الثلاثاء ١٤ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم بسام الطعان

أول مرة

الجو ربيعي بديع، والفجر بزغ منذ قليل ومحمل بالندى والنسائم المنعشـة، وعصـافير الدوري تتنقل بين الغصـون ولا تمـل من زقزقاتها، ورجلان مدججان بكراهية النظافة يسيران جنبا إلى جنب وكأنهما قادمان من مزبلة. الأول بدين وقصير، يرتدي بنطالاً أسود لا جيوب له وممزقاً من أطرافه، وكنزة صوفية لا أحد يعرف كيف اجتمعـت فيها كل تلك الألـوان، والثاني أعـور ونحـيف وطويل، يرتدي ثوبا فضفاضاً كان في يوم ما أبيض.

كانا عائدين من الفرن، محملين بأرغفة الخبز الطازجة التي تعبق منها روائح نفاذة. كانت نسـيمات الصباح تداعب الدهـون البراقة الجاثمة على وجهيهما، وهما يسيران ويقضمان قطعات صغيرة من الرغيف، يمضغانها بلذة، دون أن يغسلا وجهيهما.

عندما مرا من أمام مدرسة البلدة الصغيرة، وقع بصرهما على خرقة بيضـاء ملقاة أمام باب المدرسـة، لاحـظ البدين أن الخـرقة تتحرك، فاسـترعت انتباهه، نبه رفيقه لذلك ثم ركضـا مسرعين باتجاهها، انحنى البدين والتقطها، لكنه اندهش حينما رأى رضيعا ملفوفا بالأقمطة:

 يا الهي، من هذه المرأة التي تركت رضيعها هنا؟

التفت الأعور من حوله ثم قال بصوت أقرب إلى الهمس:

 يبدو حديث الولادة، لعله لقيط!

كشـف البدين عن وجـهه فشهق ووقف مكتوم الأنفـاس، وبعد لحظات قال:

 انظر إليه، إنه بعين واحدة!

 ماذا تقول؟ بعين واحدة؟!

نظـر البدين إلى الرضيع مـرة أخرى، ثم إلى رفيـقه، ثم إلى الرضيع، ثم إلى رفيقه وفجأة قال:

 إنه يشبهك، إنه مثلك بعين واحدة، أمتأكد من انه ليس ابنك؟

 أف.. ابتعد عني، رائحتك أقوى من رائحة التيس. وحين ابتعد عنه قليلا أضاف:
 ماذا تقول يا رجل؟ ألا تعرف أن زوجتي قد ماتت منذ سنوات!
 آ.. أنا آسف، نسيت ذلك.

تمطى الرضيع وزعق بصوت عال، ومع صراخه طارت من حنجرته عصـافير الجوع، وعلى اثر ذلك، اتجهت امرأة نحوهما وكانت هي الأخرى قادمة من الفرن، وقفت أمامهما وقد تشعبت الدهشة في ذاتها:

 ما هذا الذي تحملانه؟

 طفل صغير وجدناه هنا، انظري إليه لعلك تتعرفين إليه.

تجمدت من كلامه، وبعد أن استوعبته قالت بلهجة من يفتح بابا للعراك:

 ومن أين لي أن أعرفه؟ هات لأرى.

أخذته بحرص شديد من بين ذراعيه، قضت وقتا في حيرة وفجأة صرخت:

 أين عينه الأخرى؟

تراجـع البدين عدة خطوات إلى الوراء، وبدا مثل لـص داهمته دورية شرطة، لكنه رد بشجاعة:

 وما أدرانا أين عينه الأخرى، نحن لم نسرقها.

اقترب منها الأعور، وقال بصوت أوله رجاء وآخره خوف:

 خذيه معك، يبدو أنه جائع، خذيه أو تبنيه إن أردت.

ردت دون أن يفارقها ذهولها:

 لماذا لا تأخذه أنت؟ ثم أنه مثلك بعين واحدة.

اقترب منها البدين وعقب بضراعة وتوسل:

 خذيه انه رضيع، خذيه لوجه الله.

 ولماذا لا تأخذه أنت يا مقصوف الرقبة؟

وبحركة سـريعة سلمته إياه وعادت أدراجها بخطا سريعة وهي تقول:

 هذه مصيبة، اذهب به إلى أي مكان، أنا لا أريده.

حاول الأعور بدوره أن ينفذ بجلده، ويتخلص من المصيبة التي حلت به، انسـحب بهدوء مـحاولا الابتـعاد، لكـن البدين انتبه إليه وصاح به:

 إلى أين تريد أن تذهب يا شيبة الشؤم؟ أتريد أن تهرب وتتركني مع المصيبة؟ تعال.

عاد إليه وهو يتأفف ثم قال:

 ماذا سنفعل به؟

شطرتهما الحيرة، لا يدريان ما يفعلان، فلم يكن أمامهما كثير وقت يضيعانه. قال البدين:

 ما رأيك لو نأخذه إلى المخفر، نسلمه للدركي ونعود إلى بيوتنا وكأننا لم نر شيئاً؟

قرص الشمس يطلع رويدا رويدا، مرسلاً أشعته الدافئة لتتكسر على جدران الأبنية، وهما يسيران باتجاه المخفر، يتبادلان الشتائم، ويسخران من بعضهما والبعض، وكل واحد يتهم الآخر بأنه السبب في هذه المصيبة.

باب المخفر مازال مغلقا ونظراتهما تدور في الجهات في حالة قلق وخوف.. بطرف عينه السليمة تجسس الأعور على المخفر، تفحص المكان جيداً، خوفا من أن يراهما أحد:

 لتجلس خلف ذاك الحائط، ريثما يفتحون الباب.
 وهل تريد فضيحتنا أيها الأحمق؟ تعال لنطرق الباب.

تقدما بهدوء وطرقا الباب، وبعد دقائق خرج دركي منفوخ البطن والعينين والوجنتين، وقبل أن يسمع كلاما أو سلاما، أشار إليهما بسبابته وقال بغضب دفين:

 خير؟ أنت سكان هذه البلدة الموبوءة ليس وراءكم إلا المصائب.
قال البدين والخوف يدّب في خلاياه:
 يا سيدي وجدنا هذا الطفل أمام باب المدرسة ولا تعرف لمن هو.
 متى وجدتموه؟
 قبل ساعة يا سيدي، فماذا نفعل به؟
 خذوه لكم.

رفـض الاثنان بشـدة، عندئذ تدفق صـوته الهـادر من مغارته، انغرست فيهما صرخاته العالية ولكن لا فائدة، وعندما يئس منهما، حملق فيهما طويلا وقال كلاما لا يقال لرجلين وإنما لامرأة. كيف جاءته النشـوة في الصباح الباكر وهو يرى أمامه ثورين أو تيسين أو بغلين؟ ثم قال وهو يتأفف ويحوقل:

 ادخلوا يا أوباش، ضعوه على الطاولة ريثما أجد حلاً.

فرح الأعور وكأنه قد تخلص من كل عيوبه دفعة واحدة:

 هذه أول مرة نرى فيها لقيطا.

 صدقت، أنا لم أر في حياتي لقيطا.

التفت إليه الدركي وقال بعصبية:

 وهل تظن نفسك من القديسين؟ ثم سدد نحو الأعور نظراته صاروخية:
 من قال لكم يا أوغاد انه أو لقيط!.. اغـربوا عن وجهي يا أولاد الـ... بعد أيام ستأتوني بالخامس.

وما كان منه إلا أن دفعهما إلى الخارج وصفق الباب في وجهيهما بعد أن أخذ منهما رغيفين! وجلس يفكر فيما يستطيع أن يفعله لإسكات ذلك الوليد الذي كان صراخه يعلو ويعلو محتجا على مجيئه إلى هذا العالم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى