الثلاثاء ٣١ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم ورود الموسوي

منهجية السرد (الذي أكلت القوافي لسانه)

نموذجاً..!

حين تقيس سرعة انشغالاتك بمقاييس الضوء ستتحسسُ رأسك الممتلئة بكل الزُحامات .. لتستغل فترة انتقالك بين محطات الانتظار لقطار عابرٍ يقلك حيثُ زحمة أخرى .. لابد من ملأ وقوفك بما لا يعبرك مسرعاً كما القطار .. كما الوجوه التي لا يربطك معها شيء سوى الانتظار .. ستجلس عامداً لاستنشاق ما اشتاقته رئتك وعقلك ..تتحسسُ غلاف هذا الكائن الذي قالوا عنه انه خير انيس في الدنيا وخيرُ جليس في العالم .. هذا الكتاب الذي تعرفُ مسبقاً ما تَجهّز بهذه الهيئة ولم يتدور ويتكور بين يديك الا نتيجة جهد متواصل .. يتمترسُ خلفه جنود لا تعرفهم .. لذا عليك أن تجمع حواسك متيقظاً لكل ما يريده كاتبه .. عليك أن تكون أميناً كما استأمنك هو على أفكاره / ابداعه / جهده .... الخ

تجلسسُ .. تقفُ .. يضغطك العابرون من الزحمة لكنك لا تشعرُ الا برائحة الكتاب الذي اشتاقتها كل حواسك منذ ما لا تدريه من الوقت ..ليس بسبب انشغالك المتكرر بل بسبب رداءة ما يُطبَع..!

ولأنك تحترم عقلك – هكذا قلتَ وستظل تردد- تُجهد ذاتك كثيراً بُغية الحصول على ما يليق وذائقتك ..فكيف بعد هذا الانتظار تُمسك هذا الكائن الذي أغراك عنوانه لحظة مصافحته..!

وأنت تتصفح ( الذي أكلت القوافي لسانه وآخرون) تُدركُ جيداً أن الكتابة فنٌّ خالد .. والكتابة عن الاخرين يتطلب فنّية وحرفية توازي القدرة النقدية في طرح المعروض .. وتدركُ ايضاً أن ما يتردد حول الأمانة العلمية جهدٌ آخر لا يتحصله الا من رحم ربي .. في وقت لا يهتمُ بالكيف بل بــ كم ما تملك ...!

ولأن الكاتب هو ناقدٌ قبل كل شيء .. متخذاً من شيخه علي جواد الطاهر قدوة في اتباع المنهج العلمي والاكاديمي بغية الوصول الى آخر قطرة في الكأس دون –إهلاك- القارئ وضياعه في دهاليز لا يعرفها ولا تمت له بصله.. لذا جاء السردُ تكثيفياً غيرُ عامد للاطالة فيشعر القارئ بالملل ولا مقتضباً فتتشوه صورة المحكي عنه في عقل القارئ رغبة باستزادة ... جاء منهجه مُمَنهَجاً بدقة عالية .. معتمداً – دون تكلف- المنهج العلمي في السرد .. ايماناً مني بأن العقل الناقد لا ينفك عن النظر لكل شيء بعين النقد وهذا ما وجدته حاضراً بقوة في الكتاب رغم محاولة المؤلف الابتعاد عن الجانب النقدي قدر استطاعته .. لكن من الصعب ان تقلع هذه العين ...!

لذا جاء الكتاب منهجياً في طرحه واختياره بدءً بحياة رائعين أثروا الثقافة العربية وأسهموا في رمي حجارات متعددة لتحريك الجامد في اللغة والادب ..ولم يكن اختياره لهم عبثاً .. أو عن طريق صدفة بل جاء ايماناً منه بما أثروه وما اكتنهوه من علم ومعرفة ومصداقية وشعرية وثقافة ..رغم أن الدكتور علل في المقدمة ان سبب اختياره لهذه الاسماء بسبب انهم من الراحلين وان ارضاء الاخر صعب المنال .. لكني أرى أن السبب الحقيقي وراء هذا الاختيار هو ابداعهم الحقيقي من وجهة نظره كــ ناقد وما تركه من أثرٍ على حياة الكاتب الابداعية والاخرين .. وثانيها: يمت بالدرجة الاولى لذائقته المحضة بتذوق آثار هؤلاء الذين ضمهم بين دفتيّ كتابه .. هذه الذائقة التي يحاول ايصالها للقارئ العربي بتعريفه بهذه الشخصيات التي سطع نجم بعضها كالرصافي والجواهري والسياب والبياتي وبلند الحيدري ومنهم ممن لم يُسلّط عليهم الضوء لأسباب عديدة منها شظف العيش والزهد بحياة الشهرة والنشر كما حدث مع شيخ المشردين في العالم حسين مردان ومحمد البريكان بسبب زهده في النشر ... او عبد الامير الحصيري بسبب قسوة الحياة معه حيث كان ينام في مقاهي شارع ابي نواس المكشوفة بعد اغلاقها حتى موته عند احد هذه المقاهي .. وكذلك الناقد عبد الجبار عباس الذي وهب عمره للنقد ...ولم يُشرك به أحداً .. وكذلك اختياره لشخصيات عربية من مصر واليمن.. ليست مداراة أو محاباة لأحد ( كونه عاش في مصر وعمل في اليمن) بل كان اختياره نابعاً من ذات المصدر .. وعوداً على بدء .. هذا الأختيار كان عبارة عن رفد الذوق العام بالاطلاع على حياة هؤلاء .. بمعنى ان المؤلف أراد اشراكنا معه بالمشي وراء ذائقته .. وهذا ما اؤمن به – شخصياً- أننا حين نكتب فإننا لا ارادياً نُخضع القارئ لذائقتنا .. ليس استعلاء على المتلقي بل لاشراكه بتذوق ما نتذوق وما نرى وما نؤمن به من افكار ..

بعد هذه المقدمة التي أراها طالت حان وقت الكشف عن الناقد الذي لن تأكل السنين ذاكرته وعلميته وأمانته في تناول الشخصيات .. هو الدكتور الناقد عبد الرضا علي

ولستُ بحاجة لتعريفه يكفي أن أقول ان كتابه الأسطورة في شعر السياب كافياً لأن يكون دليله اليه..!

وهنا أود أن أمد الظل ليصل الى بعض ما اعتمده الدكتور عبد الرضا علي في كتابه الذي أكلت القوافي لسانه وآخرون:

المبنى الحكائي وصوت الراوي:

اعتمد المؤلف الجانب الحكائي لبناء سرده الذي بدا لي مجموعة قصصية واقعية لشخوص تعرفنا عليهم عن طريق ابداعاتهم لكننا نجهل بعض التفاصيل التي قد لا يهتم لها ناقد او رائي بحكم تسليط الضوء على ماهو أعمق بعيداً عن الجانب الشخصي للمبدع..!

في كل قصة يعود بنا الدكتور الى زمن ( الحكواتي) الذي يأخذ صوت الراوي فيها ويسرد بعض ما رآه لكن ما رآه اليوم ليس من بحار سندباد السبعة وليس من عودة الاساطير بل هم اناسٌ عايشهم وعرفهم .. انه حكواتي القرن الواحد والعشرين برؤية مختلفة واثارات قد يعبرها القارئ العادي لكن للقارئ الجاد هي شذرات تفتح مصراع عقله على البحث والتنقيب في سيرة المحكي عنه بعيداً عما يُعرف بأدب السير الطويلة .. بل نحن أمام مفاتيح لهذه السيرة بذكر موقف تلاصق مع البطل حتى آخر قطرة من نزفه ..( أنا رجل شارع حقيقي .. بل أكثر من ذلك إنني شيخ المشردين في العراق وفي العالم)على لسان حسين مردان / بطل الحكاية الثالثة ص31.

كان صوت الدكتور في كل هذه الحكايات هو صوت الراوي الذي كان شاهداً أو سامعاً يتحلى بأمانة النقل .. حتى لحظة اخضاع المحكي عنه لدراسة نقدية سريعة كما حدث مع الجواهري وحسين مردان ومحمود البريكان وغيرهم حين اشار الى اشارات سريعة حول نتاجهم باختيار بعضها وتحليلها من وجهة نظر قارئ متذوق اكثر من كونها وجهة نظر نقدية بحته ..!

لكنه حاول أن يسلط الضوء على حسين مردان والذي تناصف مع محمود البريكان بتناول نقدي لبعض ابداعاتهم بالمجمل .. و بقدر ما جاءت مهمة الاستعراض سريعة لشعر مردان لكني وجدتُ اني بحاجة لاقناع أكبر كي اتفق مع ما ذهب اليه الدكتور في اشاراته الى اهم المحاور التي شكلت شعر هذا الرجل وشعريته..قد اتفق معه في تحديد المحاور التي اعتمدها –وهو الاوسع اطلاعاً على شعر الرجل- لكن تلك العجالة السريعة لسرد حياة حسين مردان من خلال شعره رأيتُ أن من الصعب تناوله على عجل .. وذلك لأني قرأت البعد العاشر في قصائد هذا الشاعر ولم اعتمد ظاهرها الذي اعتمده الدكتور حسب محاوره التي حددها سلفاً..!

وهنا اود الاشارة لبعض ما جاء وبشكل خاطف .. يصافحنا اول تلك المحاور التي تناولها الدكتور هو محور اللُهاث والذي تناول موضوع الحب والمرأة وتناقض مردان الدائم في تحديد ما اذا كان عدوا للمرأة والحب ام انه مجرد محبط وخائف من هذين الكائنين وفي هذا الصدد انقل هذا المقطع على لسان حسين مردان ( اني لم ابتسم لفانوس الحب ولم اغمس شفتي في نوره ..ولذلك اصاباتي بالقلق بسيطة وقصيرة) وهنا يعلّق الدكتور : يناقض نفسه بنفسه حين يقول: ( فالحب تفجير ذريّ لا خلاص منه الا بالذوبان فيه)

في الحقيقة لم أرَ أي تناقض يُذكر بين المقولتين – على لسان مردان- فحين نتتعرف على طريقة عيشه البوهيمية واللا استقرار الملازم له .. سيتضح لنا أن ما جاء في مقولته الاولى ماهي الا مقولة الذي يود لو يعيش هذا الكائن الذي شبّهه بالفانوس الذي يحتاج الى زيت .. الى وقود كي يشتعل وهو لا يملكُ فعلياً هذا الوقود كي يشعل فانوس الحب ويبصر من خلاله .. ودليل قولي هذا .. مقولته الاخرى بأن الحب تفجير ذري لا خلاص منه الا بالذوبان فيه .. هنا تعريفٌ لهذا الكائن الذي يحتاج الى من هم أكثر شجاعة منه كي يذوبوا فيه للخلاص منه ..!

اذن هو يرى انه ليس أهلا لهذا الحب المعتمد على الوقود والتفاني لأنه لا يملكهما باختصار شديد .. والسؤال كيف نطلب من معدَمٍ أن يمارس دور الحبيب والحبيب برجوازي بطبعه حتى وإن كان فقيراً ..؟!

اما موضوع المرأة التي جاء محيّراً حسب تعبير الدكتور عبد الرضا .. وهو موضوع يستحق الوقوف ايضاً .. فالمرأة التي تناولها حسين مردان .. لم تكن بنت الجلبي التي طمح السياب الفقير منها بنظرة من خلال الشناشيل .. ولا هي غانية من غانيات نزار قباني البرجوازيات .. انما هي انسانة مهمشة .. محطمة اجتماعياً تماماً مثله هو ...!

هي اقرب أن تكون شبيهة بإمرأة مظفر النواب .. مع الفارق الكبيرفي التوظيف ( كون النواب شاعر سياسي وكل رموزه يوظفهم بهذا الاتجاه) .. فالنواب وظّف المومس توظيفاً سياسياً :

سيدتي كيف يكون الانسان شريفاً

وجهاز الأمن يمدُ يديه بكل مكان

لكن ما اريد الاشارة له ان المرأة عند النواب هي المرأة المعدمه ايضاً ومن طبقة المحرومين والمهمشين الذين اضطرتهم الحياة الى البغي ليصبحن من خضراوات الدمن –حسب تعبير الدكتور- فرمزية المرأة المهمشة وقد يتقاطع معي كثيرون .. اراه نوع من الصراخ بوجه الانسانية ... فبائعة الهوى ماهي الا انسانة همشها الواقع وهشمتها الظروف لتصبح نديمة او رفيقة لمهمش ومهشم مثل حسين مردان ..!

اذن هذه هي امرأة حسين مردان لابد أن تكون من ذات الطبقة التي ينتمي لها .. كي يوحّد بين ما يؤمن به في مقولته الاولى انه لم يشعل فانوس الحب ..لأنه لا يملك وقوده .. وايضاً كي يوحد ما مر بمقولته الثانية فهو قد يمر بهوى عابر مع بائعة هوى عابرة يعيش معها الذوبان الذي يحتاجه للخلاص من هذا الحب العابر والعبور منه الى اخرى وهكذا دونما استيطان واحدة فقط ...!

وربما سيكون لي موضوعاًمنفصلا حول شعر حسين مردان ... لكن قولي هنا ان ما ورد عن حسين مردان على اقل تقدير -كقارئة-وجدته بحاجة الى اقناع اكبر رغم علمي مسبقاً ان الكتاب لا يحتمل نقد مفصل لكني ما زلتُ بحاجة لتبريرات عدة كي اقتنع بالكيفية التي تم اعتمادها في مناقشة شعر حسين مردان ...!

وكي لا ابتعد عن دائرة الصوت .. فقد ظل الدكتور عبد الرضا علي محافظاً على توازن قل نظيره في سرد ما خفي من حياة شخصاياته.


البعد الزماني والمكاني وترابطه بالشخوص:

ليس الزمن في هذا الكتاب الا عاملاً اساسياً لحياة المحكي عنه ينقلك من عالم الولادة الاولى وحتى عالم الموت الابدي .. وما المكان الا تلاصقاً وجودياً للزمن ..!

واعتماد هذين البعديين دون شك عملا على جعل الكتاب اكثر منهجية من الناحية التاريخة هذا لو فهمنا ان التاريخ هو حدث والحدث مكان وزمان ..!ليس هذا وحسب بل راح يأخذنا الدكتور في رحلة زمكانية يعبر بنا حيث نحن الان عائدين معه على بساط الذاكرة كي نتجول في مقاهي شارع ابي نواس حيث كان الحصيري ينام ..!

أو نجلس على علبة صفيحة ومنضدة خشبية متآكلة لنكتب العرائض في باب وزارة العدلية مع بلند الحيدري كي نكيد خاله الذي يشغل منصب الوزير فيها .. وحين نتعب من التجوال في شوارع بغداد – رغم انه سفر الذاكرة لكنها تتعب احيانَ كثيرة حين تذكر الراحلين – نصعد بالتكسي كي يوصلنا موسى كريدي دون اجرة .. وحين يجن الليل نرانا بلا مأوى في هذه المدينة التي تعج بالاضواء – بغداد- وما أدراك ما ليلها الستيني الذي يمر علينا مع حسين مردان وهو يبحث عن حديقة أو مكان ينام فيه ..! وحين نقرر السفر خارج العراق نرانا نجوب أمكنة اخرى كالقاهرة وتعز وصنعاء .. هذه الأمكنة التي يحملنا اليها الدكتور دون عناء .. ودون الحاجة لوصف مسهب عن كل مكان يكفي أن تقرأ ما كان يعانيه بطل القصة لتستشعر المعاناة ..!

المكان شكّل بعداً آخر في هذا الكتاب وترابطه الشخصي بذاكرة الكاتب الذي دعانا معه للسفر واستقصاء ذلك العالم .. وأنت تقرأ ستعيشُ فعلاً بينهم .. ستحزن وتضحك حسبما تقودك ذاكرة الكاتب ... وقد تراجع التواريخ التي تمنيتَ يوماً أن تكونها أو تعيشها ..!

ونقطة أخيرة اود الاشارة اليها .. في الحديث عن بلند الحيدري ذكر الدكتور ان السياب سأل الحيدي عن ميلاد جواد سليم ليجيبه 1926 وليسأله عن ميلاد الفنان خالد الرحال وليكن 1926 وليسأل الحيدري وعام ولادتك فيجيب 1926 ليصيح السياب بصوت مرتفع وانا كذلك من مواليد عام 1926 اذا فقد ولدت العبقرية العراقية في هذا العام تحديدا / ص72

ما شد انتباهي ان كانت عشرينيات القرن الماضي شكلت العبقرية العراقية فإن التسعينات منه قد أكلت الكثير من العبقرية العراقية بدء بعام 1992 حين رحل عبد الجبار عباس وصولا الى عام 1994 حيث رحيل محسن اطيمش .. لتتجسد فجيعة الفقد في عام 1996 حيث رحل عنا فيها .. شيخ النقاد في العراق علي جواد الطاهر وبلند الحيدري الذي لحقه ذات العام .. وبعدهما موسى كريدي .. وليس بعيداً بكثير يرحل الجواهري عام 1997 وتختتم التسعينات حصادها بعبد الوهاب البياتي ..!

في الختام : هذا الكتاب أراهُ هدية وفاء من الدكتور الى اصدقائه الراحلين .. الذي حرص أن يكون اميناً .. دقيقاً .. وصادقاً في نقل ما عمد الى نقله للقارئ العراقي والعربي ..!

فهنيئاً لنا بهذا الأثر الذي أراه بداية لسلسلة أخرى قد تكوّن سايكولوبيديا المنسيين من شعراء وكتاب عراقيين وعرب .. نتعطشُ دوماً لسماع الكثير عنهم..!

فشكراً لا يُشبهها شيء...!

نموذجاً..!

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى