الخميس ٢٣ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم غزالة الزهراء

فرصة العمر

الشاطئ يمتد على مدى البصر، يغص بالمصطافين الذين تدفقوا من كل حدب وصوب فرارا من ألسنة الشمس المحرقة كأتون النار، ومن الروتين اليومي الصاعق، الممل، هؤلاء كلهم توافدوا إلى هذا المكان فرادى وزرافات، صغارا وكبارا لصرف أحلى ساعات عمرهم وأشهاها في خضم هذا البحر السخي، الساحر الفتان، إنه لمكان رائع يشعرك من غير شك وأنت مستلق على حبيباته المتراصة، الماسية أنك تملك بيدك اليمنى العالم وما فيه.

السماء بشفافية زرقتها العجيبة تتبسم بثغر زمردي لامع، تغمز من عل، وتطارح تلك الأمواج المتأرجحة غرامها الملتهب، وتحكي قصصا شيقة، مثيرة عن فلان وفلانة، وعن مصيرهما الأبدي المجهول.

كان مراد يتمشى الهوينا على الشاطئ وهواء البحر المشبع بالرطوبة يسخو عليه من غير استئذان، ويتسلل إلى رئتيه المنقبضتين في خفر فينعشهما. حين تكفهر سماء حياته اللازوردية المديدة، وتتساقط على شغاف قلبه زخات الحيرة الدكناء، ويطوق بسلاسل من الوحدة، والفراغ يفر إلى هذا المكان الحميمي الدافئ كفرار حمل أليف من شراسة الذئاب وعوائها ليرفه عن نفسه بعض الشيء، ويسترد نشاطه وحيويته.

علاقته الطيبة ودية لا تشوبها شائبة، ووطيدة جدا بهذا البحر حيث كان يتردد عليه وهو في سن مبكرة، وعشقه له يفوق الوصف، فهو من المدمنين بالدرجة الأولى من دون منازع.

ركن إلى صخرة كبيرة، صماء، اليوم بالذات لا تنتابه رغبة صادقة في السباحة، وإنما راح يدقق النظر بعمق في أولئك الغرباء الذين يجدفون بعيدا بعيدا كالخيالات، كالأشباح المفزعة.

الهاتف الخلوي يرن وإذا به يقطع عليه حبل تأملاته، تململ في مكانه وهو يسحبه من جيبه ببطء، إنها هي، نعم إنها هي.

تحدثت معه بصوت رخيم مفعم بالأحاسيس المتدفقة، لم يطق صبرا فانفلتت من فيه جملة صعقتها: لا تضيعي وقتك هدرا معي.

ثم هب من مكانه واقفا كأنما يرفض الإنصياع لهذا الصوت الأنثوي الذي أرقه أياما وليال.

مشى بضع خطوات ثم توقف كالتائه الطريد الذي لا يجد منفذا لحيرته وارتباكه، وانغمس في ضبابية الأسئلة الرعناء التي تفجرت في ذهنه لاسعة كالسياط، محمومة كاللهب: أتكون من اللواتي يتلاعبن بكل حنكة، وذكاء بمشاعر فتيان هذا العصر؟ أهي تتلذذ بآلامي وأوجاعي ثم تقذفني كعظام نخرة؟ أي نوع من الفتيات هي؟ أي نوع؟

لقد ربطتهما علاقة نقية امتد عمرها إلى أربع سنوات، وألح عليها مرارا بأن يكون لهما لقاء بريء طاهر ليتعرف عليها أكثر وخاصة أن عينيه المخضبتين بالعذاب لم تكتحلا يوما برؤيتها.

تختلق أعذارا واهية لا أساس لها من الصحة:

ــ صداع شنيع يؤلم رأسي، فلا أستطيع المجيء، سامحني يا عزيزي الوفي.

ــ أخي سقط من دراجته النارية وهو في المستشفى طريح الفراش بين الحياة والموت.

ــ والدتي مريضة لا تقوى على التحرك من سريرها، فأنا من يمدها الدواء في مواعيده، ويسهر على راحتها.

ــ سنؤجل لقاءنا هذا إلى يوم آخر، فلا تقلق.

كيف لا ينهش القلق جوانب نفسه وهو مرتبط بها عن طريق هاتفه النقال فقط.

يجب أن يضع حدا فاصلا لعذاباته هذه، وسيتحمل كامل مسؤوليته عما تسفر عنه من نتائج، وبحركة من يده أخرج هاتفه واتصل بها قائلا في صوت يكتسيه تحد وعزم: غدا سيكون لقاؤنا في الحديقة العامة وإلا ستنتهي علاقتنا إلى أبد الآبدين. فما رد فعلك؟

ــ موافقة، ولكن كيف ستهتدي إلي؟

فكر مليا ثم قال: مثلا احملي وردة حمراء في يدك.

سعادة طوفانية عارمة غمرته من رأسه إلى أخمص قدميه، سيراها غدا، هذا ما كان يأمله طيلة أربع سنوات، وها هو ذلك الغد يزحف ببطء لا متناهي، إنه قريب، قريب جدا.

دخل المكان المتفق عليه وضربات قلبه تخرج من بين ضلوعه، إحساس عنيف ممزوج بالفرح والانقباض ساوره، اليد تحمل وردة حمراء، إنها جالسة هناك بانتظاره، دنا منها، ارتجف كأنه مقبل على امتحان عسير، ليست كما تصورها خياله أبدا، إنها تشبه الأقزام السبعة تماما.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى