الثلاثاء ٧ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم جميل حمداوي

الرؤية الامتساخية في أضمومة السعدية باحدة:

وقع امتداده... ورحل

نشرت الكاتبة المغربية السعدية باحدة مجموعتها القصصية القصيرة جدا في طبعتها الأولى سنة 2009م ضمن إصدارات مطبعة دار القرويين بالدار البيضاء في77 صفحة من الحجم المتوسط، وتضم هذه المجموعة التي حملت شارة الصالون الأدبي 33 لقطة قصصية وتقديما نقديا تقريضيا قام به المبدع والناقد مصطفى لغتيري.

إذا، ماهي خصائص جنس القصة القصيرة جدا في هذه المجموعة دلاليا وفنيا ومقصدية؟ وماهي تجليات الكتابة النسائية في هذا العمل الأدبي؟

أ- الرؤية الامتساخية وبشاعة الواقع الإنساني:

من المعلوم أن السعدية باحدة تركز ريشتها في مجموعتها القصصية:(وقع امتداده.... ورحل) على الواقع الموضوعي المنحط لكي تنقل لنا آهات الإنسان المعاصر المتأرجح بين آلامه وآماله ، وتستعرض أيضا انبطاحه التراجيدي وانهياره الوجودي واستسلامه لكوابيسه اللعينة كما في قصة (سلة الذنوب)، و تفجرلنا كذلك برشتها الواقعية والإنسانية كل ما يتحكم في العلاقات الجدلية الموصولة بين الذكورة والأنوثة سلبا وإيجابا.

وهكذا، تنتقد الكاتبة واقعها المهترىء، وتعري تناقضاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية، فتنتفض متمردة عن نواميسه الزائفة ومشاريعه السرابية التي تجعل الإنسان دائما ينتظر الأوهام المستقبلية البعيدة، ويحلم بالذي يأتي ولا يأتي، وكل هذا تعبير عن هشاشة الإنسان المعاصر وضآلته في المجتمع الآلي:

" رجل متزن، سقطت ذاكرته فتهشمت...

من "جوطية درب غلف" اقتنى ذاكرة

مستعملة...

لسوء حظه وجد شاشتها مصابة بداء التعتيم...

ضغط على جميع الأزرار:

زر البرامج المدرسية...البرامج التلفزية....

البرامج الحكومية...البرامج ...البرا...

من غيظه، رمى بها بعيدا...

فضل أن يعيش بدون ذاكرة."1

ومع هذه الهشاشة الوجودية المتساقطة، تتضاءل الذكريات الإنسانية وتضيع بين الآهات سدى، فتكثر الأحزان والمآسي والانكسارات الخائبة كما في قصة:" الهلع" وقصة:" انكسار/ انتصار"، وبالتالي، تتهشم الحياة كينونيا وأنطولوجيا ، وتصير غريبة في لامعقوليتها وبدون معنى ولا هدف:

" ابتلي منذ أن وعى بلم ذكرياته

وحفظها في صندوق خاص،

حتما سيحتاج إليها يوما ما.

انمرق العمر بسرعة من بين أصابعه...

التفت إلى مكان الذكريات...

وجد أن الصندوق قد اختفى...

منذ ذلك الحين وهو يبحث

عن طفولته المسروقة...عن شبابه الضائع...

عن فحولته المخصية...عن كهولته المنسية...

عن...عن...عن..."2

وتتجسد الكتابة النسائية في هذه المجموعة القصصية القصيرة جدا في التركيز على الرجل والمرأة ، واستعراض صراعهما الجدلي وعلاقاتهما الشعورية واللاشعورية الخاضعة لقانون المد والجزر ، حيث تكون العلاقات بين الطرفين المتقابلين إنسانية قائمة على التعايش والتفاهم والتواصل والصداقة والمحبة تارة، وتكون علاقة مادية قائمة على تحقيق المآرب والمنافع الشخصية وإشباع الغرائز والنزوات تارة أخرى كما في قصة " نيولوك" .

ومن هنا، فالكاتبة تصور في مستهل أضمومتها السردية ضمن أبعاد الكتابة النسائية خراب عش هادئ يجمع بين كائنين حميمين، لكن حركة الدمار الفجائي بسبب بؤس الحياة وصخب المدينة ستحول عشهما إلى خراب مهول فيحول سعادتهما إلى شقاء جنائزي وتعاسة أبدية:

" التقيا هادئين...عاشا ملتحمين...

أدمت ظهريهما ضربات السنين...

تحرك...حركته ماء.

تحركت... حركتها هواء.

التقت الحركتان...رجت الأرض تحتهما.

أحدثا التسونامي...جرف الآن والمافات.

عاودهما الحنين...

أطلت...أطل...أطلا على الآتي...

وجدا

عشهما

خرابة

للبوم والغربان."3

وتتحول الحياة إلى طاحونة تسحق الإنسان وتلعقه بآفاتها ومضارها وبلاياها المأساوية كما في قصة" عراك" وقصة" متقاعد" وقصة "المعلم الجديد"، وقصة" نيرون"، فيعجز الإنسان عن التحكم في دواليب الواقع الموضوعي وتسيير دفته في أمواج الحياة العاتية الصاخبة:

" طاحونة

في البدء كان يدير الطاحونة

بمزاجه

الآن

بدأت الطاحونة تديره

بمزاجه"4

وتجسد الكاتبة معاناة المرأة السيزيفية في صراعها مع حملها وذاتها وواقعها المزري كما في قصة" انتكاس" وقصة:" انتحار/ اندحار"؛ مما يؤدي بها واقع الحياة بمشاكله المستعصية إلى الموت والفناء كما في قصة:" حبلى وحبل":

" هي امرأة حامل: تحمل على ظهرها أوزار السنين

التي تعجل بالفناء، وتحمل في أحشائها بذرة حياة...

حرضت زوجها على اقتناء شقة بالتقسيط المري...ب

تسارع الزمن، فبعد أيام سيزدان فراشها بالوافد الجديد،

وستضاء حياتها عندما يتعلم ويصير من أعيان البلاد...

هي الآن لا تحتاج إلا لحبل غسيل، فضلت أن يكون قريبا

منها... رجل في المطبخ ورجل في البلكونة...

ثبتت المسمار... وأحكمت شد الحبل...

لم تطق البلكونة الثقل... ف...

لفظت الحبلى، واحتفظت بالحبل."5

وتلتقط الكاتبة مجموعة من اللوحات الاجتماعية المريرة كصراع الزوجين مع الحياة عن طريق تأخير الإنجاب قصد تحقيق كل الأحلام والأماني المعسولة، ولكن الرياح قد تأتي بما لا تشتهي السفن، فيجدان نفسيهما يجران ذيول الندم وعار الخيبة:

" تزوجا عن حب وهيام

تعاهدا ألا يلدا حتى يحققا جميع الأحلام.

تقاذفتهما محطات الزمن عشر سنوات.

عندما تذكرا...طرقا باب الإنجاب.

من خلف الباب جاء الجواب: إن الجنين

* بعد طول انتظار-

تمرد و"احرك" إلى ضفة أخرى"6

وتشير باحدة أيضا إلى العلاقات الإيروسية والغرامية بين العشاق الوالهين وغير الوالهين التي قد تنتهي بالجنين الموقع في بطن الأم إما بالزواج والاعتراف بشرعية المولود، وإما بفرار أحد الطرفين، وإما بالإجهاض (قصة إجهاض)، وإما بإلقاء الرضيع يتيما على جانب الطريق:

" مر من أمامها، تنظر في عينيها،

نظرت في عينيه...

مرت من أمامه، ابتسمت له،

فابتسم لها...

لم يعد يمر من أمامها...

تحسست بطنها بيدها...

فأيقنت أنه

وقع امتداده..

ورحل..."7

واستعرضت باحدة مجتمع الخادمات الذي يتسم بالشقاء والمرارة والبؤس، وصورت معاناتهن المأساوية وآلامهن الكثيرة بسبب الظلم الاجتماعي والقهر السياسي والفقر المدقع وقسوة العمل الشاق، فتكون حياة الكلب أفضل بكثير من حياة الخادمة:

" بيديها الصغيرتين تعد المائدة ... ترصفها بالصحون،

تزينها بما لذ وطاب...

تعرف أنه لا يحق لها حتى الاشتهاء... تبعد منخارها

وعينيها وأحاسيسها خارج الدائرة الكبيرة.

تمسح المائدة، تغسل الأواني، تكنس البلاط، لتجلس

مرهقة إلى صحنها المملوء والمكدس ببقايا ما

عافته الأصابع ومجته العيون.

تنظر بحسد إلى صينية الكلب... مرتبة وشهية...

آنية حليب، مربعات جبن، طبق مملوء بالألوان

مختلفة من اللحوم... هدية يوم لم يشق فيه، لم يتعب...

فكرت في حياة أفضل...

ذات صباح، في حالة استنفار قصوى، بحثوا عن الخادمة

فتشوا... نقبوا....

في بيت الكلب كانت نائمة."8

هذا، وتصور السعدية باحدة الغرائز البشرية تصويرا إنسانيا صادقا عبر رصد العلاقات الشعورية واللاشعورية التي تترابط ذهنيا ووجدانيا وحركيا بين الرجل والمرأة، فيتولد عن هذه التفاعلات السيكوسوسيولوجية مجموعة من الإحساسات والمشاعر الإيجابية والسلبية سواء أكانت إيروسية أم تناتوسية، عدوانية أم خيرية. بيد أن هذه المشاعر قد تصبح في بعض الأحيان بمثابة سراب واهم خادع كما في قصة:" انخداع" التي تحولت فيها المعشوقة إلى كائن مطاطي أو " مانيكان Mannequin" جامد:

" كلما مر أمام المتجر، تأسره ابتسامتها...

أخيرا قرر أن يتوسل إليها،

جثا على ركبتيه... تمرغ تحت قدميها...

استنفد كل كلمات الهوى، كل الآهات، كل

الاستعطافات...هي

ما تزال شامخة والابتسامة لا تفارق محياها

بقليل من الجرأة والتردد أراد مسك يدها...

سقطت دون حراك...

جرى كالفأر منكسرا، خجولا، مغتاظا من بلادته."9

وتدين الكاتبة في قصصها تصرفات الرجل في هذه الحياة الخادعة والواقع الماكر حيث يتلاعب بالكلمات التي قد تنقلب في بعض الأحيان ضده دون أن يستشرف عواقبها:

" فيما مضى، كنت تمارس لعبتك المفضلة

في التزحلق فوق الكلمات

الآن...

صارت الكلمات تمارس لعبتها في

التزحلق من رأسك"10

وتنقل لنا الكاتبة في مجموعتها القصصية العلاقات الرقمية وأثرها السيء على الزوجين وبنية الأسرة ومصيرها على غرار فاطمة بوزيان في مجموعتها القصصية " ميريندا " التي أولت أهمية كبرى للعلاقات الرقمية التي تجمع بين الرجل والمرأة: :

" هي تجيد حبك الحكايات...ممثلة بارعة.

هو يتقن نصب الشبكات...صياد محنك.

التقيا عبر الشات

ذات موعد وفي مكان اللقاء

سبقته بلحظات

رأت زوجها بجانب أخرى...

يسامرها، تؤنسه بضحكات.

هرعت مغتاظة إليه...

تراءى لها شبح ينفض الأخرى بيديه

إليه رفعت بصرها، تبادلا نظرات...

أدهشة؟...أم استغراب؟...أم ندم؟

لست أعلم."11

وتناولت الكاتبة في أضمومتها القصصية موضوع الامتساخ البشري والطبيعي بسبب تجذر الشر والحقد في النفس البشرية وانتشار الإحن والفتن في المجتمع الإنساني كما تدل على ذلك قصة:" لست قابيل" التي تعبر عن دناءة الإنسان واضمحلال الأخوة وموت الإنسانية. وبالتالي، ترصد الكاتبة في قصصها الأسئلة الكبرى وخاصة السؤال الفانطاستيكي الذي يتمثل في تحول الإنسان إلى حيوان ممتسخ عدائي كما في قصة:" نحيب" التي تحول فيها الإنسان والنهر على حد سواء إلى كائن ثعبان مسموم وغراب حزين.

وعلى العموم، تثور الكاتبة على واقعها البشري المنبطح الذي انحطت فيه القيم الأصيلة واندثرت، وتحول فيه الكائن الإنساني إلى حيوانات لادغة، فامتسخ فيه امتساخ الدناءة والحقارة كما في قصة"عقارب"، وقصة" أين المفر؟"، وقصة " خيبة"، وقصة"نزعة قردية"، وقصة " قارض" التي تتحول فيها الكائنات الآدمية إلى فصيلة القوارض الجشعة:

" هو جرذ من فصيلة القوارض، أصيب بالنهم...أخذ

يقرض...يهرش...يقضم...ينهش...

يقرض ليل نهار، خوفا أن تطول أسنانه، فتصير أكبر

من هيئته، إلى أن أصيب بالغثيان، صار يتقيأ على

موائد الجماعات والجمعيات والتجمعات...

ولا يزال يقرض...ينهش...يقصم... يهرش... إلى أن أصيب بالإسهال...

هو الآن يمارس إفراغ حمولته في مراحض الإذاعات

الشاشات والساحات العمومية...لكي يظل يقرض...

يهرش...يقضم....ينهش...فهو جرذ من فصيلة القوارض

...أصيب بالنهم...أخذ يقرض...."12

وهكذا، نجد الكاتبة السعدية باحدة تتناول قضايا الرجولة والأنوثة من منظار واقعي وإنساني موظفة في مضامينها الجادة لقطات تراجيدية ولوحات مأساوية تعبر عن الرؤية الامتساخية للإنسان والعالم والقيم.

ب- بين المفارقة الساخرة والفانطاستيك:

استخدمت السعدية باحدة مجموعة من العلامات الترقمية لتأطير قصصها القصيرة جدا وفرملتها تنغيميا ودلاليا وسيميائيا، فقد اشتغلت كثيرا على نقط الحذف إضمارا واختصارا واختزالا وتكثيفا، كما استعملت الفواصل لتقسيم المتواليات القصصية والسردية إلى جمل قصيرة ووظائف أساسية، والتجأت أيضا إلى الإتباع الفعلي والتراكب الجملي والتضمين التركيبي كما في قصة "نحيب"، واستعملت الكاتبة أيضا علامة التعجب والتأثر والاستغراب لإثارة المتلقي واستفزازه وإرباكه منطقيا ودلاليا وفنيا، كما مددت من الكلمات والحروف بصريا وأيقونيا للتعبير عن سخريتها وانفعالاتها وموقفها من الأحداث المروية كما في قصة" جرد"، وقصة" انتكاس".

ومن حيث التركيب النحوي، فقد اتكأت المبدعة على الانزياح عبر تخريب الرتبة النحوية تقديما وتأخيرا والتشويش عليها انتهاكا من أجل التأشير على التخصيص والتبئير والتشديد الدلالي والمقصدي.

واعتمدت الكاتبة أيضا على الجمل الفعلية في تركيب جملها وعباراتها القصيرة جدا مع توظيف الأفعال الماضية بكثرة للتدليل على انتهاء الأحداث المسرودة والتركيز على استذكار الوقائع المروية، والانتقال في بعض الأحيان إلى أفعال المضارعة للتأشير على راهنية المعطى وحاضر القصة.

ويلاحظ ظاهرة تتابع الجمل وتراكبها كرونولوجيا وتعاقبيا مع استخدام روابط الاتساق والانسجام والظروف الزمانية والمكانية: (كلما، أخيرا،ما تزال،عند ، بعد، كان، منذ ذاك الزمان،في البدء، الآن، فيما مضى، منذ أن،منذ ذلك الحين، بعد أيام، هي الآن،....) والروابط المنطقية(حتى، لم، لا...)، كما نلاحظ ذلك في قصة "انخداع" الخاضعة لتسلسل الجمل وتتابعها وتراكبها نحويا وسرديا ودلاليا:

" كلما مر أمام المتجر، تأسره ابتسامتها...

أخيرا قرر أن يتوسل إليها،

جثا على ركبتيه... تمرغ تحت قدميها...

استنفد كل كلمات الهوى، كل الآهات، كل

الاستعطافات...هي

ما تزال شامخة والابتسامة لا تفارق محياها

بقليل من الجرأة والتردد أراد مسك يدها...

سقطت دون حراك...

جرى كالفأر منكسرا، خجولا، مغتاظا من بلادته."13

وترد بعض القصص القصيرة جدا محملة بالنعوت والصفات والأحوال لكن باقتضاب وجيز بدون إسهاب ولا إطناب ولا تمطيط.

وتستعمل الكاتبة في قصصها التوازي تماثلا وتعادلا كما توظفه تقابلا وتطابقا للتعبير عن صراع الأنثى الذاتي والخارجي وتمزقها نفسانيا واجتماعيا بسبب التعذيبب الذاتي والتطهير السادي كما في قصة" انتحار/ اندحار":

"- 1/6 فتحت عينيها لتجد فراشها وثيابها تبللت...

* 2/5 ناضلت، قاومت، صارعت، لكن أعضاءها بردت...
* 3/4 حاولت التملص من موت رمت نفسها في أحضانه
* 4/3أحست أن ظلمة البئر تشبه القبر، فندمت...
* 5/2 رجلاها في الأعلى ورأسها في الأسفل...
* 6/1 قررت وضع حد لبشاعتها... رمت نفسها في البئر"14

ويلاحظ أيضا ظاهرة الالتفات من خلال انتقال الكاتبة من ضمير الغياب إلى ضمير المخاطب، ومن ضمير المخاطب إلى ضمير الغياب. بيد أن الالتفات الغيابي هو المهيمن في المجموعة القصصية:

" فيما مضى، كنت تمارس لعبتك المفضلة

في التزحلق فوق الكلمات

الآن...

صارت الكلمات تمارس لعبتها في

التزحلق من رأسك"15

هذا، وقد وظفت الكاتبة الخطاب الفانطاستيكي بكثرة بشكل مباشر أو غير مباشر عبر الترميز والتلميح والتلويح والتعريض والتكنية والاستعارات المجازية من خلال رصد التحولات الامتساخية التي تحيل على قوة الشر وعدوانية الحقد كما في قصة:" نحيب" التي تحول فيها النهر إلى ثعبان:

" عند منتصف الطريق، قرر أن يغير الاتجاه...

أيمينا أم يسارا يتجه؟... بعد شد وجذب، مال إلى اليسار...

لم يسر طويلا حتى وجد نهرا متدفقا يسد عليه كل الاتجاهات...في لمحة بصر،تحول النهر إلى ثعبان ضخم، يرفع رأسه لمبارزته....لم تنفع معه تعويذات المنجمين....لا الشجاعة العنترية....لا الحيل السندبادية.... لا المراوغات الدونكيخوطية... والحصانة التكنولوجية....

فتح الثعبان فمه، تلقفه دفعة واحدة....

وحده غراب كان شاهدا على المأساة...

منذ ذاك الزمان البعيد والغراب ينتحب."16

كما تتحول الكائنات البشرية في مجمل قصص المجموعة السردية إلى عناكب حيوانية تريد أن تفترس بني الإنسان ظلما وطمعا وجشعا:

" العناكب استوطنت زوايا البيت...

هو يبحث فقط، عن زاوية لا

يقع فيها فريسة للعنكبوت..."17

أو تتحول هذه الكائنات الآدمية إلى عقارب لادغة بسبب سمومها الحاقدة:

" كم كانت تعجبه العقارب

كم كان يتقن الدوران في اتجاهها...

فطنت له العقارب:

لدغة... لدغة... لدغة...

صار يدور في الاتجاه المعاكس لدورانها."18

هذا، ويتسم أسلوب الكاتبة بهيمنة السرد على حساب الحوار والمنولوج، كما تتسم الكتابة اللفظية بالتجانس اللغوي والتوازي الإيقاعي وتآلف الأصوات وتكرار المونيمات وتداخلها تآلفا واختلافا:

"" طاحونة

في البدء كان يدير الطاحونة

بمزاجه

الآن

بدأت الطاحونة تديره

بمزاجه"19

أضف إلى ذلك، فقد وظفت باحدة في هذه المجموعة صيغ التلغيز والمفارقة والسخرية والباروديا والتهجين للتعبير عن سخرية الكاتبة من فظاظة الواقع وتعرية منطقه اللاشعوري القائم على الاحتيال والمكر والخداع كما في قصة:" احذروا":

" أثقلت السلة المملوءة بالبضاعة النفسيه كاهله،

لم يعد يستطيع حملها، والطريق إلى السيارة لا يزال بعيدا.

فكر في حل... أخذ ورقة وكتب بوضوح:

" احذروا... في السلة أفاع"

بسرعة البرق ذهب لإحضاره السيارة،

عاد يبحث عن السلة التي اختفت...

وجد الورقة وقد كتب على ظهرها:

" تشكرات مروضي الأفاعي""20

وتظهر هذه السخرية المفارقة في انتقاد الكاتبة للواقع المتردي للتعليم والمدرسة على حد سواء، وآثار ذلك على الأسرة المنهوكة:

" ينظر مليا إلى رسم كاريكاتوري على جريدة ويبتسم

" حذاء الوزارة على رأس النيابة، حذاء النيابة على رأس المدرسة،

حذاء المدرسة على رأس الأب..." فإذا بحذاء الأب يكاد يقتلع رأسه:

 " نوض تحفظ المسخوط"21

وعلى مستوى التصوير البلاغي، فقد استعملت الكاتبة صورا سردية استعارية مجازية وصورا كنائية في غاية الغموض والتعقيد والترميز إلى درجة التجريد والتلغيز كما في قصة:" أين المفر؟":

" العناكب استوطنت زوايا البيت...

هو يبحث فقط، عن زاوية لا

يقع فيها فريسة للعنكبوت..."22

ومن ثم، فالكاتبة السعدية باحدة لها دراية كبيرة بفن القصة القصيرة جدا حيث استطاعت أن تتجاوز الأسلوب التقريري المباشر والمعاني السطحية الظاهرية ، واستبدال كل ذلك بأساليب أكثر ذهنية ورمزية وانزياحية تربك أفق انتظار القارئ وتؤسس ذوقه المعرفي من جديد.

ولا ننسى أن الكاتبة قد شغلت مجموعة من المستنسخات التناصية التي تعبر عن ثقافتها الموسوعية ومعرفتها الخلفية وإلمامها بالكتابات الأخرى تأثرا وتواردا وحوارا.

ومن هذه المستنسخات التناصية، نذكر: أين المفر؟ تسونامي؟ الغثيان، نيرون، بينيلوب، زرقاء اليمامة، روما،قابيل، دونكيشوط، عنتر، سندباد...فهذه الخطاطات التناصية تحيلنا على مجموعة من القنوات المعرفية المتعلقة بالفلسفة والتاريخ والآداب والأسطورة...

خاتمة:

وعليه، فالكاتبة السعدية باحدة في مجموعتها القصصية القصيرة جدا:" وقع امتداده... ورحل" تعالج قضايا الرجل والمرأة على ضوء الرؤية الامتساخية التي تدين من خلالها الكائن الإنساني الذي تحول في مجتمعنا الرأسمالي الآلي إلى حيوان ممسوخ منحط القيم كما تحول إلى آلة رقمية محنطة جامدة بلا قلب ولا روح.

ومن ثم، فقد عبرت الكاتبة عن هذه الرؤية الامتساخية التراجيدية بواسطة صور سردية رمزية ومجازية قائمة على التلميح والتجريد والتلغيز والاقتضاب وتجويع الكلمات مع إشباع المعاني، والاشتغال أيضا على تقنيات الباروديا والمفارقة الساخرة وفانطاستيك الحالات والتحولات.

وقع امتداده... ورحل

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى