الجمعة ٢٧ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم جميل حمداوي

جاك ليكوك وشعرية الجسد

يعتبر جاك ليكوك من أهم المخرجين المعاصرين الذين أرسوا الإخراج المسرحي على أساس الواقعية الجسدية وشعرية الحركة، ويعني هذا أن جاك ليكوك من المخرجين الذين اهتموا كثيرا بفن الجسد وبلاغة الحركة ومسرح الألعاب البدنية والرياضية. ومن ثم، يتميز مسرحه بالديناميكية الأدائية ودراسة الإشارات اللفظية والإيماءات الصامتة والكوريغرافيا البصرية والتجريد الميمي.

وقد استطاع جاك ليكوك بكل مهارة ودراية احترافية أن يجعل من الركح المسرحي حلبة للصراع العضلي وفضاء للتعبير الديناميكي الذي ينصب على إظهار مقومات الجسد بمافيه الوجه واليدين وباقي أعضاء الجسم كله، كما ركز كثيرا على سيميولوجية الحركة والإشارة داخل العرض السينوغرافي من أجل خلق مشاهد فنية وجمالية رائعة ومثيرة تشد بلب المتفرج وتسحر بصره وتأخذ بوجدانه.

والجديد الذي أتى به جاك ليكوك هو أنه أدخل الرياضة البدنية والألعاب العضلية في عالم المسرح، وأعطى الدور الكبير للصمت والحركة والقناع على حساب اللفظ من أجل تغيير المسرح الأوربي الذي كان مرتبطا أيما ارتباط بالكلمة الحوارية، و تشبه ثورة جاك ليكوك التجديدية ما قام به كل من جاك كوبوه وأنطونان أرطو حينما رفضا المسرح الغربي ودعيا إلى مسرح حركي بديل.

1- من هو جاك ليكوك؟

ولد الفرنسي جاك ليكوك بباريس في 15 دجنبر 1921م وتوفي في19 يناير 1999م، ويعرف جاك ليكوك بكونه ممثلا ومخرجا ورياضيا وكوريغرافيا وبيداغوجيا.

ويعد أيضا من كبار الأساتذة المعاصرين الذين اهتموا بتدريب الممثل في القرن العشرين في مجال الميم المسرحي والشقلبة البهلوانية والأقنعة والكوميديا الهزلية وتشغيل الراوي في المسرحيات المنصبة حول التراجيديات القديمة.

بدأ جاك ليكوك حياته المهنية أستاذا للرياضة والتربية البدنية، وعرف بحبه للعدو الريفي والسباحة،، وتعلم التمثيل في فرقة جان داستيه، واستفاد كثير من الكوميديا الإيطالية " دي لارتي " على مستوى الجسدي والحركي.

واهتم جاك ليكوك كثيرا بفلسفة القناع ودوره السيميائي في المجال المسرحي والسينوغرافي، وتوصل مع صديقه النحات الإيطالي أمليتو سارتوري إلى إبداع ما يسمى بالقناع المحايد.

هذا، وقد وجهه صديقه داريو فو إلى الاهتمام بالكوريغرافيا وشعرية الحركة والجسد؛ مما أهله هذا الأمر لإخراج مجموعة من التراجيديا اليونانية على ضوء الكوليغرافيا المعاصرة و بلاغة الجسد والتعبير الحركي.

وقد أسس جاك ليكوك سنة 1956م بباريس المدرسة العالمية للمسرح والميم، وقد تولى فيها التدريس وتدريب الطلبة وهواة الدراما والكوليغرافيا.

وفي سنة 1977م، أنشأ ليكوك مختبره لدراسة حركات الجسد، والبحث عن علاقات الإيقاع والفضاء المشهدي بالسينوغرفيا الركحية.

2- مدرسة جاك ليكوك:

تخرج من مدرسة جاك ليكوك كثير من عشاق المسرح وهواة الدراما والكوريغرافيا، ومن بين هؤلاء أريان منوشكين التي اقترن اسمها بمسرح الشمس، وفيليب أفرون، ولوك بوندي، وكريستوف مارتالير، وياسمينة رضا، ومومن شانز...واليهودي عميرام أتياس وآخرين...

وتضم مدرسة ليكوك كل من يرغب في معرفة شعرية الجسد، ويريد تعلم تقنيات التمثيل والتشخيص والإخراج المسرحي والتعرف على نظريات المسرح وطرائق الإخراج والكتابة الدرامية وبناء السينوغرافيا وتأثيث الركح.

ويقول الدكتور شاكر عبد الحميد عن هذه المدرسة:" أنشأ ليكوك مدرسته الخاصة لتدريب الممثلين عام 1956م في باريس، وقد كان ليكوك يقول: إن الممثل يكتب بجسده في الفضاء المسرحي، مثلما يكتب المؤلف المسرحي بقلمه على صفحة بيضاء، وربما لأنه بدأ حياته لاعبا رياضيا، فإنه كان مهتما بالقدرات الخاصة للجسد الإنساني. ومن ثم، فإنه خلال اهتمامه بالمسرح وتطويره لأساليبه المسرحية كان يشير كثيرا إلى أن أي حركة تقوم بها تحمل معنى ما، سواء كنا نقصد ذلك أو لانقصده، وكذلك أن الدافع الجسمي، دافع الحركة والتعبير الحركي، هو من الأمور الملازمة على نحو أصيل لتفكيرنا وانفعالاتنا وأداءاتنا بشكل عام".

ويدرس الطلبة في مدرسة ليكوك سنتين متتابعتين: ففي السنة الأولى يتم التركيز على ملاحظة حركات الناس ودراسة سيكولوجيا الشخصية. أما الدروس فتنصب حول استكشاف عالم الأقنعة والألعاب البهلوانية والشقلبات السيركية وفنون الصراع وتحليل الحركات وتحديد دلالاتها السيميائية والرمزية.

كما يتم الاهتمام بالميم والألعاب العضلية والفرجوية، وتمثيل الحياة عن طريق المحاكاة والتقليد واللعب، ودراسة القناع من خلال ثلاث خاصيات أساسية وهي: الصمت والهدوء والتوازن، علاوة على دراسة الطبيعة في علاقتها الجدلية بالشخصية من خلال التركيز على العناصر و المواد، والإضاءة والألوان، والنباتات والحيوان.
وتركز الدراسات النظرية على الأقنعة وأدوارها الأيقونية والتعبيرية والوظيفية والبدائية.

كما يتم الاهتمام بتدريب الشخصيات على المواقف الدرامية ودراسة تصرفاتها ورغباتها وأهوائها.

ويدرس الطالب أيضا على ضوء رؤية ديناميكية الفنون الجميلة كالشعر والرسم والموسيقى في علاقة هرمونية بمسرح الأشياء وتحولاته الزمانية والمكانية.

وعلى مستوى التعلم الذاتي، يطلب من التلاميذ كل أسبوع توظيف خيالهم من أجل تحقيق إبداعاتهم داخل الجماعة، وتعرض أعمالهم في نهاية الأسبوع أمام مجموعة من الأستذة الذين يخضعون إنتاجاتهم للمناقشة والتقويم.
ويطلب منهم أيضا إنجاز أبحاث ميدانية حول عادات الناس وتصرفاتهم في الأماكن الآهلة والمزدحمة بالبشر استعدادا لتشخيصها فوق خشبة المسرح لإثارة الجمهور واستفزازه.

وتخصص السنة الثانية للإنتاج الإبداعي من خلال استثمار ما درسه الطالب في السنة الأولى في مجال المونودراما، والكوميديا الهزلية، والتراجيديا، والتهريج البهلواني، والكوميديا الإنسانية...
ويدرس الطلبة كذلك لغة الحركات، والبانتوميم، والحكايات الميمية، وتشخيص المشاعر على ضوء التمسرح الميلودرامي، والتدريب على الكوميديا الإنسانية المقنعة والكوميديا الهزلية المجتمعية والفانطاستيكية والكروتيسكية، والتمثيل في شكل جماعات وفرق، ودراسة تراجيديا الراوي والبطل،وتمثل تقنيات المهرج والبهلوان السيركي والمسرحي مع استيعاب قواعد الكوميك.

ولا ننسى أيضا التعمق في دراسة النصوص المسرحية الكلاسيكية والمعاصرة مع التركيز على الكتابة المسرحية ومقومات الدراماتورجيا الدرامية.

وعلى المستوى الإنجاز الشخصي، يعرض الطلبة أعمالهم على المدرسين في نهاية كل أسبوع، كما تعرض أعمال الطلبة المنجزة أيضا على الجمهور كل ثلاثة أشهر.

وفي نهاية السنة الدراسية، يقدم الطلبة عرضا مسرحيا محددا من حيث الموضوع والوقت لمعرفة قدراتهم الكفائية في مجال المسرح والدراما.

وعليه، فمدرسة جاك ليكوك تستعمل بشكل بارز تقنية التكنيك الأكروباتيكي من خلال الجمع بين أسلوب إتيان دوكرو وأسلوب جان داست.

ومن ثم، تتميز المدرسة الليكوكية ببلاغة الجسم وديناميكية العضلات، وتنطلق من شعرية الجسد وبلاغة الحركة و التركيز على الشعار الحيوي: " فلنتحرك جميعا" فوق خشبة المسرح.

تدريب الممثلين حركيا

3- مؤلفات جاك لكوك:

من المعروف أن لجاك ليكوك مجموعة من الدراسات النظرية والتطبيقية التي تعرف بمدرسته المسرحية والإخراجية بله عن دروسه التي كان يقدمها لطلبته حول شعرية الجسم وبلاغة الجسد والحركة.

ومن أهم مؤلفات جاك ليكوك البارزة كتابه:" مسرح الميم والحركة" الذي ترجم إلى عدة لغات ومنها: اللغة الإنجليزية.

كما ألف كتابا آخر بعنوان:" شعرية الجسد يشرح فيه نظريته المسرحية وتصوره الميزانسيني القائم على بلاغة الجسد والواقعية الجسمية والحركية.

وكان ليكوك ينتقل من بلد إلى آخر ليلقي مجموعة من دروسه النظرية والتطبيقية حول شعرية الجسد والحركة الديناميكية.

4- مصادر مسرح جاك ليكوك:

تأثر جاك ليكوك بالميم (التمثيل الصامت) المعروف قديما وحديثا، فطوره على ضوء أساليب تقنية معاصرة استوحى فيها نظريات أساتذته المبدعين كجاك كبوه، وفرانسوا ديل سارتو (1811-1871م)، وإتيان دوكرو، وإليان غويو، وجان داست، وماريا هيلين داست، وهوراتسيو كوستا، وغابرييل كوزان.

ويلاحظ أيضا أنه تأثر كثيرا بمارسيل مارسو الذي قال:" إن الحركة الإيمائي هي جوهر المسرح، كما أن مارسو هذا سيؤسس عام 1978- في باريس- ما سماه " مدرسة الميمودراما" أو مدرسة الدراما الإيمائية"، وقد خصصها للتعلم والتدريب المناسبين في هذا المجال ".

كما تأثر جاك ليكوك بالفارس والسيرك الغربي وبفن كوميديا " دي لارتي" وطريقتها الارتجالية والكوميدية والحركية، كما استوعب مقومات المسرح الأنتروبولوجي الأفريقي والآسيوي والأمريكي.

5- مفهوم جاك ليكوك للممثل:

من المعروف أن هناك ثلاثة نصوص أساسية في مجال المسرح: نص المؤلف ونص المخرج ونص المتلقي، بيد أن جاك ليكوك يتحدث عن نص جديد وهو نص الممثل؛ لأنه يكتب نصه عن طريق الحركة والجسد مستعملا في ذلك طاقته التشخيصية الذاتية وذكاءه الفردي الخاص، وعبقريته الحدسية في توليد الحركات الإبداعية المناسبة لسياقات التمثيل والتشخيص الدرامي.

ومن هنا، فالممثل الحقيقي حسب ليكوك هو الذي يشغل جسده بطريقة رياضية وأكروباتيكية، ويحسن الصراع الجسدي، ويتحكم في إيقاع بدنه في تناغم مع الفضاء السينوغرافي. كما أن هذا الممثل مطالب بمعرفة الميم والاشتغال الجيد على الأقنعة و الكوميديا الهزلية والتهريج، وهو مطالب أيضا بإتقان فن المحاكاة والسخرية والباروديا والألعاب السركية والشقلبة المسرحية واللعب البهلواني.
ويشترط فيه كذلك حسن التموقع الفردي والتموقع الجماعي على خشبة الركح. ويعني هذا أن الممثل عند ليكوك قد أصبح لاعبا رياضيا ومصارعا بدنيا يوظف جسمه ولياقته بطريقة درامية لإقناع الجمهور والتأثير عليه.

ويبدو لنا من كل هذا أن طرائق تدريب الممثل كما طورها جاك ليكوك على امتداد ثلاثين سنة أو يزيد عبارة عن أساليب:" غير مألوفة وجديدة في تشجيع الممثل على اكتشاف أسلوبه الخاص، بدلا من فرض أسلوب معين في الأداء عليه. وقد طور ليكوك أساليبه هذه في ظل أفكار تنامت في فرنسا في بداية سبعينيات القرن العشرين، فحواها أنه من المهم التركيز على العملية المسرحية أكثر من الاهتمام بالناتج فقط، أي ضرورة الاهتمام بالعملية التي يتطور من خلالها النص المسرحي وليس المنتج النهائي الذي يؤدي أمام الجمهور. وقد تطلب ذلك أن يعاد تعريف مفهوم النص في المسرح فقيل: إن ذلك التعارض الثنائي القديم الذي يميز بين نص الكاتب وأداء الممثل لم يعد تمييزا مقبولا، وإن الممثل نفسه يقوم بتوليد نصه الخاص، وإن هذا النص، خاصة عندما يفهم جيدا، وعندما يندمج مع الكلمات والحركة والإيماءة والرقص والموسيقى والإضاءة وغيرها من المكونات المسرحية سيكون له تأثيره البالغ والمهم في الجمهور.

ويقصد بهذا أن أهم نص مسرحي ليس هو نص المؤلف الذي يمكن الاستغناء عنه، بل هو نص الممثل الذي يحوله عن طريق الحركة الحية إلى عرض سينوغرافي ساحر ورائع.

إذا، فبمجرد:" بداية الأداء قد يكتب نص جديد، وإن الارتجال والإيماءات الحرة أو الموجهة، قد تكتب نصا خاصا، يؤدي، تكون ولادته الأولى والوحيدة مع بداية الأداء، من دون نص مكتوب سابق، وقد تكون له ولادته الثابتة إذا كان هناك نص مكتوب يمثل نقطة الانطلاق لهذه الولادة الثانية على خشبة المسرح."

يستند تدريب جاك ليكوك للممثل إلى الحركة والإيماءة كأساس للعمل، وينتقل الممثل من الدراما الميمية إلى الكلام الحواري، ويستلزم تدريبه الميمي أن يراقب جيدا الطبيعة التي تحيط به ويلاحظ أيضا الحياة الاجتماعية للناس عن طريق الجسد الذي يستعمله الملاحظ في الاحتكاك بالآخرين والاتصال بالطبيعة.

ومن هنا، يتحدث ليكوك عن الميم الديناميكي والجيودراماتيك، وتدريب الممثل على أداء التراجيديات القديمة والكوميديا دي لارتي والبانتوميم والميلودراما.

ويركز ليكوك في تدريب ممثله على التجمهر ولعبة القناع والتهريج الدرامي وتوظيف عضلات الجسم وشعرية الجسد في حركة متناسقة وهرمونية منسجمة مع إيقاعات السينوغرافيا المسرحية وأنغام الموسيقى الموحية.

5- التصور الميزانسيني عند جاك ليكوك:

يستند التصور الميزانسيني " الإخراجي" عند جاك ليكوك على الاهتمام بشعرية الجسد في مجال المسرح من خلال التركيز على الميم والبانتوميم والكوريغرافيا وحركة التهريج والشقلبة السيركية وتوظيف الأقنعة الموحية ودراسة الراوي علاوة على البحث في الحركات الدرامية وتشريحها بدقة دلالية وسيميائية وأيقونية.

كما ركز جاك ليكوك على الفضاء الركحي والإيقاع الدرامي والحركي في علاقتهما بالسينوغرافيا الجسدية أوسينوغرافيا الكتل البشرية. ومن هنا، تتحول السينوغرافيا المشهدية عند ليكوك إلى فيلم حركي وفضاء للمبارزة والمصارعة القتالية وملعب للرياضة البدنية ومجال لفنون القتال ومرقص للجسد المتحرك بحيوية ديناميكية على أمواج الموسيقى الموحية والإضاءة الخافتة والمتوهجة فنا وجمالا.

ويهتم جاك ليكوك بدراسة الوجه واليدين وحركات العضلات الجسمية وتقنيات التحرك والمشي وتموقع الرجلين مع التركيز على النظرات والحركات الأيقونية والإشارات الميمية واللغات الجسدية ومختلف الألعاب البهلوانية والسيركية والتهريجية والتجمهر الجماعي والتشخيص الكوميكي الفكاهي.

كما يهتم أيضا بالمحاكاة الصادقة العميقة الجذور التي تمتد إلى:"ماوراء التشابه البسيط في الجسم أو الصوت، تمتد إلى ماوراء التشابه الخاص في الشكل الخارجي، إلى المحاكاة الخاصة العميقة للمعنى، وهي محاكاة تمتد من أشكالها البسيطة التي تتمثل في سلوك الطفل التلقائي إلى المحاكاة العميقة التي نجدها لدى الممثل أو في الفن عموما، المحاكاة هنا ليست هي المحاكاة السطحية المرآوية الساذجة، بل المحاكاة التي تقوم على أساس الخيال وعلى أساس القرب من عمق الشخص الذي تتم محاكاته ومن جوهر انفعالاته وأفكاره أيضا، جوهره الذي قد لايكون واضحا ظاهرا من خلال شكله الظاهري وأدائه الواضح، بل من خلال ما قد يكون كامنا وراء السطح وخلف المظهر.هنا نقترب أكثر من مفهوم المحاكاة الإيمائية المحاكاة والمحاكاة التنافسية أي المحاكاة بقصد الإتقان والإضافة والتفوق".

وعلى أي حال، فهذه الطريقة التي ابتدعها جاك ليكوك مخالفة لطريقة قسطنطين ستانسلافسكي وأستوديو الممثل لكونها تركز بشكل أساسي على طاقات الممثل الجسمية وشعرية جسده وحركاته الذاتية ومقوماته العضلية والبدنية،" فمع تزايد اهتمام المخرجين المؤدين والجمهور بالإبداع الخاص بالممثل، تزايد الشعور بالحاجة إلى استكشاف أساليب مختلفة في التدريب للممثلين. وقد شعر البعض أن أسلوب ستانسلافسكي لن يكون مفيدا بدرجة كبيرة بالنسبة إلى الممثلين الذين يحاولون خلق(إبداع) مادتهم الخاصة، أسلوبهم الخاص، بدلا من البداية من نص مكتوب. هنا، كانت أفكار ليكوك أكثر إلهاما. هنا، اكتشفوا قدرا كبيرا من الإيماءات والتعبيرات الجسدية التي تمثل تراثا ثريا يعود إلى أساليب متنوعة خاصة بالبانتومايم (التمثيل الصامت) والكوميديا الارتجالية (كوميديا دي لارتي)، وفن المايم وفناني المايم الحديثين في فرنسا خاصة في بداية القرن العشرين، إضافة إلى عالم الأكروبات والمهرجين ومسرح الأقنعة القديم والحديث والكوميديا بأنواعها، وغيرها من الأساليب التي تعتمد على الحركة."

وينبني الإخراج المسرحي عند ليكوك على تعديل نص المؤلف ليتلاءم مع شعرية الجسد وتفاصيل الكوريغرافيا الهرمونية. وبعد ذلك، ينتقل إلى كتابة الممثل الجسدية من خلال تدريبه على قوانين الحركة واللعب والشكل والفضاء. ويعني هذا أن النص الدرامي ينبغي أن يكون نصا جسديا ميميا ومقنعا يقوم على اللعب الأكروباتيكي وتوظيف تقنيات الصراع والمبارزة واللعب البهلواني واستعمال السخرية والباروديا والتهريج والفكاهة الهازلة. وتساهم السينوغرافيا الإيقاعية والضوئية والفضائية في إثراء السياقات الجسدية للممثل وتشكيلها فنيا وجماليا ودراميا.

وقد كان ليكوك في تصوره الإخراجي يستكشف:" قوانين الحركة في المسرح، وفي الحياة بشكل عام، حركة الجسم المرتبطة بانفعالاته ومشاعره المتنوعة وعلى أساس مجموعة من التجارب وعمليات التجريب بالجسد، وقد كان يسعى دوما باحثا عن طرائق لاكتشاف الأبعاد الخيالية والشعرية للحركة، إضافة إلى أبعاد هذه الحركة الجسمية وطرائقها المتنوعة في التعبير أيضا، حيث كانت الإيماءة هي أساس الأداء والخيال المسرحي لدى ليكوك.

هكذا، فإنه بينما كان ستانسلافسكي يؤكد " الواقعية النفسية" للأداء، فإن ليكوك يؤكد الواقعية الجسمية والحركية له،أي قدرة الحركة على التعبير حتى لو كانت صامتة، فاللغة هنا لغة الإيماءة التي تقوم على أساس التحرير للخيال الجسدي للمثل كما أشارت أريان منوشكين، وقد كانت شديدة التأثر في مسرحها بأفكار ليكوك".

يشغل جاك ليكوك ديناميكية الجسد في العمل المسرحي باعتبار أن الجسد هو العنصر الحي الأساسي في الإنسان، فيتم نقل كل مايتحرك إلى المسرح عبر الجسد ومكوناته الرئيسة، كما يطبق جاك لكوك القوانين العالمية للحركة الجسدية في ميدان المسرح وتدريب الممثل.

وتستفيد منهجية جاك ليكوك من جميع التقنيات والتصورات الإخراجية المسرحية قديما وحديثا، ويحاول ليكوك تجديدها وعصرنتها وقراءتها على ضوء الحاضر باستغلال شعرية الجسد وبلاغة الحركة وتقنيات الكوليغرافيا. كما تمثل ليكوك التكنيك الكروباتيكي وفن الميم الذي قال عنه:" ليس هناك شكل آخر للميم، فالميم هو كل شيء و قبل كل شيء في المسرح".

ويمكن اختزال التصور الميزانسيني لدى جاك ليكوك في الخطوات الموالية:

* الانطلاق من نص مكتوب أو مرتجل أو حركي؛ لأن ليكوك لايستغني عن اللغة المكتوبة؛

* إخضاع النص المنتقى لدراماتورجية الجسد والكوريغرافيا التعبيرية؛

* تدريب الممثلين على الأداء الإيمائي والعضلي والرياضي؛

* الانطلاق من الواقعية الجسدية لتجريب طاقات الممثل الحيوية والديناميكية؛

* اكتشاف الأبعاد الخيالية والشعرية للحركة؛

* تحرير الخيال الجسدي للممثل؛

* ربط الأداء الحركي بالمحاكاة والخيال والارتجال؛

* المزاوجة بين اللغة اللفظية واللغة الصامتة، بيد أن اللغة المتلفظة قاصرة وعاجزة عن الأداء مقارنة مع لغة الجسد وشعرية الحركة؛

* الاستعانة بالخيال الجسدي لتطوير قدرات الممثل على التمسرح والفعل الدرامي؛

* ملاحظة الممثلين لحياة الناس ومعايشتها بصدق في كل ثرائها وتجلياتها؛

* دراسة الحركة الجسدية تحليلا وتشخيصا؛

* تطويع الحركية الجسدية مع سينوغرافيا الركح؛

* التركيز على السينوغرافيا الجسدية والحركية؛

* الاهتمام بفن المقاتلة والصراع والتهريج والكوميك والميم والشقلبة السيركية؛

* توظيف الرياضة البدنية والأقنعة المحايدة في العروض المسرحية؛

* فهم العالم وتفسيره عن طريق الجسد والحركة.

توظيف الرياضة البدنية في المسرح

6- مكانة جان لكوك المسرحية:

من المعلوم أن لجاك ليكوك مكانة هامة في تاريخ الإخراج المعاصر، والدليل على ذلك أنه استدعي مرات عدة من قبل الكثير من دول العالم ليقدم محاضرات حول نظريته المسرحية التي تسمى بشعرية الجسد أو بلاغة الحركة أو الواقعية الجسدية أو مسرح الإيماءة أو مسرح القناع.

و يعد أيضا من مؤسسي بيداغوجيا المسرح التي أرسي دعائمها على التكنيك الأكروباتيكي وفن الميم والارتجال والرياضة البدنية.
وتتجلى مكانته الكبرى في تأسيس السينوغرافيا العضلية والمشهدية البصرية الكوريغرافية على أسس علمية وفنية جديدة تنفتح على السيرك والرقص والباليه والسينما والتنشيط والمسرح والرياضة البدنية وفنون القتال والمصارعة.

ومن الآثار الدالة على قيمة جاك ليكوك ومكانته الهامة في المسرح الغربي أنه حاول أن يخلص المسرح العالمي من إسار الكلمة اللفظية والحوارات اللغوية واستبدال كل ذلك بالصمت والميم والبانتوميم والألعاب الرياضية وفنون المقاتلة والمبارزة. علاوة على كونه ساهم في تكوين مجموعة من الأطر المسرحية من ممثلين ومخرجين ومنشطين ومدربين ومدرسين في مجال المسرح وأخص بالذكر المخرجة آريان منوشكين صاحبة مسرح الشمس بباريس.

لقطة مشهدية عضلية

7- تقويم تجربته المسرحية:

من أهم الملاحظات التي يمكن الخروج منها بعد تأملنا في تجربة جاك ليكوك التنظيرية والتطبيقية أنه حول المسرح إلى كوريغرافيا عضلية ورياضة بدنية ومصارعات قتالية وصمت حركي ميمودرامي، بيد أن المسرح تعبير لغوي أكثر مما هو تعبير جسدي، وحوار لفظي أكثر مما هو كوريغرافيا ولعب جسمي وعضلي.

وعلى الرغم من هذه الملاحظات الهينة، فإن جاك ليكوك أتى بنظرية درامية جديدة ويمكن حصرها في بلاغة الجسد أو شعرية الحركة أو الواقعية الجسدية.

خاتمــــة:

وخلاصة القول: يعتبر جاك ليكوك مخرجا فرنسيا متميزا في تاريخ الإخراج العالمي بما قدمه من نظريات وتطبيقات ميزانسينية توحي بالتجديد والإبداع والحداثة وبالضبط حينما ربط تشخيص الممثل بالتربية البدنية واللعب الفيزيائي العضلي. وبالتالي، يرتبط جاك ليكوك أيما ارتباط ببلاغة الحركة وشعرية الجسد.

وإذا كان المخرج الروسي قسطنطين ستانسلافسكي قد بلور ما يسمى بالواقعية النفسية، فإن جاك ليكوك قد أوجد نظرية جسدية تسمى بالواقعية الجسدية التي تستند إلى تطويع الجسد بطريقة ديناميكية لينسجم مع إيقاعات الموسيقى وجماليات السينوغرافيا المشهدية.

ومن هنا، يمكن القول بأن جاك ليكوك سيبقى خالدا في أرشيف المسرح الغربي بسبب تأسيسه لبلاغة الجسد وشعرية الحركة ولعبة الميم والبانتوميم.

 [1]


[1المصادر والمراجع:

1- د. شاكر عبد الحميد: الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد:360، فبراير 2009م؛

2-A Regarder. Lecoq.J.: Theatre of Mime and gesture. Translated by Dvlid Bradly et.al.London: Routledge, 2006.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى