الأحد ٣ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم مجدي علي السماك

سؤال في الليل

القرية يلفها ظلام. الدنيا صقعت. الضوء الوحيد كان خافتا ينسل من نار ما فتئت تهس وسط دخان. فوق النار إبريق فيه شاي راح يئز. دخان رمادي ينتشر، فتحمّر له عيون رابضة في رؤوس بالتعب تنوء. أفواه سعلت، صدور خشخشت وإلى الأمام انحنت وتثاقلت وهي تميل. واستمرت النار تهس والإبريق يئز وينفث بخاره حتى انصب في أكواب، وكان يقرقر وهو ينصب. وساد صمت عصيب.

ثم في مجلسها راحت أجساد تتقلقل، وأفواه فغرت ونشطت فيها الألسنة ثم للكلام تأهبت. بعض ردّ ظهره إلى الحائط ومدّ ساقيه وتنهد وهو يمدها.. بعض ظل متربعا. أجساد ما زال فيها إعياء مزمن وشقاء عصي لا يفتر. وجوه نحيلة مكوية بالموت قد اختلط في سمرتها الدخان بالغبار والظلام فغمقت.. فبدت كأنما قطعت الظلام بظلام أغمق لا ينحسر. ارتفعت الأذرع لمّا الأكواب دارت وبكسل تناولتها الأكف، والأصابع حولها التفت.. ودارت معها كلمات عفوية نمت وترعرعت إلى تعليقات وهي تنساب شجية فيها دفء حزين من أفواه إلى آذان. وصار دفء بخار الشاي في الأكواب يلفح وجوههم وهم يرشفون ليغريهم ويمدهم بكلام أكثر، كلام حزين يتحرر من صدورهم ليذاع مقبوضا كصمتهم فيه قسوة حين يشيع. وواحد منهم كان جالسا بعيدا عن النار يلوذ بالصمت وبه يعتصم.. ويمص أصابعه التي لسعها الشاي وهو يحاول انتشال لقمة خبز سقطت في قاع الكوب. وأقربهم إلى النار كان يقلّبها بعود سميك، وظل مرة ينفخ ومرات يهف عليها بذيل سترته الطويلة الملطخة بالسخام، ويفرك عينين دامعتين من دخان غزير يتصاعد ويتلوى وهو يسيح في ثنايا ليل شجي. ثم يضيف بلا تذمر ما يلملمه من عيدان حطب إلى النار كي تكفي إلى آخر السهرة.

ولمّا الأكواب شربت، جرّ الكلام كلاما فدفقت تعقيبات راحت تتلى وعلت وهي تتوالى..

 الله يرحمك يا حاج كنعان.. ويجعل قبرك واسعا مثل ملعب كرة القدم.. ليس كثيرا عليه.

 كان رجلا أصيلا.. ربنا يجعل قبره مثل بركة السباحة.. فيه طراوة.. إنه يستحق كل خير.

 دنيا.. رحمة الله عليه.. كان شهما.. سوف يبيض وجوهنا بين جميع الأموات.

 الحاج كنعان مات يا أولاد.. الله يرحمه.. سوف يرفع رأسنا في القبر.

 ربنا يبحبح قبره.. ويرحمه.. كان شجاعا.. مهيب الجانب.

  لو أني اعرف أين قبره؟ سأرش عليه مياه معدنية أو حتى مفلترة.. ليس خسارة فيه.

وقطع التعقيبات أبو شعبان، الذي يسرح كل يوم في الأسواق ليبيع الصابون على عربة صغيرة، ثم في المساء يؤوب إلى بيته وقد فتّ جسده إرهاق ممض. انتفض أبو شعبان في الحال، وهاج كمن سكب عليه ماء مغليا وراح يغرق المكان بضجّة لم يكن يتوقعها أحد من الساهرين، وصار يلّوح بيدين مفلطحتين فيهما شقوق كل شق منها يكفي لابتلاع خيارة، وأوشك متن كفه أن يصفع وجه المتربع إلى جواره وهو يلوّح ويصيح..

  يا ناس حرام عليكم. الحاج كنعان لم يمت. اقسم برب الكعبة لم يمت. حدا منكم سمع عن جنازته أو مشى فيها؟. هذه إشاعات، والله العظيم إشاعات. عيب عليكم والله عيب. هذا لا يرضي ربنا ولا يرضي عبيده.

وأيده في كلامه واحد من الجالسين في الجهة المقابلة وهو أبو جميل العربجي حين سأل.. هوّ يا ناس في ميت بلا جنازة؟. وراح في الحال يسانده في سؤاله أبو محمود الشحاذ الذي كان أيام زمان يعمل مغنيا في الأفراح.. ولمّا الزمن عليه جار صار يقف طوال اليوم قرب السوق يمد يده ليستجدي المارة، وبسخاء يدعو لهم وللأغنياء منهم بكثرة المال ولا يدعو لنفسه ولا حتى بدرهم واحد.. جزم إنه ذهب إلى المقبرة ولم ير فيها أي قبر جديد.. إذن يا جماعة لا يوجد أي ميت طازج.. حد الله ما بيني وبينكم. لماذا لا تسألوا أبا صبري؟

وارتفع صوت خشن يشبه الطرق على برميل فارغ فيه بحة كئيبة، ليقول في سخرية لاذعة ويؤكد أن المرحوم مات ثم غير رأيه لأن القبر كان ضيقا، والمرحوم طوال حياته يحب البراح. ثم تابع في جد كبير كسا ملامحه وألهب قلبه قبل أن يشعل حنجرته ليؤكد إن الحاج كنعان مات تحت الركام.. ولم يستطع أحد انتشال جثته.. لأنهم كانوا يقصفون كل شيء.. ألا تعرفون طبع الصهاينة؟.. أما أمركم عجيب!.. اسألوا أبا صبري!

وصوت معلول تلاه فيه أنّات علا فجأة وصار في انفعال واضح وتوتر أوضح يخاطب الجمع، بأنه في المعارك القادمة يجب على كل ميت أن يدّبر نفسه.. وينتشل نفسه بنفسه من تحت الركام ويخرج.. ويدخل قبره لوحده بلا أي تعب للآخرين من حوله.. وربما وقع في الحرام لمّا قال بلا جنازة وشكليات وكلام فارغ.. ومن الأفضل أن يبحث الميت بنفسه عن ماء يغسل به جثته ثم يكّفنها ويدخل قبره بقدمه اليمنى، ويتمدد فيه كما يشاء وأنّى شاء، وبمقدوره إذا أراد وهذا حق له في قبره أن يضع ساقا فوق ساق.. والحي أبقى من الميت يا ناس.. يا روح ما بعدك روح.. آه.. ما في بعد الصراحة.. كلامي ما فيه زعل.

استمر النقاش يدور ليمتد ويصخب وهو يطول، فامتدت معه السهرة وطالت فنالت من مشاعرهم الآسية التي ما زالت حزينة رغم وقف الحرب.. ومداولات تترى في المكان ظلت تصخب وتغلي وهي تغلو وتفيض حتى اضمحلت في خمول، ثم هبت وراءها تعليقات مضادة لا هوادة فيها أخذت تبتلع في طياتها كلمات عابرة تولد دون أن يحفل بها أو بقائلها أحد.

ولمّا ملّوا كلامهم الممجوج وعافوا ما فيه من تكرار مقيت لازمهم منذ بداية السهرة.. عندئذ رحلت عيونهم وأفواههم إلى وجه أبي صبري صياد السمك.. الذي أمضى أربعين عاما من حياته في البحر وصار يتطلع إلى الخمسين.. وقد خبر البحر إلى أن خبره البحر، حتى إن الأسماك كانت تستمتع وهي تموت في شباكه وبين يديه. وكل الساهرين راحوا تباعا يلحفون إلحافا وهم يلقون على أبي صبري أهم سؤال جابهوه في حياتهم، وقد يجابهونه في مماتهم..

  تكلم يا أبا صبري.. أنت الوحيد الذي مشى في جنازة الحاج كنعان. هل الحاج كنعان مات؟

وكان أبو صبري غارقا في أساه على غير عادته صائما عن الحديث منذ أول الليل. تنحنح أبو صبري وهو يعتدل وراح يجري ببصره ليمسح به وجوه الساهرين، كأنما ليتأكد من مدى جدية صمتهم الذي بالتدريج بدأ يعم. ثم حدق أبو صبري قليلا إلى وجه الرجل النائم إلى جواره والذي كان يشخر ويمط شخيره، وقد تدّلت رأسه في حجره بين ركبتيه وصارت تنتفض وهي تتأرجح دون أن تثبت في مكانها فوق كتفيه، فقرص أبو صبري أذن الرجل وكاد يشرمها لكثرة ما شدّها كي ينبهه ليكف عن الشخير. ثم تفرغ للكلام..

  هذه ليست أول مرة يا جماعة يموت فيها الحاج كنعان. فقد مات قبل ذلك ست مرات.. وأنا قد مشيت في معظم جنازاته.. وفي كل جنازة له كان يقف وينتصب فجأة على النعش، وسط الطريق إلى المقبرة.. ثم يبدأ في شتم وزجر المشيعين، ويقفز عن النعش ويلاحقهم ويرجمهم بالحجارة بإحدى يديه، واليد الأخرى ممسكة كفنه خشية أن يسحل أو يفلت فتظهر عورته. وفي آخر جنازة له قبل عدة سنوات صحا عندما مددوه في القبر قبل أن يطمروا عليه التراب.. وقام حينئذ الحاج كنعان من القبر وصار بهمّة يبصق على الحاضرين.. الذين تركوه وهربوا هلعين غير مصدقين ما تراه أعينهم.. كثيرة هي المرات التي ظن فيها الناس أنه مات.. حتى اعتقد بعضهم أن عزرائيل لم يعد يجرؤ على الاقتراب منه.. والبعض شك بأنه ربما قد عقد صفقة مع عزرائيل. ولكن في الأيام الأخيرة ضعف الحاج كنعان وضؤل جسده لأنه هرم وأتت عليه السنون، وأنا استغربت عندما شاهدته قبل الحرب على غزة بعدة أيام..وكان بالإمكان وضعه في علبة حلاوة فارغة أو حتى في علبة سردين، لصغر جسده الذي انكمش.

وتهلل الواجمون وتكلموا.. فسكت أبو صبري.. وقال له أحدهم في قلة ذوق أنت ابتعدت عن الموضوع يا أبا صبري.. نحن لا نسأل عن ميتات الحاج كنعان السابقة.. نحن نريد أن نعرف الآن هل الحاج كنعان مات أثناء الحرب أم لم يمت؟ وتبعه أصوات أخرى راحت في الحاف شديد تسأل..

 هل شاهدتهم يا أبا صبري وهم ينزلونه في القبر؟
 هل روح الحاج كنعان طلعت أم لا؟
 هل أخرج أحد الناس كل الجثث من المقبرة ليفتش عن جثة الحاج كنعان؟

تثاءب أبو صبري.. وتسارعت أصابعه على حبات سبحته الطويلة التي ربما فيها مليون حبه.. وراح يكمل كلامه وقد استتب الصمت وكان قد انتهى تماما من تثاؤبه..

 بينما كنت أشارك في جنازة الحاج كنعان الأخيرة.. وبينما كانت الدنيا في عزّ الحرب.. وكانت الطائرات تحرث أجساد الناس.. في هذه الأثناء سقط صاروخ على النعش.. فهرب الجميع مذعورين. لذلك لا أعرف ماذا حصل بعد ذلك.. لكنني سمعت واحد من الناس أخذ يقول فيما بعد إن النعش كان عليه نصف جثة الحاج كنعان.. ونصف الجثة الآخر لم يعثر عليه أحد.. البعض يظن أن نصفه بقي تحت الردم. ربما الصهاينة سرقوا نصفه المفقود.. وبعض يشك أن الكلاب المسعورة أكلته.. الله أعلم.. مجرد إشاعات.. طبعا.. ذمتي ليست واسعة.
ثم في لهفة اندلعت همسات استحالت إلى تساؤلات فيها شك يبحث عن يقين.. - طالما أن الصاروخ أصاب النعش، إذن من المحتم أن الحاج كنعان مات؟ أليس صحيحا؟ - آه.. صحيح!.. حتى لو نصف جثة؟.. هذا موت أكيد!.. تكلم يا أبو صبري.. أسوق عليك النبي!

تململ أبو صبري.. وراح يحلف اليمين تلو اليمين على أنه لا يعرف شيئا أكثر مما قال. وقال إنه لا يخبئ عنهم أي شيء يعرفه. وطلب من أحدهم أن يصب له كوبا شايا ساخنا.. ثم في ثقة أردف إن هذه ليست أول مرة يظن فيها الناس أن الحاج كنعان قد مات.. وقد يظهر في أي وقت.. ما حدا يستعجل يا جماعة.

ولمّا الليل طال والسهرة أوشكت تنفض.. تعبت رؤوسهم وثقلت حتى لم يشعروا فيها وهي تدوخ وتميل فوق رقابهم.. فقاموا.. وآب كل واحد منهم إلى بيته.. دون أن يغيب عن ذهنه السؤال الذي بدأ يكبر مع كل خطوة بطيئة مترنحة فيها خدر.. هل الحاج كنعان مات؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى