من قضايا وتجارب ناقصة ومحدودة محدودية آفاقهم... فلنجرب الوجوه الجديدة، ولنعمل بالمثل المغربي الدارج"تبدال لمنازل راحة"فربما يحمل الوافد الجديد الكثير من الجدة والتجديد.

في الحقيقة لقد إنشرحت الكثير من الصدور لهذه الحركة التصحيحية، رغم التخوف من أن تكون مجرد حدث مؤقت دون نتيجة، أو تجربة معادة مكرورة فرضتها أحداث طارئة تزول بزوالها. وهناك من نظر إليها على أنها استمرار للصراع الأزلي على السلطة والنفوذ بين الأقوياء، ووسيلة لإضعاف ودحر قوى ورؤوس قد أينعت وتعنتت في هذا الحزب أو ذاك وحان قطافها بل وجب. لكنها (الإنتفاصة) من المؤكد فرصة جاءت لتدشين انطلاقات تجديدية واعدة، لأنها على الأقل استطاعت أن تطلق شرارة التمرد على الوجوه والسياسات المتكلسة، حتى لو لم تكن بنية الخوض في الإصلاحات الرزينة الجدية، لكنها عجلت بالتورات الحقيقية التي لا يقودها إلا الأقوياء الذين يملكون جسارة القول والفعل، فهي كالخميرة تجعل العجين جاهزا للخبز ولو بعد حين. وهنا تتجلى أمامنا تلك المقولة القائلة:"رب ضارة نافعة".

لا اعرف أى قدر من الدهشة، بل والحنق، يمكن أن يعتري المواطن الواعي وهو يتعرض للكثير من الانتهاكات المضاعفة في مجتمع كهذا، تارة على يد السياسين الذين لا يعملون إلا لخداعه، وتارة أخرى من الجمهورنفسه الجاهل بكل حقوقه وواجباته غير المدرك لمصالحه، وكأن الوعي شؤم على صاحبه، لا ينقذه من الشرور، بل يزيده من الهموم والأحزان ما لا يطيقه، مصداقا للمثل الدارج"ما فالهم غير اللي كيفهم"لذلك فهو لا يريد أن يفهم أبدا، ومع ذلك لابد من محاولة تفهم القفزات البهلوانية التي يقوم بها الكثير ممن أحسوا بالخطر،-قبل شهور قليلة من الانتخابات الجماعية- بين تيار وآخر، بين نظام وآخر، بين حزب أو تنظيم وآخر. وربما نتقبل أو نحاول أن نتفهم أن طموح البعض أكبر من أن يستوعبه تنظيم أو ربما هو ذاته الذي جعله يرغب في الإلتحاق بالوافد الجديد، وربما كان السبب واحداً في الحالتين.. وهو البقاء في السلطة ووضع اسمه بين أسماء ما يعرف لدينا بالوجهاء"علية القوم"والإبقاء على الامتيازات’’!!

لقد آن الوقت ليدرك المواطن أن الحل في يده، وأن المفتاح مربوط بحبل معلق إلى عنقه، لكنه تدلى على ظهره فما عاد يراه واعتقد أنه أضاعه، فقانون التغيير هو الخيار الوحيد، ولابد من تجريب وجوه جديدة حتى نتمكن من المقارنة بين السابق واللاحق منها، ونستطيع أن نحكم ونقيم ونميز الغث من السمين. ومن دون ذلك التغيير لن نتمكن من اكتشاف الكفاءات والقدرات الجديدة الواعدة التي تحبل بها البلاد، فهناك قدرات قوية جديدة، وهناك رموز سياسية طرية، وكفاءات وتخصصات عالية لابد أن تتاح لها فرص الوصول لتعطي كل ما عندها لتجديد البلاد وتنميتها..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى