السبت ٢٨ آذار (مارس) ٢٠٠٩
في رواية (شرفات بحر الشمال)
بقلم السعيد موفقي

استراتيجية خطاب العتبات

مقاربة سيميائية

مدخل

إنّ محددات النّص السردي لا يمكن أن تتقارب بتجاور الأحداث وتعاقب الشخوص، بقدر ما تمليها جملة من المكونات الذاتية بدءا بالكتاب الذي يرسم خطاطة دلالية لسير العلاقات وتفجير كثير من مغامض الأشياء وتنوع التفاعلات التي تحدثها طبيعة المستويات الباطنية ومقاربتها بثنائيات ضدية وتماثلية وتشاكلية، من حيث العتبة أو النّص الموازي ٍكما يسميها جيرار جينات في كتابيه:(طروس) و(عتبات)،(ودراسة (العتبات) لجيرار جنيت أهم دراسة علمية ممنهجة في مقاربة العتبات بصفة عامة والعنوان بصفة خاصة؛ لأنها تسترشد بعلم السرد والمقاربة النصية في شكل أسئلة ومسائل، وتفرض عنده نوعا من التحليل)((1إذ تقتضي القراءة الوقوف عند حدود الكلمات الموازية وكل ما يمكن أن يكون شكلا ذا دلالة نصّية والاختيارات الأخرى التي تتمشى بالعملية سواء مشفرة أو محلولة، حرفا كان أو لونا أو شكلا، في واقع السرد مستويات النّص تتعالق جماليا من حيث البحث عن متلق لا يكتفي بلغة النّص بقدر ما ينتظر منه صدمات تزعزع الكامن والمسكوت عنه والمحكوم عليه بالصمت،فبعض النّصوص السردية تحاول أن تفتك من المتلقي تفاعله مع الأشياء باتجاه مغامض ذاتية مركبة وتبحث عن السيطرة الفكرية والنفسية على المتلقي بأي شكل تمنحها فرصة بث الرسالة بثا قويا، كثير منها لصيق بالواقع الإنساني وإن كانت روابطها توظيفا مختلفا للرموز والأيقونات وعيّنات لا تخلو من خرافة أو أسطورة،إنّ علاقة العتبة أو الهامش بفضاء الكتابة علاقة إبداعية ارتكازية تعتمد التساير وفق استراتيجية خطابية تحقق أكبر قدر من التوزيع فخطاب الغلاف من أهم عناصر النص الموازي التي تساعدنا على تناول النّص الأدبي بصفة عامة والروائي بصفة خاصة من حيث مستوى الدلالة والبناء والتشكيل والمقصدية. ولذا فإنّ عتبة الغلاف عتبة ضرورية تساعد على التعمق في مستويات النّص واستكناه ما تضمنه من أفكار والوقوف على أبعاده الفنية والإيديولوجية والجمالية.((وهو أول ما يواجه القارئ قبل عملية القراءة والتلذذ بالنص، لأن الغلاف هو الذي يحيط بالنص الروائي، ويغلفه، ويحميه، ويوضح بؤره الدلالية من خلال عنوان خارجي مركزي أو عبر عناوين فرعية تترجم لنا أطروحة الرواية أو مقصديتها أو تيمتها الدلالية العامة.وغالبا، ما نجد على الغلاف الخارجي اسم الروائي، وعنوان روايته، وجنس الإبداع، وحيثيات الطبع والنشر علاوة على اللوحات التشكيلية، وكلمات الناشر أو المبدع أو الناقد تزكي العمل وتثمنه إيجابا وتقديما وترويجا.))(2)

فخطاب العتبات للرواية المغاربية قد شهد اهتماما واسعا على يد نخبة من الروائيين المغاربة تنوعت استراتيجياتها وكثير منها اعتمد التصور النموذجي للمشروع السردي ضمن سلسلة من المنجزات التي لا تكتمل حدودها عند نص واحد وعلى سبيل المثال تشتغل روايات الدكتور واسيني الأعرج بمختلف عناوينها، خاصة تلك التي تتابعت في طََرق أخطر قضية عانى منها الإنسان الجزائري، وما تزال تشكل أكبر خطر عليه في ممارسة حياته، ونموذج العتبات في رواياته يعتمد على الإنجاز التفكيري أكثر مما هو إنجاز رؤيوي، إذ (تنهض رواية واسيني الأعرج الأخيرة (شرفات بحر الشمال) فوق أرض غنائية مفعمة بالرثاء والنقد وفورانات الداخل. فمنذ الصفحة الأولى وحتى نقطة الختام الأخيرة لا تكف اللغة عن التدفق والاشتعال والترنح الوجداني. ولا يبذل القارئ تبعاً لذلك كبير جهد لكي يكتشف المساحة المتعاظمة التي تسرقها رواية الأعرج من الشعر وهي تتقدم إلى نهاياتها المأسوية وسط غابةٍ من الصور والاستعارات والرموز الكثيفة والدالة. قد تكون للوضع الجزائري المتفجر منذ عقد من الزمن علاقة وثيقة بسخونة الكتابة وتوتر الأسلوب واندفاعاته الحميميّة)(2) تعد كعنوان أو مفتاح بالنسبة للنّص مرتكزا أساسيا في ولوج عالم الرواية بكل تفاصيلها ومستوياتها والمهيمنات التي تشغل في تفردها معان تختلف عن معاني تجاورها، العنوان عتبة رئيسة في تشكيل حقل أو عدة حقول معجمية ضمن شبكة من العلاقات المتقاطعة بداية ونهاية، سيكون تناولنا لمستوياتها بدءا بالغلاف وتحديدا الصورة والأجزاء والروابط التي اختارها الكاتب في رسم حدود نصّه كاستراتيجية ثنائية بين مظهر الرواية في مستواها الخارجي الفني والجمالي ومستواها الداخلي كخطاب له رسالة موجهة للمتلقي وهذه القراءة تبحث أيضا، في بنية كل عنوان جزئي من عناوين الرواية الجزئية واستمرارها المتنوع، وعلاقتها بغيرها من العناوين، التي يحصل بها في النهاية على البنية الكاملة الكلية التي تقوم عليها الرواية.

مجمل الرواية

تنمو الرواية ضمن وتيرة معقدة تنتهي إلى مرحلة مأساوية تعكس الوضع الجزائري المزري والذي تفجر منذ عقد من الزمن انتهج فيه الكاتب أسلوب العرض السينمائي،إذ تبدأ الرحلة عندما تقلع الطائرة بالبطل ياسين وتتداخل سيرة المكان مع الإنسان مشبعة بالآهات والمحن والآلام النفسية والأحلام، الرواية تنتظم كسيرة ذاتية وهنا (ليست حيزا فيزيائيا أو جغرافيا محايدا، بل إنّها سلسلة دوالّ تحيل إلى مدلولات عديدة)((3 سيرة جماعية تحريص على السيطرة على الأمكنة وتسعى إلى مراودة مغاليق الأشياء, فبطل الروايةتمتزج لديه الأحلام مع الكوابيس وتتدفق الذكريات بشكل ملفت يجعل منه إنسانا متوترا يبحث عن أهداف متعددة ومتشابكة مع العلاقات الفاعلة في حياته الماضية وتستمر معه في حاضره في منفاه، وتبرز شخصية فتنة وهي رمز ثنائي الحدود (كان اسمها فتنة)(4)

(نهايات ديسمبر. منذ عشرين سنة بالضبط، كانت هنا على حافة....)

و هذا هو المفتاح التعبيري الذي سيؤسس لما يزيد على ثلاثمئة صفحة كاملة من التذكر والتداعي والحنين إلى عالم مختلف وملتبس عالم الكاتب الجديد.

ياسين الإنسان الذي يمتطي صهوة الأحلام ويشدّ الرحال طويلاً تتقاسم رحلته محطات متعالقة للسيطرة على الأمكنة وتمتدّ (لتشمل إنتاج ذاكرة ثقافية حولها تُخلّد حضور الإنسان)(5) ولأنّه لم يعد قادراً العيش وسط عواصف ونسف للحياة والحرية والسعادة والأمان، ياسين الفنان أو النحات يفكر في رحلة إلى لوس أنجليس ليرسي قواعد جديدة لحياته مروراً بأمستردام وفي هذه الأثناء تنقطع صلته بواقعه في الجزائر ليتوقع ما يمكن أن يكون مصدر سعادته، تجذبه شرفات المدينة الجميلة وتشدّه المآسي التي تركها وراءه تتداعى لديه صور الأهل والأحبة والأصدقاء والموت تخطفهم من كل جهة، بأساليب وحشية مختلفة بين اغتيال وصدمة وفجيعة وو و... يموت غلام الله, عم ياسين, وابنته نوارة, وشقيقه عزيز وضياف...... ويموت والد نرجس, أو حنين, ويغتال رفيق دربه بوضياف, وميمون, شقيق فتنة, وزليخة, شقيقة ياسين. كلّ ذلك يعكس رحلة الموت وبشاعته في تصفيته
للشخصيات النسائية أيضا التي أصبحت تعكس مأساة الجزائر الموزعة بين القبور والمنافي.
و تبقى فتنة فتنة إلى أن تنتهي الرواية نهايتها المأساوية يعبّر عنها ياسين بمنحوتته المتميزة المرأة المقطوعة الرأس. الوطن الجريح والمرأة المشرّدة والأحلام المغتالة.

عتبة الصورة أو الإغراء اللّوني:

ما يلفت الانتباه اكتناز الصورة بمشاعر وأحاديث منسجمة وأدوات تحريك متقابلة، تنافس الكلمات على استنطاق الواقع من خلال الطبيعة واستحضار التاريخ وتفعيل الذاكرة على مختلف المستويات فـ غلاف هذه الرواية (يحمل رؤية لغوية ودلالة بصرية. ومن ثم، يتقاطع اللغوي المجازي مع البصري التشكيلي في تدبيج الغلاف وتشكيله وتبئيره وتشفيره)(6)

رمزيّةُ الألوان وقيمتُها الجمالية:

الفتاة والرداء الأحمر: فتنة وملابسات العتبة

هذه العتبة تعد مركز التفاصيل التي اختارها الكاتب لموضوع النّص لما تشكله من مستويات تتعرض لها في مراحل متنوعة، مزدوجة التشفير، ولنقل فضاءات متشابهة ومتناقضة في البحث عن الحقيقة من جهة والهروب من المجهول والوقوع فيه من جهة أخرى، وكثير من الدلالات تحققها هذه العتبة قد لا يتعرض لها النّص مهما كانت تفاصيله وتعددت ملابساته، فهي المفضي الأول إليها، ومن هنا يأتي دور الكاتب/المرسل الذي يعتمد القصدية للتأثير في المرسل إليه ومنه يتلقى الرسالة في أبعادها التفصيلية كما أرادها المعنوِن من حيث تحقيق القصدية،الخلفية الزرقاء، إحالة رمزية لمنجز الذات ضمن الصراع المتشابك مع خلفيات الواقع والرحلة في الزمن واختراق فضاءات متداخلة، قد يكون البحر واحدا من هذه الفضاءات الملتبسة، ولأنّ ملابسات المكان المتشابهة لا تمنح فرصة التعايش ضمن حدود قد تبدو محفوفة بمخاطر، محاذير متعددة أيضا، وهذا اللون يحمل دلالة ضدية، المتنفس الغارق في عالم ضبابي، في حين تلاشى صفاؤه وتعكرت مستوياته وأحدث إزاحة لاستقرار التدرج والامتداد، يبدو تفاؤلا غير أنّ عمقه لا ينتهي والحال بحر الشمال (وأنا أشمّ رائحة البحر المتسربة من بين شقوق الشوارع التي تلتقي لتضيق ثم فجأة تنفتح على البحر)(7)

دائرة سوداء: المنفى وهاجس الموت

تحتضن الفتاة الغارقة في زرقة البحر وردائها الأحمر، ثنائية ضدية لونية تعتمد التجاور لرمزية الألوان وتقارب الأشياء والبحث عن منطق التوافق الممنوع بين المتجاورين وتعني تأزم الواقع والمعاناة النفسية الحادة في ظل غياب ألوان أخرى تسهم في التخفيف من حدتها خاصة اللون الأبيض الذي يكاد يختفي إلا من خطوط خفيفة تعالقت بشكل دقيق الاستئناس بها يشكل قلقا وتوترا مستمرا في واجهة الصورة كما هو الحال في الأزمة التي مرت بها الجزائر كاد يغيب الاستقرار وتسيطر عليه ضبابية قاتمة قلصت من مدى الرؤية وتداخلت الطرق وتشابكت النهايات وتعددت المخاطر.

عتبة العنوان (شرفات بحر الشمال) المكان والزرقة:

غلاف رواية (شرفات بحر الشمال):

أومتراجحة المنفى والموت والاستقرار

بين الحرف واللون تواصل رمزي يتعالق مع فضاء النّص في تشكيل مكوناته وتأتي أهمية العنوان وباقي العناوين أو العتبات الداخلية كموضوع هذه الدراسة ضمن قراءة سيميائية، تسعى (إلى كسر هيمنة العنوان الحرفي الاشتمالي، ليؤسس بدلاً منه عنواناً تلميحياً، فالعنوان من أهم العناصر المكونة للمؤلف الأدبي، وهو سلطة النص وواجهته الإعلامية، وهو الجزء الدال منه. يساهم في تفسيره، وفك غموضه، لذا عُني المؤلف بعنونة نصوصه، لأنه مفتاح إجرائي به نفتتح مغالق النص سيميائياً)(8)

  أعلى الصورة وباللون الأزرق تبدأ رحلة البحث عن فضاء مجهول، زرقة العنوان تعكس التواصل الطبيعي بين امتدادات الأشياء والألوان، ولعل الزرقة أقرب في تشكيل هذا التواجد وأسهل لربط العلاقة الطبيعية بين اللون وبين الفكرة الجزئية التي يحملها العنوان ومضمون النّص الذي يدعو إليه مشروع الرواية توجد رؤية لغوية ودلالة بصرية تتكئ على حيثيات إغرائية مؤثرة في المتلقي وتساعده على عملية الاختيار في تحديد النهايات الكثيرة ومَنطَقَة الأشياء وإن كانت هذه العملية تتطلب خبرة تجريدية في تأويل الرموز والأيقونات لفك كثير من الألغاز التي تعترضه في متن النّص، ومن هنا فإننا نكتشف أول رابط أو قصدية في هذا التجاور والتلاحق بين الألوان والعنوان والإخراج بشكل عام معان وأفكار متكاملة.
 
فبعد اللون، يأتي اختيار الكلمات كعتبات حقيقية ولماذا هذه الكلمات بالتحديد (شرفات/ بحر/ الشمال)،فهناك خطاب له استراتيجية تُكتشف في نهاية الرواية وبعد المرور بجميع المحطات التي أرسى معالمها الكاتب سلفا واختار لها عتبات تحت عناوين مختلفة تتكئ على التدفق
الموزع بين فضاءات حقيقية، تجمع بين أماكن في المنفى وبين معالم هذه الأماكن التي تتخفى وراءها أسماء تاريخية لشخصيات متعددة حولها الكاتب بذكاء إلى رموز ذات علاقات مختلفة تتلاقى في عالم الكاتب تتقاطع وتتصارع فيما بينها مع شيء من التصرف الحكيم والحذر الشديد، ثمان عتبات متعالقة، تشكل شبكة من البدايات المتجددة والنهايات المختلفة.

1- روكيام لأحزان فتنة أو حديث الجراحات

هذه العتبة تستحضر منظرا مهيبا، صورة ((صلاة قداس أرواح الموتى لخلاص الروح......و هو أيضا عنوان الدمار في طقوس الروم الكاثوليك …… وفي الأصل هذه الجنازة كانت تهدف المؤلفات الموسيقية التي يتعين القيام بها في خدمة الطقوسية، تعني النهاية المأساوية))(9) هذه العتبة تبحث في علائق الذات والمجاهيل السحيقة، رؤية نحو الأفق وانتظار الماضي الجميل أو إعادته من الذاكرة في حلة جديدة، النسيان لا يبرر الحاضر ولا الحاضر يهمل الماضي، علاقة جدلية في ربط الحيزين وفق تصور مبرر ذاتيا، ولأنّ الألم لغة لا يفهما إلا المجروح، قد تبدو لغته غريبة، ففتنة الإنسان وفتنة الرمز ارتبطتا بفضاء متعدد المرأة المظلومة والإنسان الضعيف الذي يبحث عن مكونات في زحمة الفتنة الرمز:
(نحن لاننسى عندما نريد ولكننا ننسى عندما تشتهي الذاكرة والذاكرة عندما تشرّع نوافذها للتخلّص من ثقل الجراحات لا تستأذن أحدا((10،رغبة تغيير المكان والاستئناس بهذه رحلة عبر الزمان والمكان، روكيام قرينة زمنية لحل ماض أليم سحيق، ولكنّه تكرّر بشكل جديد كنموذج للمحنة والمعاناة والانشغال بالذات وولوج عالم المجهول والهروب من سطوة الخوف، ولأنّ (الجسد يموت ويبقى الصوت فينا يذكرنا في كل زوايا المدينة والحارات بمن نحبّ كلّما نسينا(11) فإنّ الرحلة صعبة والخوف يمتدّ بامتداد الذات فالمسيح نفسه عانى التجربة.

2- جراحات المسيح العاري أو فلسفة الحب والقلق والموت

و هذه العتبة أحد أهم الدلالات التاريخية والنفسية والدينية التي تبعث بصورها مشاهد الرهبة ومدى معاناة الإنسان وثورته على الظلم والبحث عن الحب والاستقرار، تستمر الرحلة في اكتشاف المدينة الجديدة التي ارتبط محيطها بذاكرة الأشياء وجمال العالم البعيد والمفقود (ما أجمل هذه المدينة وما أكثر اتساعها
هل الميناء بعيد ؟) (12)

إذن السعادة في نظر البطل الارتباط بهذا المحيط كبديل، كمتنفس يدخل السرور ويبعد الأحزان ويحافظ على سرّ سعادته في هذا الاتساع:

(قلوبنا لا تعرف التواطؤ. عندما تتعب تصمت وتنسحب)(13)، تتفق هذه السيرة الذاتية للبطل ما حدث يوما ما في هذه المدينة الجميلة التي احتضنت أعظم رمز تؤمن به وتعشق قدسيته وتتأسى بمظالم الإنسان القديم وتنتحب كلما تذكرته، وهاهو البطل يتذكر القصة ويستعيد جراحاتها من خلال تجربته الصعبة، يحاول أن يتقفى أثر من كانوا هنا وغادروا فيوم من الأيام المكان ولم يتركوا إلا صورة التضحية، وهاهي المأساة تتكرر ولكن هذه المرة الوحشية مختلفة وأسلوب الموت لم يشهده التاريخ، وتلك قصة أخرى حدثت لياسين وفتنة وآخرين.(- الحب هو أن نتقن اللعب في الوقت المناسب)(14)

3- دورة رامبرانت الليلية أو الحوار ورغبة البقاء

و تشكل هذه العتبة رمزية مشابهة للسابقة ولكنّها هذه المرة تقف على حدود مختلفة، كما لو أنّ الكاتب يحاول أن يستنطق كل ما يمكن أن يؤدي إلى الحقيقة التي تساءل عنها في كثير من الأماكن غير مرة ولم يوفق في التوصل إلى المفقود الصعب، حتى عالم الفنّ وظّفه الكاتب

بشكل ملفت مما يعني وجود مكونات خاصة لكلّ مكان في كلّ زمان، ولكلّ مكان ما يمثله في تاريخه ومعالمه التي تربطه بماضيه القريب أو البعيد، ومن خلاله تتضح كثير من مغالق الأشياء وتشابه الأشياء حتى في الأشخاص، هذه المدينة دوما تتذكر وقد جعل البطل نفسه جزءا من ذاكرتها لما استحضر شخصية رامبرانت ((الفنان الهولندي الذي يعتبر اليوم واحداً من أهم الفنانين في تاريخ أوروبا, فقد صور في العام 1655 لوحة لجثة ثور متدلية على إطار خشبي من ملحمة وموضوع اللوحة أُعتقد صادماً وقاسياً وحتى مقززاً. لوحة رامبرنت يركز فيها على الثور الموجود في مركز العمل حيث يوليه الاهتمام المباشر مع تسليط الضوء على الجثة وتظليل كل ما يحيطها. هذه اللوحة تعتبر اليوم من أعمال رامبرنت المهمة إذ تصور بالتالي موقفه الحسي من الوجود، فهو الذي صور المسيح مصلوباً يصور أيضا جثه الثور الهامدة، وبالتالي فإن رؤيته الفنية وموقفه الروحاني يؤكدان حقيقة الوجود في أي شيء سواء كان قطعة لحم أو جسدا بشريا. بالطبع اللوحة لها انعكاسات أخرى فوفاة زوجته ثم ولديه لها الأثر الكبير في نظرته إلى الحياة. حيث يقف متفرجاً بين الحياة والموت مثله في ذلك كتلك المرأة في اللوحة التي يصور رأسها في مستوى محاذ للثور، فهما جزء من حركة واحدة وهي تنظر إلى الثور من بعيد وتراقب، وبالتالي تنظر إلى الموت))(15) ومناسبة المقام مقاربة إنسانية في المعاناة التي عبّر عنها رامبرانت في لوحاته الغريبة التي تعتمد في مجملها فلسفة أثارت جدلا في الأوساط الفنية والأدبية وجعلت منه شخصا غريب الأطوار مما جعله يتميّز بها ويتصدر تارخ الفنّ في التعبير عن فضح وحشية الإنسان الذي يدّعي البراءة ولكنّه مخلوق متوحش قد يرتكب حماقات تتجاوز منطق الطبيعة ويظهر بمظهر البراءة والوداعة، فاختصر به تفصيلات الجريمة التي قد تتكرر في التجربة الإنسانية الحديثة، ومن هنا فالبحث عن الطبيعة والتعرف على المجهول من خلال مغايرة المكان حيث الاتساع ورحابة المكان وتنوّع الفضاء (- تعرفين، عندما نأتي من بعيد لا نملك إلا أن نحسدكم على هذا الاتساع(16)

4- رومانس موسيقى الليل أو الإيقاع المنتظر من المجهول

الرومانس مدخل ذكي لفتق مجاهيل المدينة في فترة من اليوم، اختار الكاتب الليل ليقف على الحدود الطبيعية للإنسان، لحظة تأمل فلسفية في انشغالها وفضفضتها، تطرح أسئلة كثيرة عن السرّ الذي يجعله في كثير من المناسبات يفقد توازنه ومن الممكن أن يحاصر نفسه بنفسه ضمن عالم ملتبس، ينقاد وراء مرجعية كبيرة من الانفعالات والتفاعلات، معدّة سلفا وجاهزة للنشاط الذي يجعلها أحيانا لا تختار بإرادتها مصيرها، الرجوع إلى الذاكرة أقرب هذه المراجع وأكثرها استئناسا كما يتصور الكاتب، ولا ينفي أن تكون ذاكرة الآخرين قرينة طبيعية للتعرف على الذات من خلال الخارج، وحتى للصوت ذاكرة ترتبط بالصور والآهات والأحداث والمواقف (هل يمكننا أن نسمع صوت هذه الذاكرة ؟) (17) في ظل زحمة الحياة والشعور بالضعف والتهيؤ للانكسار (تعرفين قدرُ الكلمات أن تحمل في عمقها ضعفنا الكبير ومع ذلك نجهدها لكي تقول أقصى ما يمكن أن تقوله. نتحدث عن الفنّ ونحن نعيد إلى الواجهة كسوراتنا المختلفة وأحلامنا الصغيرة التي كلّما كبرت ازدادت مشقتنا لاستيعابها)(18).

5- تراتيل الإنجيل المفتوح أو رحلة العذابات

(التراتيل، الإنجيل، المفتوح)، هذه العتبة تذكرنا مرة أخرى بروكيام، الجو المهيب الذي يبعث الحزن، على الرغم مما يحمل من قيم الوقار الاحترام غير أنّ الروح تتلقاه بحزن لأنّ النّفس يشدّها الحنين إلى من غادروا وانقطعوا وأصبح الترتيل رمزا عميقا في الذات كلما تجدد تجددت معه هذه الذاكرة الحزينة لمختلف الآهات والآلام البعيدة والقريبة، وارتبط هذا
الصوت بـ الأشخاص والمكان، وتفاعلات المحيط (كلّ الذين ملئوا قلبي، سقطوا في أيام الموت الأولى وما تبقى أكلتهم المعابر والحواجز المزيفة منذ أن عاد القتلة إلى شوارعهم التي احتلوها عندما كانت المدينة لهم ولا تشهد إلا بهم(19)، هذه الإسقاطات التي اختارها السارد يعي تماما ما تفعله في المتلقي، تحدد معالم الأشياء صوتا ورؤية وأنّ اختيار المكان والزمان ليسا من اختيار الإنسان وهو يهل طبيعتها ما قد يعتقده سعادة يتحول إلى تعاسة مؤقتا أو تأبيدا (عمّي غلام الله، واش جابك لهذا المكان ؟
ما نيش عارف، اسأل اللي جابوني.
من ؟
لا أعرفهم، وليس مهما أن أعرفهم) (20) ويظل السؤال قائما وبحاجة إلى أكثر من إجابة

6- أغصان اللّوز المرّ أو علاقة الداخل بالخارج

تبدو صورة هذه العتبة طبيعية ولكنّها تحمل دلالات لا تبتعد كثير عما أفضته العتبات السابقة من حيث اختيار التجارب الصادمة والمفاجئة، فثمرة اللّوز مغرية كونها مشتهاة ولذيذة وربّما أفضل من كثير من الثمار، ولكن قد لايعني كل ثمرة بهذا الشكل أنّ مصدها يحمل الدرجة نفسها، فالطبيعة مخادعة، ومن هنا ليس كل ظاهر أو خارج بالضرورة يعكس داخله سلبا أو إيجـــابا،فلكل شيء سرّه، حتى هذه المدينة العامرة لها أسرارها ومقامها ونظامها، ليس من السهل أن ندركها ما لم ننغمس في أبنيتها ونتعرف على عالمها الداخلي ونخوض مع الخائضين والوقوف على حقيقتها كما صنعتها التجارب، فليس كل ظاهر بالقبح أو السوء أو الضعف أو الضيق داخله كذلك، يستكشف السارد في هذه المدينة:

(... من الخارج تعطي البناية الآجورية القديمة الانطباع بالضيق ولكنّها من الداخل كان اتساعها محسوسا وظاهرا. كل شيء منظم باستقامة كبيرة، كان الممرّ المؤدي إلى الأرشيف
الوطني ضيقا لا يتحمل مرور أكثر من شخص واحد، ربّما كانت العملية مقصودة، للرّقابة ومعرفة الداخل والخارج لهذا المكان المهم بالنسبة لذاكرة البلاد.)(21) نعم لكل مكان نظامه ومنطقه في التعامل مع المحيط بجميع عناصره، أحياء أو أمواتا.

7- حقول فان غوخ اليتيمة أو اللقاء والخطايا

مرة أخرى تتجدد صورة الحزن ولكن في هذه العتبة أراد السارد أن يجعل صورة المأساة بالرجوع إلى ذاكرة المدينة واستحضار أحد أهم أعلامها، هولندا أو فينسنت ويليم فان غوخ (بالهولندية 30 مارس 1853 - 29 يوليو 1890) كان رساماً هولندياً، مصنف كأحد فناني الانطباعية تتضمن رسومه بعضاً من أكثر القطع شهرة وشعبية وأغلاها سعراً في العالم. عانى من نوبات متكررة من المرض العقلي — توجد حولها العديد من النظريات المختلفة — وأثناء إحدى هذه الحادثات الشهيرة، قطع جزء من أذنه اليسرى. كان من أشهر فناني التصوير التشكيلي. اتجه للتصوير التشكيلي للتعبير عن مشاعره وعاطفته. في آخر خمس سنوات من عمره رسم ما يفوق 800 لوحة زيتية اختيار الكاتب هذه الشخصية ليؤكد وبشكل مختلف المحنة التي عانى منها هذا الفنان والتذكير بالمواقف الإنسانية، شخصية يسين ترتبط بشخصية فان غوخ، يجمعهما
...كلما جئتك وليت وجهك نحو البحر ؟

و نسيت أنّ حبّك مثل الحياة،

يستهلكنا قبل أن ندمنه

قلل من خطايا الصّمت وتعال،

كلّ شيء في غيابك صار يشبه الفراغ 22))

أبدا. تعرفين أنّنا عندما نرحل لا نأخذ معنا إلا قصصا اليتيمة التي نصارع بها الأقدار الصعبة(23)
و مع ذلك، عندما نحبّ تتقلص كل المسافات وتنفتح أمامنا كل المعابر الضيّقة التي من المستحيل المرور عبرها في الحالات العادية.

كأسك، أليست هي السادسة ؟

لا. هو الكأس التي تسبق السابعة.

الكأس الفاصلة بين الزهو والضلال (24)

8- حدائق عباد الشمس أو بين البحر والنسيان

و مرة أخر تستوقفنا هذه العتبة على مجموعة من الدلالات، المكان الذي مرّ عبره البطل ياسين كان من بين ما لفت انتباهه أنّ امستردام مدينة الطبيعة والجمال، وبقدر ما استوحى الكاتب منها رموزها التاريخية والفنية والجمالية، استوحى أيضا طبيعتها، حدائق عباد الشمس، الصورة الثانية لتكامل الأشياء وتناسق أجزاء المكان الذي افتقده ياسين في الجزائر، ودخلت صورتها عالم النسيان جرّاء الدمار الذي أصابها وأهلك كلّ شيء فيها، وصورة عباد الشمس على ذكره علماء الطبيعة أنّه يحمي حقول القمح من التلف طالما يبعث بظلاله الدافئة واختزانه للماء وشدّة مقاومته، منظر مغر لكنّه مهدد بالعبث كالذي حدث يوما ما في مكان ما:أنا كذلك أريد أن أنسى. كلنا على حافة بحر منسي مثل فتنة وكنزة والأخريات. الفرق الوحيد بيننا هو أنّ بعضنا ماتوا بينما الآخرون ما يزالون في قائمة الانتظار (25)

المنفى هكذا، يبدأ بمزحة ثم بليلة رومانسية نتذكرها طويلا قبل أن نتهاوى كالورق اليابس في العزلة التامة (26)، إذن اختيار لعبارة (عباد الشمس) ارتبط أساسا بدلالة كونية أخرى الارتباط الروحي بين ما تبعثه الشمس من دفء وما يمارسه هذا النوع من الأزهار علاقة أسطورية تحمل قداسة وثقة وعلامات نستكشفها في الحركة التي ينتهي إليها عباد الشمس كمظهر للتآلف، لماذا لا يحدث هذا في غير هذا المكان؟ تساؤل وتعجب في وقت واحد.

خاتمة

إنّ العناوين التي وردت في هذه الرواية مكتنزة بتفاصيل ملحمية إنسانية، تقوم على شبكة من العلاقات، تتقاطع في تعزيز صور المحنة والعبث والموت والمنفى يمكن تصنيفها ضمن حقل معجمي متشابه وإن تعددت أزمنته وتناقضت شخصياته الواقعية والتاريخية، والأدبية الفنية والثقافية تتابع في خيط خفي بدايته فتنة ونهايته فتنة، الرمز الذي سخر له كل ما يمكن أن يكون مادة رامزة لكنّها ذات تأثير قوي (المنفى،الموت،القتل،الاغتيال،القبور،المرض، الحوادث،والبحر.....

كلّ ذلك تعجّ به الرواية بداية ونهاية، صورة قاتمة ونهاية مأساوية.

 [1]]]

مقاربة سيميائية

[1[[

مصادر ومراجع البحث
 
1- كلود دوشيه: (عناصر علم العنونة الروائي)، أدب، فرنسا، عدد 12، كانون الأول، 1973،
ص:52-53
2- حمداوي، جميل: السيموطيقا والعنونة، عالم الفكر، الكويت، مج 25، عدد3، 1997، ص107.
3- الأنظمة السيميائية، دراسة في السرد العربي القديم، د. هيثم سرحان، دار الكتاب الجديد المتحدة،ط 1 2008
4-2((شرفات بحر الشمال ص 7، واسيني الأعرج، دار الآداب بيروت ط 1، 2002))
5-((الأنظمة السيميائية دراسة في السرد العربي القديم، د. هيثم سرحان،دار الكتاب الجديد ط 1- 2008
ص 72))
6-، جميل: السيموطيقا والعنونة، عالم الفكر، الكويت، مج 25، عدد3، 1997، ص107.
7- رواية شرفات بحر الشمال/ د. واسيني الأعرج/ ط 2002 دار الآداب ص/ 12.
8- حمداوي، جميل: السيموطيقا والعنونة، عالم الفكر، الكويت، مج 25، عدد3، 1997، ص107.
9- موسوعة ويكيبيديا الحرة
10- شرفات بحر الشمال. د. واسيني الأعرج/ 2002 دار الآداب (ص21))
11- شرفات بحر الشمال د.واسيني الأعرج/ ط 2002 دار الآداب (ص 21)
12- شرفات بحر الشمال د.واسيني الأعرج/ ط 2002 دار الآداب (ص 73)
13- شرفات بحر الشمال د.واسيني الأعرج/ ط 2002 دار الآداب (ص 78)
14- شرفات بحر الشمال د.واسيني الأعرج/ ط 2002 دار الآداب (ص 100)
15- جريدة أوان الكويتية/ الاثنين 2008/11/3 العدد:349
16- شرفات بحر الشمال/ د. واسيني الأعرج/ دار الآداب ط 2002 (ص114)
17- شرفات بحر الشمال د.واسيني الأعرج/ ط 2002 دار الآداب (ص139)
18- شرفات بحر الشمال د.واسيني الأعرج/ ط 2002 دار الآداب (ص153).
19 - شرفات بحر الشمال د.واسيني الأعرج/ ط 2002 دار الآداب (ص 183)
20- شرفات بحر الشمال د.واسيني الأعرج/ ط 2002 دار الآداب (ص 187)
21- موسوعة ويكيبيديا العالمية الحرة) Rewald, John. Post-Impressionism: From van Gogh to Gauguin, revised edition, Secker & Warburg 1978, ISBN 0-436-41151-2
22- شرفات بحر الشمال د.واسيني الأعرج/ ط 2002 دار الآداب (ص221)
23- شرفات بحر الشمال د.واسيني الأعرج/ ط 2002 دار الآداب (ص 265)
24- شرفات بحر الشمال د.واسيني الأعرج/ ط 2002 دار الآداب (ص 301)
25- شرفات بحر الشمال د.واسيني الأعرج/ ط 2002 دار الآداب (ص 303)
26- شرفات بحر الشمال د.واسيني الأعرج/ ط 2002 دار الآداب (ص 316)

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى