الثلاثاء ١ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم غازي القبلاوي

حفنةٌ مِنْ قوسِ قُزَحْ

(إلى علاء، نزار، خلود… ومن تبقى مني)

(1)

… وبقية من أمنيات تلوذ خوفَ أن يلحقها الأذى، صباح آخر لا يريد أن يأتي، ضوءٌ تائه عبر مساحات الاخضرار بالحديقة. لا سنونوات يهاجرن، فقط بقايا لصوت يذوب مع الفجر عبر الصومعة.. النوم يستجدي راحته.. تعبره برودة الغد.. برودة اليوم.. يبحث عن تلك البداية هناك قادمة مع الصخب والدخان..

(2)

الصور تساقط.. أحاول جمعها.. أحاول البدء من إحداها، لا أستطيع.. أكتب ما ينزلق إلى سن القلم حتى آخر ما يعتمل بالقلب.. عند تمام النهاية تلمع بقاياها المحترقة.. بقاياي المترمدة.. من هنا إلى أين؟ لا يدري من كان لا يدري.. سيبقى الغد يتسول الأمس وسيبقى اليوم، الحاضر يهرق دقائقه وينسج لحظته عند اكتمال المستحيل، أعرف أنني سأغدو حلماً.. فتاتاً من ظلام.. حفنة من قوس قزح عند آخر المطر. صخب الأصدقاء وحرقة الحنان المفقود.. آثارنا على ذهب الشاطئ المتيم بالجمال.. صورهم ها هي تتبعثر أمامي يصيبها الجليد بالجدب.. بعد الصحراء جاء البرد وكانوا فيه، واحداً تلو الآخر مضوا.. ومعهم أشعة الشمس الحارقة ومذاق الحميّضة والقيز.. رائحة القندول* والربيع الخجول، عند حافته سفحنا عطر ما لا يعود من الأيام.. أحاول، نعم أحاول أن أستمر.. لا تكفْ صورة تلك الليلة عند نهاية الاحتفال عن الانهمار، وحيداً كنت غريباً عن المكان، شارع مغسول بالزهر والرطوبة.. وآخر العائدين تلوح أضواء سيارته الخلفية عند المنعطف، أنقل الذراع عند السرعة الأولى، أمضي، تمر عند بوابة الفندق العتيق أصوات مزمارٍ ورقصة مشتركة لمن تبقى مني.. أرخي للمركبة العنان.. لا ألحق بشيء.. فقط السرير والوسادة وبقية من أمنيات تبحث عن بقيتها ولا تؤوب…

(3)

صوت منبه جهاز التنفس الصناعي يغتال ذلك الجزء من قشرتي الرمادية.. أضغط زر الإطفاء ويظل الضوء الأحمر يومض.. تقف الممرضة عند نهاية الممر " دكتور لا تهتم به.. أغلق باب حجرتك ونمْ.. إنها الرابعة صباحاً، خذ قسطاً من الراحة.. سأسهر بجانب هذا الجهاز….". أبتسم لها، رغبةً لإخراج شعور بالفرح أو أي إحساس محايد لا طعم له ولا لون.. لا أستطيع.. أترك الجهاز يصيح، أغلق الباب خلفي.. وحيداً هأنذا، أنتظر قدوم الغد الذي أتى.. الساعات تساقط أمامي كالصراصير التي تملأ الحجرة.. أسحقها بلا رغبة لها في أن تعود للحياة.. أشرع النافذة العالية، أمنح لبرودة الفجر فرصة الاقتحام.. يمتد عبق رطوبة أوراق الصنوبر معيدة الروح لرائحة التراب الطيني المكسو بأوراقه الأبرية الجافة، والدخان يتصاعد من الجمرات المتقدات في الموقد .. طعم الشاي المحترق يسيل إلى المعدة، استجداءً لمشهد الصباح.. الغابة هنا.. "بيييب.. بيييب…بيييب" أعود إلى هنا، أشاهد خيبتي.. غداً يوم آخر ينتحر طلباً للنوم.. وبعده لا يمكنني الجزم به.. يأتي صوته قريباً، عبر الهاتف، من وراء مغربها..".. ستأتي في غضون شهر.." أجيب " أعلمنا قبل ذلك بقليل حتى نستقبلها" ، "نعم…. نعم بكل تأكيد……." " ألو.. هل مازلت على الخط…" "……" ، " آه يبدو أن المكالمة ستنتهي، أراك بخير" ، "أراك.. مع السلامة"… لا يغلق هو، ولا أغلق أنا.. ينقطع الصوت.. أحيل نفسي إلى الأصوات التي تأتي وتختفي .. "أراك".. صوتٌ آخر " هل تتذكر جلساتنا بمقهى القصر، قبيل الامتحانات، كنت تحب أن تطلب النرجيلة"..يأتي صوته" تصور أنني وجدتها هنا عند أطراف المدينة…" كان صوته يشي بطعم لا يفارق صورة المرارة.. تنتهي الأصوات وتبقى "أراك" دون بصر.."بييب… بييب…"

(4)

عند بحيرة.. في منتصف الصحراء.. اسوداد الماء ينذر بلا نهاية القاع.. بحيرة (عين الدبان)*.. مرارة وكائنات تشتاق لرؤية الضوء...
  إلى أين تصل هذه البحيرة…
  يقولون إنها عميقة جداً، حتى أنهم لم يستطيعوا أن يصلوا لنهايتها..
  إنها مرعبة بالفعل.. هنا في قلب صحراء جافة يخرج الماء مراً لا يعد بالحياة..
  دعنا نغطس، ونسجل أننا سبحنا في الصحراء..
أصوات تناثر الماء لحظة ارتطام الجسد به.. تنافس على من يحقق أجمل غطسة.. دفء الماء يخدع بالبقاء.. الذباب يحوم، يولد من هذا المكان ولا يعرف غيره.. يستمر في البقاء هنا حتى لا تحرقه الشمس، يموت وفي فمه طعم المرارة لا يذوب..

(5)

رائحة الكماء المشوي على النار ترتفع.. يذوب في الفم.. ساخناً لذيذاً، يضع السخان على النار يصب الماء فيه، يضع ملعقتين من الكاكاو..
  كاكاو على الحطب، ترفاس* وقيز*، ستكون وليمة رائعة..
نضحك..
ربيع آخر ذهب مع بتلات الخشخاش الصفراء.. حفنة من ذلك المكان تنحني عند الغروب.. لن نعود..

(6)

الصراصير بالحجرة تسحق دون رغبة منها في الحياة..

(7)

ما تبعثر من أمنياتي اعتراها ما أصاب الذكريات.. جليد حاضرٍ في أقصى العالم وصمت أمواتٍ في قارة الصحراء هذه.. أو شهقات المحتضر المتشبث لآخر خلية بالاستمرارية.. ها هو يجري مسرعاً، يتسلق جدار الحجرة الكابي، ألمحه، لا أسحقه.. أنام.. لا أستيقظ.. أراني على الأرض الرخامية البيضاء، المعروقة، ملتصقاً تنز مني سوائل لزجة، مُداساً، مسحوقاً على الأرض، أنتظر تساقط الصباح…


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى