الأربعاء ١٣ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم محمد أفقير

التلقي والتأويل عند أمبرطوإيكو

أمبرطوإيكو (Umbertoeco)، سيميائي وروائي إيطالي، من المساهمين الكبار في تطوير مجال السيميائيات، وتأويل مختلف الأنظمة الدالة، له بالاضافة إلى أعماله الروائية الرائدة- مجموعة من الكتابات النقدية، وقد ترجم بعضها إلى العربية مثل: operaAperta (الأثر المفتوح)(1)، و(LectorinFabula) القاريء في الحكاية"(2) وLes limites de l’interpretation (حدود التأويل)(3). بالاضافة إلى مجموعة من الدراسات المنشورة في المجلات.

يعالج أمبرطو إيكو في جل كتاباته العلاقة بين النص والقارئ، محاولا إبراز النشاط التأويلي الذي يتطلبه النص، وإظهار مختلف أطوار المغامرة التأويلية التي يدخل فيها المتلقي في كل نشاط قرائي، وبهذا المعنى فإن منهج إيكو يندرج بشكل أو بآخر ضمن ما يعرف بتداوليات النص أو جمالية التلقي، وهو ما أكده بقوله (حينما كنت منشغلا ما بين عامي 1958 و1962 إلى تأليف كتابي opera Aperta (الاثر المفتوح)، كان يشغلني الإلمام بالكيفية التي يتسنى لعمل فني عبرها أن يفترض تدخلا تأويليا (...) والحال فقد أدركت متأخرا أنني طالما اشتغلت في التداولية بلا معرفة، أقله في ما يدعونه علم تداول النص أو جمالية التلقي"(4)

إن منهج أمبرطو إيكو (لا يقدم لنا نموذجا تخطيطيا لتطبيقه بحروفه على النصن بل على العكس من ذلك، يقترح علينا كيفية مخاطبة النص ومساءلته وكيفية الإمتزاج به لإخراجه من جموده ودفعه إلى إنتاج الدلالات المتوارية)(5)

لهذا فقد جاء منهج إيكو على شكل مفاهيم وأدوات إجرائية تساعد المحلل / المؤول على ولوج عوالم النص المدروس.
مفهوم الانفتاح:

لتسليط الضوء على مسألة (التأويل) وما يحيط بها من تعقيدات في الدلالة والإشتغال، خصص لها أمبرطو إيكو أحد أهم كتبه الأولى،"الأثر المفتوح"، وقد ركز فيه على مقولة "الانفتاح" الناتجة عن التفاعل الذي يحدث بين المتلقي و الأثر الفني، ولعل أول مرة يتم فيها الإستعمال المنظم لهذا المفهوم حسب الدكتور عبد الرحمن بوعلي في مقدمة ترجمته للكتاب هي "المرة التي كتب فيها أمبرطو إيكو أول محاولة نقدية ونظرية هدف منها إرساء قواعد هذا المصطلح من خلال المداخلة التي قدمها في المؤتمر العلمي الثامن عشر للفلسفة عام 1958، والتي كانت حول "مشكلة الأثر المفتوح"، وقد كانت هذه المداخلة بمثابة البذرة التي ستشكل كتابه Opera Aperta الأثر المفتوح".

ولتوضيح مفهوم الانفتاح قدم إيكو مجموعة من الأمثلة، سواء من داخل الأعمال الأدبية أو القطع الموسيقية، فإذا استثنينا علامة المرور الطرقية - وما شابهها - التي "لا يمكن إلا أن ننظر إليها نظرة واحدة وموحدة، كما أنها لا تقبل التأويل الشخصي، وإلا نزعنا عنها - كما يقول أمبرطو إيكو حتى تعريفها"(6) فإن "كل أثر فني حتى وإن كان مكتملا ومغلقا من خلال اكتمال بنيته المضبوطة بدقة، هو أثر "مفتوح" على الأقل من خلال كونه يؤول بطرق مختلفة، دون أن تتأثر خصوصيته التي لا يمكن أن تختزل، ويرجع التمتع بالأثر الفني إلى كوننا نعطيه تأويلا ونمنحه تنفيذا. ونعيد إحياءه في إطار أصيل"(7)

لكن إيكو رغم هذا فهو لا يقول بالتأويل المطلق للنصوص الذي لا يتقيد باي شيء، فهو وإن كان يؤكد على حرية المتلقي في تعامله مع النصوص ومساءلتها، يؤكد في الوقت ذاته على ضرورة التقيد بالمؤشرات التي تتيحها النصوص من جهة، وبالحدود التي تسمح بها من جهة ثانية، لأن النص لا يمكنه أن يعني أي شيء آخر المطاف.
المؤول والسيميوز(8)

اتجه إيكو بعد مرحلة "الأثر المفتوح" إلى توسيع إطاراته النظرية، ومدها بفاهيم وأدوات جديدة، باستثماره العميق للأبحاث السيميائية واستفادته من مجموعة من التخصصات والعلوم، وهكذا فبالاضافة إلى سيميائيات غريماس وبيرس التي أغنت منهجه بإمكانات منهجية جديدة، فقد استفاد أيضا من أبحاث الشكلانيين الروس، والأبحاث اللسانية والمنطقية والانتروبولوجية، والابحاث السيميائية لياكبسون وبارط، وغيرها.

هذه التخصصات والحقول المعرفية المتباينة وهبت منهج إيكو مجموعة من المفاهيم والأدوات الاجرائية التي لم تتوفر له من قبل، وأهم هذه المفاهيم، مفهوم المؤول Interpretant الذي استلهمه من بيرس وعمل على تطويره في كتابه "القارئ في الحكاية"، وفي أغلب كتبه اللاحقة.

يقول بيرس في تعريفه للعلامة (إن علامة، أو ماثولا Representamen، هو شيء يحل بدلا عن امرئ أو شيء ضمن علاقة ما، أو تحت عنوان ما، وهو معد لكي يخاطب أحدا، أي يخلق في ذهن هذا الشخص علامة متعادلة، أو علامة ربما كانت أكثر اتساعا) (9)

إن مفهوم المؤول - بناءا على هذا التعريف - عبارة عن سلسلة من العلامات المختلفة التي تتولد عن علامة أولى، والتي تؤدي بدورها إلى توليد علامات لا متناهية، ويمثل لهذا التعريف بالشكل التالي:

الموضوع

إن المؤول لدى إيكو ليس مجرد علامة تشرح علامة أخرى، كما أنه ليس مرادفا لكلمة ما، أو ترجمة لها، إنه مفهوم يتسع ليشمل مختلف ما يبعثه في ذهن المؤول interpéte من صور وأوصاف، ونصوص تتناسل فيما بينها داخل نسيج السيميوز simios في سلسلة غير محددة ولا نهائية من الامكانات التأويلية.

الهرمسية والتأويل Hermetisme: (10)

يلتبس مفهوم التأويل عند بيرس مع العديد من طرق القراءة التي تتعامل مع النص بحرية مطلقة، ويجمعها إيكو تحت إسم الهرمسية، وقد ركز إيكو لتمييز التأويل البيرسي عن مختلف أنواع التأويلات الهرمسية على الخاصية الأساسية لهذه التأويلات الهرمسية المتمثلة في (المهارة غير المراقبة في الانزلاق من مدلول إلى مدلول، ومن تشابه إلى تشابه، ومن ترابط إلى آخر (...) ينطلق من علامة محددة، مارا بسلسلة تترابط فيما بينها إلى أن تنتهي إلى علامة لا علاقة لها البتة مع التي ثم الانطلاق منها) (11)

ولتوضيح هذه الظاهرة أكثر يقدم إيكو هذا الشكل مفترضا سلسلة من الأشياء: أ، ب، ت، ث، ج، قابلة للتحليل بالخصائص التالية: أ، ب، ت، ث، ج، ح، خ، د، وتشترك هذه السلسلة في بعض الخصائص التي تقل إلى أن تنعدم:
أ ب ت ث ج

أ ب ت ث ب ت ث ج ت ث ج ح ث ج ح خ ج ح خ د

يبدو من خلال الخطاطة أنه (إذا كان يجمع بين أ وب وت وث بعض من الخصائص، فإن أ وج لا يجمع بينهما في النهاية أية خاصية، اللهم إلا انتماؤهما لنفس السلسلة من الأشياء، فبوصولنا إلى ج تختفي كل علاقة بـ أ التي انطلقنا منها) (12)

والنتيجة التي يصل إليها إيكو هي اختلاف التأويل البيرسي عن مختلف التأويلات الهرمسية.
التفكيكية والتأويل:

لقد خلف لنا التاريخ -حسب إيكو- تصورين كبيرين مختلفين للتأويل، التصور الأول يرى بأن تأويل نص ما يعني الكشف عن الدلالة التي أرادها المؤلف، في حين يرى التصور الثاني أن النصوص مفتوحة في وجه كل التأويلات، ويرى أمبرطو إيكو أن الموقف من النصوص (يعكس موقفا مشابها من العالم الخارجي، فالتأويل هو تفاعل مع نص العالم، أو تفاعل مع عالم النص عبر إنتاج نصوص أخرى، فشرح الطريقة التي يشتغل من خلالها النظام الشمسي، استنادا إلى قوانين نيوتن، يعد شكلا من أشكال التاويل، تماما كما هو الادلاء بسلسلة من المقترحات الخاصة بمدلول نص ما) (13)

إذا كان التأويل البيرسي مختلف جذريا عن الهرمسية -كما تقدم- فإنه حاضر ضمن ما تدعو إليه التفكيكية التي تنظر إلى النص باعتباره (آلة تنتج سلسلة من الاحالات اللامتناهية)(14)، والنص في تصور دريدا يشكو من غياب المرجع، أو الشيء المحال عليه، لكن القول بهذا الغياب لا يعني بالضرورة -حسب إيكو- أن العلامة محرومة كلية من مدلول مباشر، ويرى إيكو بأن غاية ما يسعى إليه دريدا هي تأسيس ممارسة فلسفية أكثر منها نقدية وأدبية، فهو لا يرمي إلى فهم النص بالدرجة الأولى، بل يتحدى تلك النصوص المرتبطة بمدلول محدد ونهائي طامحا إلى القضاء على ميتافيزيقا الحضور الوثيقة الصلة يتصور للتأويل يتأسس على وجود مدلول نهائي.

إن السيميائيات وإن كانت تعترف بوجود تأويلات متعددة للنص الواحد، فهي تسعى إلى الخروج من هذا اللاتحديد بتركيز المحلل/ المؤول على التشاكلات التي يتأسس عليها النص، على عكس المحلل التفكيكي الذي يشتغل على النص كفضاء لتفتيت المعنى وتشظيه.

إن التفكيكية حسب غريماس وكورتيس في معجمهما تؤدي (إلى بعثرة النص، بحيث يصبح تشظي المعنى لا نهائيا، فتصبح مجموعةمن التأويلات ممكنة بالتساوي، ويظهر النص دائم التناقض مع نفسه، مما يحول النشاط التأويلي إلى مقاربة حدسية شبه انطباعية) (15)

خاتمة:

إن أمبرطو إيكو وهو يعالج العلاقة التي تربط بين النص والمتلقي، من خلال البحث في الامكانيات السيميوطيقية للنص الأدبي، لم يحرص على إعطاء الدور للقارئ على حساب النص، كما لم يقبل أن تكون الكلمة الأولى للنص أو لمؤلف العمل لأن القارئ يكون (متدخلا منفصلا عن صنع الأثر الأدبي والجمالي والدلالي)(16)، ولهذا فقد كان أمبرطوإيكو ذكيا في تعامله إزاء موجة نظرية التلقي وكل الاتجاهات التي تتحدث عن التجاوب والتأويل، لأنه لم يعارض أي اتجاه مهما كان تطرفه بشكل مباشر)(17).

المراجع والمصادر

 أمبرطو إيكو، "الأثر المفتوح"، ترجمة عبد الرحمن بوعلي، مطبعة دار النشر، الجسور. وجدة. ط1/ 2000.

 أمبرطو إيكو، "القارئ في الحكاية"، ترجمة أنطوان أبو زيد، ط1/ 1996.

 أمبرطو إيكو، "التأويل بين السيميائيات والتفكيك"، ترجمة وتقديم سعيد بنكراد، منشورات المركز الثقافي العربي، ط 1/ 2000.

 جيرار دولودال، "السيميائيات أو نظريات العلامات"، ترجمة عبد الرحمن بوعلي، مطبعة النجاح الجديدة ـ الدار البيضاء، ط 1/ 2000.

 رشيد الإدريسي، "سيمياء التأويل: الحرير بين العبارة والإشارة"، مطبعة النجاح الجديدة، ط 1 / 2000.

 المناهج المعاصرة في ضوء الدراسة الأدبية" (تأليف جماعي)، مطبعة انفوبرينت، ط 1 /1999، منشورات وحدة النقد الأدبي الحديث: مناهجه وقضاياه، كلية الآداب، فاس، ظهر المهراز.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى