الخميس ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم محمد إبراهيم العريني

وفسدت كل قضايا الود

ما إن تقع عيناك علي فوديه الاشيببن ورأسه الأصلع ووجهه الذي تجاوز الخمسين، وما إن تستمع إلي صوته المرتفع وقصصه التي لاتنتهي ومواقفه التي لا مثيل لها ونقده للناس والأوضاع والأخبار والتصريحات حني تفتن به وتظنه رجلا قد خبر الحياة من القمة إلي القاع وقد فهم الأمور حني أصبح حكيم زمانه، هذ ا ما لفت نظري إليه أول مرة قابلته فيها.

هو رجل خارق للعادة حيث أنه دائما يتصور أنه لاعيب فيه مع إيمانه التام بأن لكل الناس عيوب، إذا رأيته يتحدث عن مواقفه البطولية وردوده العنترية علي كل من يحاول المساس به لتخيلت نفسك أمام امرؤ القيس في شموخه أو أمام عنترة في كبريائه أو حني أمام عمرو بن كلثوم في أنفته، هو رجل قد خبر الحياة فلا يعزب عنه شيئا. لديه القدرة علي أن يفتيك في كل صغيرة وكبيرة، فهو محلل سياسي وخبير استراتيجي وناقد رياضي، والأدهى أنه إذا أفتي بأمر فلا سبيل لديك للاعتراض أو المناقشة، وأني لك ذلك وأنت حديث السن، لم تمر بمعشار ما قد مر به من خبرات؟!

قابلت هذا الرجل فعلا وأحببته وظننت أنه كما ذكرت سالفا، ولكن الأيام أرتني مالم يكن في الحسبان، فتدريجا اكتشفت أن الرجل لا خبرة له بشيء بل علي العكس تماما؛ فمعظم أرائه تنبعث فقد من شخصية مريضة بالعظمة، والتظاهر بالعلم. وكان ينكشف لي ذلك يوما بعد يوم، خاصة إذا تناقشنا في موضوع علمي أوديني فمعظم أرائه يستقيها من التليفزيون أو من أحاديث الناس علي مر عمره الطويل. وإذا به لم يقرأ يوما كتابا ولم يستمع يوما إلي عالم أوقل حني لم يحاول ذلك، ولكنه يفترض - فقط لمجرد فارق السن- أنه أعلم منك ولوكنت أنت حتى قرأت مائة كتاب.

لم أستطع مداهنته فأنا لا أجيد النفاق حتي وان حاولت. ولكني في نفس الوقت لا أستطيع أن أكشف له عن حقيقته التي يخبئها وأظنه قد نسيها وصدق نفسه فعاش يتردد في وهمه.بقيت صامتا لا أريد إحراجه خاصة وأنه رجل كبير وأنا لازلت شابا أصغره بقرابة الربع قرن. ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.

كانت الطامة الكبرى عندما تناقشنا في موضوع، فأسرع كعادته ليفتي فيه، هذه المرة لم أستطع الصمت فلقد كان الأمر يخص الدين، فأخذت بلين أوضح مخالفتي له , وقع ذلك منه بمكان ولكنه كظم غيظه وباليته ما كظمه إذ أنه كظمه هذه المرة لينفثه علي حمما ( فيما بعد ) طول الوقت، وليرسل علي شواظا من نار حنقه في كل المواقف، فقد نسي كل الود الذي كان ونسي كل احترامي له وكل ماكان بيننا من المودة واتخذني عدوا، والغريب أن تري رجلا يظهر نضوجه يفعل معك من المواقف ما تأبي الأطفال أن تفعله وما كل ذلك لشيء إلا لأنك خالفت رأيه وابتعدت عن مداهنته، التي يحبها حبا جما وبسذاجة بالغة.

هجرني واتخذ من دوني خلا آخر، وبالطبع اختار هذه المرة شخصا جاهلا يداهنه ولا يعارضه في أي أمر، ثم ازداد الطين بله عندما وضعني وأحد الأصدقاء في كفة ميزان ووضع نفسه مع ذلك المداهن في الكفة الاخري، وهكذا بدأ في انتقادنا وملاحقة عيوبنا ليبشع في صورتنا وكأن الأمر ليس مجرد خلاف في رأي وإنما عداء شخصي لأننا تجرأنا بمخالفة ذاته المقدسة. ولعلك تعجب عندما تعلم أننا كنا نعامله بمنتهي الاحترام والود ولكن كل ذلك لم يعد يجدي نفعا. وهكذا انقسمنا إلي فسطاطين متنافرين.

وبعد هذه التجربة الغريبة تعلمت درسا في الحياة لن أنساه ماحييت وهو: ألا أصدر حكما علي أحد حتي أعاشره، فكم من مخدوع في المظهر لابد أن يصدمه في يوم سوء الجوهر,وأن الخلاف في الرأي قد يفسد كل قضايا الود.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى